تطور العلاقة التاريخية بين اللغتين العربية والروسية


رضي السماك
2022 / 7 / 6 - 17:49     

والروسية من أكثر لغات العالم انتشاراً وعطاءً في أعمالهما الإبداعية، وكلتاهما من اللغات الست الأساسية المعتمدة في الأمم المتحدة، ومع أن العربية لا تقل عطاءً في نتاجاتها الإبداعية عن الروسية وبرز ذلك منذ بواكير النهضة العربية الإسلامية، إلا أن نصيبها من جوائز نوبل أقل من الروسية، ذلك بأن ما يُترجم من العربية إلى لغات العالم من أعمال رائدة أقل من الروسية. علماً بأن ثمة ألف عام تقريباً يفصل بين نشأة اللغتين، فالعربية تعود كتاباتها إلى القرون الأولى من الألفية الأولى،فيما الثانية تعود نشأتها إلى أواخر الألفية ذاتها، ولم تتبلور إبداعاتها إلا في القرن التاسع عشر. وتنحدر الروسية من مجموعة اللغات السلافية التي تنقسم إلى "سلافية غربية" : تشيكية وسلوفاكية وبولندية وصربية، و"سلافية جنوبية": بلغارية وكرواتية ومقدونية وصربية وسوليفنية، و "سلافية شرقية": الروسية والأوكرانية والبيلوروسية.
أما اللغة العرببة فهي لغة سامية تعود جذورها إلى اللغتين الآرامية والأكادية اللتين سبقتاها في النشأة، لكن عالم اللغة البريطاني نيقولاس أوستلر يرى أن جذور العربية تمتد إلى القرن الرابع ق.م . ومع أن أتصال الروسية بالعربية بدأ منذ نشأة الأولى أواخر الألفية الأولى،سيما في العصر العباسي،من خلال العلاقات التجارية حيث أستعارت الروسية ألفاظاً عربية، فإن أواخر القرن التاسع عشر هي بدايات تدفق مفردات عربية عليها من لغات اوروبيةأشتقتها بدورها من لغتنا. وحروفنا العربية 28 حرفاً، بينما الروسية 33 حرفاً،وحسب الأستاذ اللغوي العراقي د. عبد الله الجبوري فإن ألفاظ العربية تصل إلى ستة ملايين وستمائة وتسع وتسعين لفظاً(مجلة آداب المستنصرية، العدد الرابع، 1979) وهو رقم موضع شك لايوضح الجبوري كيف أستخلصه بهذه الدقة الرقمية، وهذا ما أكده لنا استاذنا بدوره اللغوي اللبناني د. إميل يعقوب . أما عدد مفردت الروسية فلا يتجاوز مئتي ألف مفردة.وبظهور الاستشراق الروسي، وخصوصاً في عهد بطرس الأكبر، جرت أول ترجمة للقرآن الكريم عام 1716م إلى اللغة الروسية من اللغة الفرنسية، وكانت ترجمة رديئة. أما في عهد كاترين الثانية فجرى التواصل مع العربية بشكل أوسع، إذ صدر مرسوم يقضي بتعلم العربية بجانب اللغتين التترية والفارسية في الأقاليم الإسلامية الجنوبية. وتزايد إدخال الحرف العربي في الطباعة لوروده في اللغة التركية،كما جرى طبع عدد من الكتب العربية والإسلامية،ومرد ذلك تزايد أهتمام روسيا بشؤون الامبراطورية العثمانية التي دخلت معها حينئذ في حروب. على أن العصر الذهبي لتواصل اللغتين جرى في أعقاب ثورة 1917 الاشتراكية.
وقد لعب المستشرق الروسي المخضرم كراتشكوفسكي،شيخ المدرسة الاستعرابية، دوراً مهماً في أهتمام الروس باللغة العربية والاستشراق،إذ سبق له أن حصل على منحة في العهد القيصري عام 1908 إلى الشرق العربي، وتمكن بفضل هذه المنحة من تعميق دراساته العربية والتعرف على اللهجات العربية والأدب العربي، وواصل مهمته هذه بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917، وهو صاحب أول ترجمة ناجزة رفيعة المستوى للقرآن الكريم من العربية إلى الروسية، ومازالت أجيال متعاقبة من المستعربين ودارسي العربية مدينة له في هذا الصدد.وتوضح إحدى تلميذاته المستعربة آنا دولينيا بأنه المكتشف الحقيقي للأدب العربي الجديد بين المستشرقين الغربيين، وهو مدشن الرواية التاريخية العربية. وفي مقال له عام 1922 في مجلة "الشرق" عن نشوء وتطور الأدب العربي الجديد أستطاع توقع الأماكن العربية التي سيشهدها هذا التطور وهي مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وقد أثبتت الحياة الأدبية في هذه البلدان صحة توقعه. كان كراتشكوفسكي الملهم والاستاذ في نشر الأدب العربي بين القراء الروس.
( أنظر: من تاريخ الاستشراق في الأتحاد السوفييتي للمستعربة آنا دولينا، سلسلة كتب الثقافة المقارنة ، الاستشراق، العدد الثاني، بغداد، شباط 1987 ص60- ص 62).
كما كان للعامل الأيديولوجي دور محوري في اهتمام الأتحاد السوفييتي بالمنطقة العربية؛ للتصدي للنفوذ النفوذ الغربي فيها الذي كان يهدد أمنه على مقربة من حدوده، ولهذا الغرض عينه، وخصوصاً بعد بروزه كإحدى القوتين العظميين بعد الحرب العالمية الثانية،أخذ يمد حركات التحرر الوطنية واليسارية والدول العربية الصديقة له بمنح دراسية في جامعاته في مختلف التخصصات حتى عشية أنهياره، وبالمثل ظلت آلات الطبع العربية فيه لا تكل عن إصدار مئات الكتب الروسية المترجمة إلى العربية بل آلاف منها، ورغم أزمته الاقتصادية لم تنقطع طباعة الكتب العربية المترجمة من الروسية إلا بعد أنهياره.
وبقيام النظام الرأسمالي الجديد على أنقاض النظام الاشتراكي المنهار بدا أن كل شيء قد أنقلب رأساً على عقب، فتراجع أهتمام النظام الجديد باللغة العربية، وتوقفت آلاته الطباعية التي لم تهدأ طوال نصف قرن عن الترجمة من الروسية إلى العربية وبالعكس، بما في ذلك روائع الأعمال الأدبية لكلتا اللغتين، وأضحت نخبة أفضل المترجمين العرب في موسكو بلا عمل ولاذت أغلبيتها لأعمال اخرى، وأمست مؤلفات روسية جديدة في غاية الأهمية عن أسرار الحقبة السوفييتية لا تجد من يترجمها، وكذلك ما يصدر من جديد عن التراث الأدبي الروسي أو نتاجات أدبية إبداعية جديدة. والأنكى من ذلك أنقطع المترجمون العرب المقيمون في أوطانهم العربية عن الترجمة لغياب الدعم عنهم من حركاتهم السياسية جراء أوضاعها المالية الموالية، وفي الوقت الذي ظل الروس الملمين باللغة العربية محتفظين بقوة إلمامهم بها بشكل مدهش-نطقا وكتابة- فإن الغالبية العظمى من خريجي الاتحاد السوفييتي، ونظراً لعدم أكتراثهم بالتواصل مع اللغة والثقافة الروسيتين،حيث تبخر ألمامهم بها حتى ما دون الحد الأدنى ، والأغرب من ذلك أنه في الوفت الذي لا يوجد في العالم من حملة الدكتوراه من أنقطع عن اللغة التي كتب بها رسالتها، فإن من بين العرب الذين هجروا صلتهم باللغة الروسية حملة دكتوراه ما فتئوا يتباهون بها ويحرصون على تسويق كتبهم و مقالاتهم في الصحافة العربية بأن تسبق أسماءهم الدال الدالة عليها !