اليسار والموقف من الحرب على أوكرانيا – الجزء 1

سيد صديق
2022 / 7 / 4 - 15:25     


عشرات الآلاف من القتلى والمصابين، وملايين من اللاجئين والنازحين، وارتفاع أسعار المواد الغذائية حول العالم، وتأثيرات اقتصادية مروعة على ملايين من البشر.

شهد اليسار في العالم انقساماتٍ واسعة حول الموقف من الحرب التي شنها بوتين على أوكرانيا، ولا تزال المواقف المختلفة قيد النقاش بعد مرور أكثر من أربعة أشهر من الحرب. تتراوح المواقف بين إدانة روسيا والتقليل من دور ومسئولية الناتو، ومن ناحية أخرى التأييد الضمني أو الصريح للغزو الروسي. سنتناول في هذا المقال، المُقسم إلى أجزاء، الجانب الأول من هذه المواقف.

مسئولية الناتو
من أبرز هذه المواقف في صفوف اليسار هو موقف اليساري اللبناني المخضرم جلبير أشقر، أحد أبرز الماركسيين العرب. يقف أشقر بحزمٍ ضد حرب بوتين على أوكرانيا، ونتفق معه في الكثير من النقاط العاجلة التي طرحها في مذكرةٍ كتبها بعد أيامٍ قليلة من شن الغزو، مثل رفض التدخل العسكري المباشر، والانسحاب الفوري للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، بما فيها تلك التي غزتها روسيا في 2014، وفتح الحدود أمام اللاجئين، إلخ، لكن هناك نقاط أخرى مثيرة للجدل، مثل موقفه من شحن الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، ومن مسألة فرض العقوبات الغربية على روسيا.

يؤيد أشقر شحن الأسلحة الغربية إلى “الدولة الأوكرانية”، ويصف الأمر بأنه “واجب أممي”، داعيًا اليسار إلى دعم هذه الخطوة. قد يكون هذا الموقف صائبًا إذا كان حلف الناتو، بقيادة الولايات المتحدة، طرفًا محايدًا لا مصلحة له إلا أداء “الواجب الأممي”. لكن الأمر ليس كذلك. لم تنشب الحرب بين ليلةٍ وضحاها، بل نتيجة تنافس توسعي استمر طيلة سنوات، بين روسيا، التي تسعى لترسيخ نفوذها السياسي والاقتصادي غربًا في الدول المحيطة، والناتو ذي القيادة والهيمنة الأمريكية، الذي يسعى لإحكام هيمنته شرقًا (كمثال على التوسع الغربي، في وقت سقوط سور برلين، كانت القوات الأمريكية في ألمانيا الغربية تُقدَّر بـ200 ألف، واليوم هناك قوات تُقدَّر بحوالي 330 ألفًا فقط في الجناح الشرقي للناتو الممتد من دول البلطيق شمالًا إلى بلغاريا جنوبًا).

هذا الموقف ينزع حلف الناتو من السياق السابق على الحرب، وكأنه فوجئ بهذه الحرب، أو وكأنه لم يكن طرفًا رئيسيًا في التصعيد العنيد وصولًا إلى 24 فبراير. إذا كان بوتين هو من شنَّ هذه الحرب الإجرامية، فهي لا تخلو من مسئولية الناتو أيضًا. هذا مثلًا ما عبَّر عنه الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج، حين قال: “بوتين يريد ناتو أقل، وما يحصل عليه هو المزيد من الناتو”. يقع أشقر بهذا الموقف في خطأٍ فادح، بل فخٍ إن جاز التعبير، مقلِّلًا من دور الناتو في هذا الصراع، الذي لا يعتبره من الأصل صراعًا بين إمبرياليتين على أوكرانيا، بل نضالًا تحرريًا ضد الهيمنة الروسية. نعم، هذا من جانب الشعب الأوكراني، لكن ماذا عن أسلحة الناتو محل التساؤل هنا؟

من المفهوم أن يتخذ الاشتراكيون موقفًا يهدف إلى إنهاء هذه الحرب بهزيمة بوتين، بل وإسقاطه أيضًا، لكن إذا حدث ذلك بأسلحة الناتو والولايات المتحدة لن يكون ذلك انتصارًا. لا يهدف الدعم الأمريكي ودعم الناتو إلى الدفاع عن استقلال أوكرانيا حتى ندعو إلى تأييد شحن الأسلحة الغربية إلى هناك، تمامًا مثلما لم يكن هذا الدعم للقوات الكردية في سوريا يهدف إلى استقلال الأكراد. لم يجلب هذا الدعم تحررًا قط، لأن هدفه الرئيسي والحصري هو ترسيخ مصالح الإمبريالية الأمريكية -وهذا الوحش الجريح الذي خفت نجمه، بالأخص في أعقاب الانسحاب من أفغانستان، لا يقل حرصًا من بوتين على فرض الهيمنة على أوكرانيا.

ماذا عن العقوبات؟
أما في ما يتعلق بالعقوبات، يجادل أشقر بأن على اليسار في وجهة نظره “ألا يدعم العقوبات، ولا يطالب برفعها”. هذا يعني أن على اليسار أن يكون محايدًا في مسألة العقوبات، والحياد ليس موقفًا في حربٍ ضروس كهذه.

ليست العقوبات أداةً أقل دموية في الحرب. صحيح أنها لا تعني قتل الآلاف مباشرةً على يد آلة حرب فتاكة، لكنها تعني إفقار الملايين من المواطنين الروس. ومن يطَّلع، على سبيل المثال، على تصريحات وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، سيدرك على الفور أن العقوبات أداةٌ مدمرة في هذه الحرب. قال لومير في مطلع مارس الماضي: “نحن نشن حربًا اقتصادية ومالية على روسيا. سوف ندفع الاقتصاد الروسي إلى الانهيار”. وفي الحقيقة، فإن فكرة الفصل بين الحرب الاقتصادية والمواجهة العسكرية المباشرة تتجاهل المنطق الذي تقوم عليه الإمبريالية برمتها؛ ألا وهو التكامل بين الصراع الاقتصادي والصراع الجيوسياسي.

لكن من سيتأثر بذلك حقًا؟ بدأت الدول الغربية بالتزامٍ باستهداف القلة الفاسدة شديدة الثراء (الأوليجارشية) الملتفة حول بوتين، لكن في غضون أيام معدودة تطور الأمر إلى هجومٍ أوسع على الاقتصاد الروسي، مما يؤثر على حياة قطاعات واسعة من الشعب الروسي نفسه. تعني أغلب العقوبات تأثيرًا قويًا على الروبل الروسي، وبالتالي تولِّد موجة من التضخم (وصلت ذروتها عند 17% ثم انخفضت منتصف الشهر الجاري إلى 16.7%)، وسوف تعني أيضًا ركودًا وفقدانًا للوظائف ونقصًا في السلع الأساسية. لقد اتخذ بوتين الكثير من الإجراءات المسبقة لحماية الأوليجارشية الروسية من تأثير العقوبات، وبالتالي ستؤثر هذه العقوبات بشكل أكبر على المواطنين الروس أنفسهم. وهنا لا يمكن أن يقف اليسار موقفًا محايدًا حيال ذلك.

إن العقوبات بصورةٍ عامة مُصمَّمة خصيصًا من أجل دفع الروس إلى تحويل غضبهم نحو بوتين، لكنها أيضًا قد تؤدي إلى العكس؛ أن يصطف المزيد من المواطنين الروس إلى جانب بوتين في التحامٍ عابر للطبقات (الفقراء والعمال جنبًا إلى جنب مع الرأسماليين الفاسدين والجوقة المتمحورة حول بوتين) ضد الغرب، خاصةً مع الدعاية الحكومية الروسية السائدة التي ترمي في هذا الاتجاه. وهذا على الأرجح هو ما يجري حاليًا، فقد كشفت استطلاعات للرأي في مطلع مارس أن 71% من المواطنين الروس يؤيدون سياسات بوتين، بل وقد ارتفعت النسبة في أبريل إلى 81.6%. من شأن ذلك أن يعطِّل الحركة المناهضة للحرب في الداخل الروسي، تلك الحركة التي من المفترض أن يعلِّق عليها اليسار الجذري أكبر آماله وجمَّ سعيه.

مثلما أن على اليسار أن يناهض حرب بوتين على أوكرانيا، والتوسع الغربي والتنافس الإمبريالي بين روسيا والناتو بقيادة الولايات المتحدة، أن يناهض بالقدر نفسه العقوبات الغربية على روسيا التي لن يتضرر منها أحد غير عشرات الملايين من المواطنين الروس. مثلما على اليسار أن يناهض قتل الآلاف من الأبرياء والزج بهم في حرب مفروضة عليهم، من البديهي أن عليه أيضًا مناهضة إفقار وتجويع الملايين في حربٍ يدفعون ثمنها بلا طائل.

هل هناك بديل؟
إن دعم الناتو لأوكرانيا بالسلاح لن يؤدي إلا إلى المزيد من تبعية أوكرانيا للناتو، أما من ناحية العقوبات، فعلاوة على ما أُشيرَ إليه سابقًا، ما من دليلٍ يُذكر تاريخيًا على أنها تؤدي إلى تغييرٍ سريع في السياسات، مثلما يتضح في حالة إيران وكوريا الشمالية على سبيل المثال. فما البديل إذًا؟

إذا كان الهدف هو تحرير أوكرانيا من الهيمنة عليها، سواء من إمبريالية روسيا أو إمبريالية الناتو والولايات المتحدة، فلابد أن يضع الاشتراكيون رهانهم في إنهاء الحرب على إضعاف كلتا الإمبرياليتين. وبالتالي لابد أن يقع هذا الرهان في المقام الأول على المقاومة الباسلة للأوكرانيين ضد الغزو الروسي، لكن أيضًا على الحركات المناهضة للحرب داخل روسيا ضد بوتين، وفي دول الناتو ضد طبقاتهم الحاكمة. وهناك بالفعل في دول الناتو تضافر بين الحرب والأزمة الاقتصادية التي يتحملها أغلبية السكان. فمع موجة التضخم العالمية، التي سجَّلت في الولايات المتحدة مثلًا أعلى معدل لها منذ 40 عامًا، مرَّر مجلس النواب الأمريكي في مايو الماضي حزمة مساعدات إلى أوكرانيا تبلغ 40 مليار دولار، وهو ما يفوق الإنفاق الفيدرالي الإجمالي على الإسكان وكذلك الصحة العامة.

لقد قامت بالفعل حركاتٌ لمناهضة الحرب داخل روسيا، وفي العديد من البلدان الأوروبية. ورغم الضعف النسبي لهذه الحركات مقارنةً مثلًا بحركة “أوقفوا الحرب” إبان حرب أفغانستان 2001، ثم حرب العراق 2003، فلا يمكن أن يكون هذا حائلًا دون الدفع إليها أو الرهان عليها. ليس هذا الرهان سهلًا، بل إنه طريقٌ شاق وطويل، لكنه الوحيد الضروري لتحرير أوكرانيا من تذيل الشرق أو الغرب. وعلاوة على ذلك، مع تآكل الهيمنة الأمريكية والأزمات التي تواجهها الرأسمالية على الصعيد العالمي، سيكون المستقبل مفتوحًا أمام المزيد من الصراعات بين القوى الإمبريالية التي ستقع بلدانٌ مثل أوكرانيا ضحيةً لها، وبالتالي ستكون هناك أهميةٌ قصوى لمثل هذه الحركات المناهضة للحرب.

إذا كان هذا الرهان بهذه المشقة، فلابد أن يتذكر الاشتراكيون العزلة الشديدة التي عانى منها أولئك الثوريون، أمثال لينين وتروتسكي وروزا لكسمبورج، قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى 1914-1918، حين دعوا جماهير الدول المتحاربة إلى النضال ضد طبقاتهم الحاكمة من أجل إنهاء الحرب، رافعين شعار “تحويل الحرب العالمية إلى حرب طبقية”. وبعد ثلاث سنوات فقط، أشعل رفض الحرب، مع الصراعات الطبقية المتنامية، ثوراتٍ اكتسحت الطبقات الحاكمة في روسيا وألمانيا والإمبراطورية النمساوية-المجرية وأنهت الحرب بالفعل.

إذا كان للموقف الاشتراكي، الساعي حقًا لاستقلال أوكرانيا عن التناحر الإمبريالي عليها، والجاد في مناهضة الإمبريالية، باعتبارها وليدة الرأسمالية والتنافس على الأسواق والنفوذ والهيمنة، أن يدعم شيئًا، فهذا الشيء هو النضال الجماهيري من أسفل.