علاء عبد الفتاح ودولة ما بعد الاستعمار


ياسين الحاج صالح
2022 / 6 / 30 - 18:06     

علاء عبد الفتاح مضرب عن الطعام في سجنه في مصر منذ 2 نيسان، أي 86 يوماً وقت كتابة هذه السطور. علاء كاتب ومبرمج مصري، من مواليد 1981، كان في جنوب أفريقيا في تفجرت الثورة المصرية في الشهر الأول من عام 2011، وهو عاد إلى بلده ليشارك في الثورة. وكان من أبرز الثوريين المصريين شباب وأكثرهم مثابرة، والأحرص على فتح التفكير في الشأن المصري على سياقات عالمية أوسع. اعتقل علاء لشهر ونصف أيام المجلس العسكري بعد الثورة المصرية، وليومٍ أيام مرسي، لكنه قضى معظم سنوات ما بعد انقلاب السيسي معتقلا سياسياً، واحداً من 60 ألفاً على الأقل. بل أن علاء الذي كان لشهور تحت المراقبة عام 1919، يقضي لياليه سجيناً وأيامه "حراً"، اعتقل من جديد قبل ألف يوم بحسب ما ذكّر تقرير صدر للتو من منظمة العفو الدولية. خلال هذه الأيام الطويلة عومل علاء معاملة كيدية وانتقامية، حتى أنه استقبل بـ"تشريفة" (حفلة تعذيب) في سجن طرة شديد الحراسة وقت توقيفه المتجدد في صيف 2019. بعد أكثر من شهر من إضرابه عن الطعام، نقل علاء إلى سجن وادي النطرون.
علاء هو الابن البكر لعائلة مناضلة. والده المحامي أحمد سيف الذي توفي باكراً عام 2014، بينما كان علاء في العام الأول من سجنه، ووالدته ليلى سويف أستاذة جامعية للرياضيات، ومناضلة من أجل الحريات العامة والعدالة الاجتماعية في مصر. وشقيقتاه منى وسناء ناشطتان في الحقل العام، وقضت سناء الأصغر منهما ثلاث مدد في السجن، كانت آخرها لعام ونصف انتهت قبيل نهاية 2012. حصل علاء على الجنسية البريطانية هذا العام بأثر كون والدته ليلى سويف مولودة في بريطانيا. كان الحصول على الجنسية مسعى للدفاع عن علاء وحماية حياته. إذ يؤمل أن تضغط السلطات البريطانية على النظام المصري لإطلاق علاء، بوصفه مواطناً بريطانياً. لا يسع الحكومة البريطانية التدخل لمصلحة من ليس إلا مصرياً. هذا مستباح بلا حقوق ولا حمايات قانونية. بعد مقتله على يد الأجهزة المصرية عام 2016، اشتهر عن والدة الباحث وطالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني قولها: لقد قتلوه كأنه مصري! المصري يقتل إن لم ينل حماية خاصة. وكي لا يموت علاء في سجون السيسي يلزم تدخل من قوة أجنبية مسموعة الكلمة.
هذا وضع مثير للتفكير والأسي. عائلة ليلى سويف وأحمد سيف عائلة عروبية، معنية جداً بالقضية الفلسطينية ولها تاريخ في النضال ضد الاستعمار والعلاقات الاستعمارية. لكن الجنسية البريطانية هنا يمكن أن تكون سلاحاً لحماية حياة وضمان حريته. النظام المحلي يعتقل ويعذب ويهدد الحياة، ويكذب طوال الوقت، والمستعمر السابق يمكن أن يضغط على هذا النظام لتحرير مواطن معتقل. سبق أن جرى ذلك قبل شهور حين أثمر ضغط السلطات الفرنسية إطلاق الناشط المصري الفلسطيني رامي شعث من سجون السيسي، وتيسير سفره إلى أوربا. والمرجو أنه سيثمر هذه المرة إطلاق علاء وضمان سفره هو الآخر مع العائلة إلى بريطانيا. ثمة مثال سوري مشابه. كان المناضل الشيوعي رياض الترك معتقلاً في سجن حافظ الأسد لسبعة عشر عاما ونصف وقت تدخل الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك لإطلاق سراحه، وهذا ما حصل في أيار 1998.
تلخص هذه القصص مسار تعفن بلداننا بعد جيل واحد من نزع الاستعمار، وتحول الدولة الوطنية إلى استمرار للكولونيالية أشد أذى وأكثر وحشية من أي مستعمرين سابقين، إلى درجة سعي مناضلين ضد الاستعمار إلى طلب تدخل قوى مستعمرة سابقاً من أجل حماية حياة مواطنين محليين. والحال أن هذا التدخل ينجح بالفعل، وأن للقوى الغربية "خاطر" عند أنظمتنا، لا نملك نحن كمجتمعات، ولا تملك الدول العربية والدول غير الغربية، ما يناظره من قريب أو بعيد. هذا يشهد ضد دولنا بطبيعة الحال بقدر ما يشهد للقوى الغربية التي تتدخل لمصلحة مناضلين يجمع بينهم أنهم يساريون ووطنيون ومعادون للإمبريالية. وهي تتدخل لأنها عرضة لضغوط حقوقية وسياسية وإعلامية في بلدانها، أي لأن مجتمعاتها تعددية وتتدخل في سياساتها وعلاقاتها، بما في ذلك الدولية. وبكلمة واحدة، لأنها ديمقراطية. نتكلم على تعفن في جهتنا لأن الأنظمة التي تخضعنا وتذلنا باسم الوطن تعاملنا كأعداء، فلا مجال للسياسة معنا، بينما تأخذ وتعطي مع القوى الغربية إلى درجة أن قد تخفف قبضتها عن أعناقنا بطلب من تلك القوى.
وماذا يمكن أن يكون موقف اليساري والوطني العربي المعادي للإمبريالية في هذا الشأن؟ فهل ننكر هذا التدخل ونطلب من حافظ الأسد أن يصر مثلا على عدم الإفراج عن رياض الترك، أو ألا يحرر السيسي رامي شعث، وأن يصر على استمرار اعتقال علاء عبد الفتاح؟ أو نرحب به ما دام ينجح في واقع الأمر، ويحمي حياة أشخاص؟ الصحيح هو إنقاذ من يمكن إنقاذهم بكل السبل. ثم العمل على تجاوز هذا الوضع المتعفن كله، في اتجاه ترتيبات سياسية تحمي حياة وحرية السكان، وتتوافق مع ما هي اليوم معايير عالمية للكرامة الإنسانية.
بعد الثورات العربية، وعلاء أحد أبطالها، صارت الدولة أشد فجوراً وأشد استعمارية. سورية الأسد التي احتمت بالفعل بقوى احتلال أجنبي توفر الترجمة المباشرة لشرط بنيوي مترسخ، أعني كون الدولة استمرار للاستعمار بوسائل محلية. لكن مصر السيسي مثلها. ومثل رامي شعث قبله، لا يتصور أن يجري تحرير علاء عبد الفتاح إلا في إطار يدفعه خارج مصر، إلى بريطانيا أو غيرها.
فإذا صح الكلام على استعمارية الدولة، عنى ذلك راهنية التحرر الوطني، بمضمون ينقل الاستقلال والسيادة من الدولة إلى المواطنين الأفراد، مما هو مدار شغل فكري وسياسي كبير. إنقاذ علاء وحريته واجب الساعة اليوم. وهو ككاتب ومناضل، وبخبرة شخصية واسعة ومباشرة بالدولة، في موقع مناسب جداً للمشاركة في الشغل التحرري المطلوب. كتابه "أنت لم تهزم بعد" الذي يؤمل أن يصدر قريباً بالعربية هو سلفاً مساهمة مهمة في هذ الاتجاه.