شريط -بدون رصاص- أو بطالة الشباب وانسداد الآفاق


إبراهيم العثماني
2022 / 7 / 1 - 14:11     

مقـــــــــــــــدّمة:

إن كلام الشباب على واقع الشباب فيه من اليسر قدر ما فيه من العسر، وفيه من الذاتي قدر ما فيه من الموضوعي، وبقدر ما يشخّص الموجود يتوق إلى المنشود ولا يصرفه تركيزه على الواقعي عن ملامسة الخيالي.
وقد حفز هذا الواقع جمعا من الشّبّان إلى تشريحه فنيا ومعالجته سينيمائيا لإبراز ما يمور في هذا العالم الصّاخب والمتناقض، وكشف أهم مشاغل الشباب وطموحاته وآماله وخيباته، ومن ثم ّ تدعمت خزينة الجامعة التونسية للسينيمائيين الهواة بأشرطة أنجزها شبان من قبيل سليم بالشيخ وشريطه "مطار حمام الأنف"، وناجح شواري وشريطه "أوهام"، وسامي التليلي وفيلمه "بدون رصاص".

مضمون الشّريط:

وشريط "بدون رصاص" تحكّمت في صياغته رؤية مأسوية قاتمة ورَكَّبَتْ أحداثه نظرة سوداوية متشائمة بحيث قُدّتْ مادته من لهب وعذاب وزفرات، وآهات ودموع وآلام،وصوّر واقع شاب فكّرفي الانتحار لمّا تكشّفت له الدنيا عن عدو في ثياب صديق بعد أن طُرد من العمل، وهمّ بالموت لمّا أنشبت البطالة أظافرها في لحمه الطري. وقد بدا المخرج سامي التليلي منذ بداية الشريط حريصا على تهيئة المشاهد لتقبّل حدث غير مألوف يستفزّ المشاعر والأحاسيس. لذا وظّف الموسيقى والصّورة والحركة لشدّ انتباه المتقبل بغية معرفة مآل هذا الحدث المرتقب، فعلى وقع أنغام حزينة من تأليف أنور إبراهم دخل الشاب إلى مطبخ توحي جدرانه المهترئة وأثاثه المتقادم بالفقر والعوز والإهمال، وانتقى منه إناء"بيدون" واتجه مباشرة نحو محطة بنزين عصرية حيث وقف ينتظر انصراف سيارة ليحل محلّها. وما إن انطلقت هذه السيارة حتى تقدم الشاب ليملأ الإناء ببنزين من نوع "بدون رصاص"فكان المشهد ناطقا صارخا: عينان شاخصتان تلتمعان وتُركّزان على العدّاد فاضتا دموعا لحظة فيضان الإناء بالبنزين، تماثل له ما يُبَرّره ومشاكلة لها ما يدعّمها، غيظ مكبوت ونفس تجيش حزنا، وقلب ينوء بهمّ ثقيل، ونقمة كادت تنفجر هناك في المحطّة. ثم تبدأ رحلة الشاب في اتجاه الشركة، وهي رحلة المتاعب: فكلّما تجاوز حاجزا اعترضه حاجز، فهذا قطار يمرّ فتُرفَع الحواجز في وجه المارّة ويتوقف الشاب والمترجلون والسيارات، وهذه شركة تُحرس بحاجز لكنه سرعان ما تجاوزه .
ويقدّم المخرج الشركة ومحيطها في صورة عالم تعدّدت عناصره لكن تشابهت مكوناته، فهناك تعقّدت الأحداث وبلغت ذروتها وتداخلت المشاهد لترسم لوحات شتّى تترجم جميعها عالما سمته الانتظار والوهم والبطالة والعنف، فهؤلاء"شبان مكتهلون في شبابهم"افترشوا الأرض وتكدّسوا مسندين ظهورهم إلى الجدار يُمنّون النّفس بشغل قد يأتي وقد لا يأتي وكأنهم يسترحمون صاحب الشركة الذي طردهم وينتظرون منه لفتة كريمة تُخَلّصهم من آفة البطالة القاتلة.
وغير بعيد عن هذا الجمع وقف شبّان آخرون يحرّكون هواتفهم الجوالة" نوكيا" أملا في ربح سيارة أعلنت عنها مسابقة "س.م.س." وكأنّهم يقولون بم التّعلّل؟ لا شغل ولا فلس، ولا نديم ولا كأس، ولا أمل ينبلج من ظلمة اليأس. وقد نغتني في أسرع وقت، فالمرحلة مرحلة الطفرات العجيبة، والربح السريع سمة العصر.
وبين مشهد الانتظار من ناحية و مشهد اللهث وراء الرّبح السّريع من ناحية أخرى شق الشاب طريقه حاثّا خطاه نحو حتفه، فقد جاء يسعى لارتكاب جريمة بشعة في ساحة الشركة تشفّيا من نفسه وانتقاما من منصور صاحب الشركة الذي ظلّ الشاب يناديه بأعلى صوته "يـــــــا ســــي منصور"
لا لينصره بل ليشهده على الجريمة التي تسبّب فيها بطرده له، وقد كان إصراره كبيرا على إنهاء حياة تعيسة بائسة هناك في ساحة الشركة بالذات حيث قطعها جيئة وذهابا لمّا كان يعمل وينمّي خيراتها. وهناك صبّ الشابّ البنزين على جسده، هو الغريق فما الخوف من البلل؟ . فبدا وكأنه يستحمّ بعطر ويتلذّذ بنغم ماء عذب رقراق ينساب من أعلى رأسه إلى أخمصه ، وهمّ بإشعال النّار في جسده وظلّ ممسكا بالولاّعة وهو يهدّد بإحراق نفسه وينادي يا سي منصور، صرخة كان وقعها مدوّيا فأحدثت اضطرابا وارتباكا وخوفا ورعبا، وهرجا ومرجا وفوضى وجلبة إذ هرع جمع من العمّال نحو الصّوت لاعتراض الشّابّ الهائج ومنعه من التّقدّم نحو مكتب سي منصور وتنفيذ جريمته فيه. خرجوا وتجمّعوا تتدافع مناكبهم وتتشابك آياديهم وتختلط أصواتهم فتغدو أشبه بالغمغمة والهمهمة...كلهم يتساءلون عن أسباب فعلته رافضين ما أقدم عليه.
وكان سي منصور آخر من التحق بالعمال دون أن يقترب منهم فأسهم حضوره في إكمال عناصر المشهد، رجل التهم الشّيب رأسه وعكست ربطة عنقه وبدلته الأنيقة وسيارة المرسيدس الرّابضة أمام الشركة انتماءه الطبقي وموقعه الاجتماعي، وأكدت ملامحُه الجمعَ بين المال والتّقوى وكأن ّلسان حاله يقول:ما ضرّ لو عمل الإنسان لدنياه فامتلك الشّركات والسيّارات واكتنز الذّهب والفضّة وانتدب سكرتيرة شابة وجميلة وطرد العمال إن اقتضت مرونة التّشغيل ذلك، وعمل لآخرته فصلّى وتهجّد لا يبتغي جزاء ولا شكورا، ولا ثناء ولا إطراء حسبه أن تبرز للعيان سيماه في جبينه من أثر السجود.
خرج سي منصور مصحوبا بفتاة وامرأة ليهدّئ من روع هذا الشاب ويخاطبه مخاطبة الأب الحنون الرؤوف ويدعوه إلى الصبر والتجلّد ويعده بحل لوضعه عاجل، هكذا أُنقذَ الشاب من الموت واختفى من مسرح الأحداث ، لكن خاتمة الشريط تفاجئنا من حيث لا ندري ولا نحتسب، فهي عوْد على بدء إذ ينقلنا المخرج مرّة أخرى إلى محطة البنزين التي انطلق منها الشاب ويقدم لنا جمعا من العمال كنا قد شاهدناهم جالسين تحت جدار الشركة وقد اصطفوا الآن حاملين أواني لملئها بالبنزين والنسج على منوال صديقهم، ولعلّ اليأس من الحصول على شغل دفعهم إلى التفكير في حلول قاسية جدا، ومن ثم تبدو هذه الخاتمة منفتحة فنحن لا نعرف هل تم هذا الانتحار الجماعي أم أنّ الأمر لايعدو أن يكون مجرّد تهديد بعد أن طال انتظارهم وعيل صبرهم، بل إننا لنتساءل هل نفدت أمامهم الحلول وتقطعت بهم السبل فلم يبق لهم إلا التفكير في الانتحار .
تلك هي أهمّ أحداث هذا الشريط الذي اختار له مخرجه من العناوين " بدون رصاص"، عنوان قابل لأكثر من قراءة، وعبارة كيفما قلّبتها أحالتك على عوالم قِوامُها الشّدّة والقسوة والعنف. فهي سلاح يُرمى به من البندقية والمسدس فيكون وسيلة قتل وتدمير وتخريب، وهي نوع من الوقود الضروري للسّيّارة، وقد اكتسبت في هذا الفيلم دلالة جديدة حيث أصبحت وسيلة انتحار يلتجئ إليها الفرد كما تلتجئ إليها الجماعة، ومن ثم يكشف هذا الشريط كيف يتعرّض العمال للموت البطيء و تقتلهم المنون بلا قتال فيموتون بسلاح أشد فتكا من الرّصاص. إنه اليأس من الحياة الذي لا يحتاج إلى أي رصاص.

خاتـــــــــــــمة:

وفي الختام نستطيع أن نقول إن هذا الشريط قد جسّد، بطرائق فنية متميزة قائمة على الرمز والاختزال والتلميح والقدرة على إنطاق الصورة وتوظيف الموسيقى، واقع شريحة من الشباب مأزومة، محبطة ويائسة من الحياة ، كما حلل أوضاعا قد تدعو أصحاب الشهائد إلى الكفر بالقلم وما سطّر والفكر وما وضّح والعلم وما كشف، وتجعلهم يتحسّرون على شباب أفنوه في جهد لا يغني ودرس لا ينفع وبحث لا يربح، ويتذكّرون بكل مرارة أحلاما أضحت سرابا خُلّبا وآمالا غدت وهما قُلّبا.