لماذا ليس هناك ثورة؟ ضرورة القيادة الثورية


آلان وودز
2022 / 6 / 15 - 12:22     


«لا يصنع الناس الثورة بلهفة، مثلما لا يخوضون الحرب بلهفة. ومع ذلك فهناك اختلاف وهو أن عامل الإكراه في الحرب يلعب الدور الحاسم، أما في الثورة فلا يوجد إكراه إلا بسبب الظروف. لا تحدث الثورة إلا عندما لا يكون هناك أي مخرج آخر»[1].

«عندما سيحين الوقت، ستتحرك الأشياء بسرعة وطاقة هائلتين، لكن الأمر قد يستغرق بعض الوقت قبل الوصول إلى تلك النقطة»[2].

“كل ما هو موجود يستحق الفناء”
سبق لهيغل أن أوضح أن كل ما هو موجود يستحق الفناء. وهذا يعني أن كل ما هو موجود يحتوي في ذاته على بذور تدميره. وهذا هو الحال في الواقع. لفترة طويلة من الزمن بدت الرأسمالية كما لو أنها موجودة لتخلد. لم يكن الوضع القائم موضع تساؤل من قبل معظم الناس. بدت مؤسساتها راسخة. وكانت تتمكن في النهاية من تخطي حتى أخطر الأزمات، دون أن تترك أي أثر على ما يبدو.

لكن المظاهر خادعة. يعلمنا الديالكتيك أن الأشياء تتغير إلى نقيضها. وبعد فترة طويلة من الركود السياسي، تمثل التطورات التي حدثت في السنوات القليلة الماضية قطيعة جوهرية في الوضع على الصعيد العالمي.

شكلت أزمة 2008 نقطة تحول حادة في الوضع برمته. في الواقع لم تتمكن البرجوازية مطلقا من التعافي من تلك الأزمة. لقد شرحنا في ذلك الوقت أن كل محاولة تقوم بها البرجوازية لاستعادة التوازن الاقتصادي لن تؤدي إلا إلى تدمير التوازن الاجتماعي والسياسي. وقد تبين أن هذا هو الحال حرفيا. لقد لجأت البرجوازية إلى تدابير يائسة لحل تلك الأزمة، وأنفقت مبالغ غير مسبوقة من المال.

وقد كرروا ذلك على مستوى أعلى بكثير عندما دفعت الجائحة الاقتصاد العالمي إلى الركود عام 2020. مكنهم ذلك من تجنب حدوث انهيار فوري، لكن فقط على حساب خلق تناقضات جديدة مستعصية بدأت الآن تصعد إلى السطح في كل مكان.

تم إنقاذ النظام من خلال مبالغ هائلة من الإنفاق الحكومي، وذلك على الرغم من الإجماع المسبق بين البرجوازيين على أنه ليس من المفترض أن تتدخل الدولة في السوق. لكن المال، كما يقال، لا ينمو على الأشجار. كانت نتيجة عربدة الإنفاق تلك، باستخدام مبالغ طائلة لم تكن موجودة، هي خلق جبل هائل من الديون. يقترب إجمالي الدين العالمي الآن من 300 تريليون دولار.

هذا وضع غير مسبوق تاريخيا في أوقات السلم. صحيح أن الطبقات السائدة أنفقت، خلال الحرب العالمية الثانية، مبالغ كبيرة مماثلة، تمكنت من تصفيتها خلال فترة الانتعاش الاقتصادي المطولة التي أعقبت الحرب. لكن ذلك لم يكن ممكنا إلا بفعل توليفة غريبة من الظروف، والتي ليست موجودة اليوم ومن غير المرجح أن تتكرر في المستقبل.

الأثر الحتمي لهذا الجبل من الديون هو التضخم، الذي أصبح محسوسا الآن في ارتفاع أسعار السلع والوقود والغاز والكهرباء، ويجلد الفقراء.

النتيجة الحتمية لذلك هي انفتاح مرحلة جديدة من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كانت الأحداث الأخيرة في كازاخستان بمثابة إنذار بما سوف يأتي. ويمكن أن يتكرر في أي وقت وفي جميع البلدان الواحد منها تلو الآخر.

إن الأزمة الحالية ليست اقتصادية ومالية فحسب، بل لها طابع اجتماعي وسياسي، بل وحتى أخلاقي وسيكولوجي أيضا. إنها تتسم باضطراب غير المسبوق في جميع البلدان.

يمر النظام الرأسمالي بأخطر أزمة اقتصادية شهدها منذ 300 عام. وهذا واقع معترف به من قبل جميع منظري رأس المال الجديين. وبالإضافة إلى ذلك فقد مات ملايين الناس نتيجة لهذه الجائحة التي، على الرغم من ادعاءات البرجوازية، لم يتم التغلب عليها حتى الآن.

من السهل أن يستنتج المرء من هذه الحقائق أن شروط الثورة الاشتراكية موجودة بالفعل على الصعيد العالمي. وهذا صحيح تماما. وبشكل عام، فقد كان هذا صحيحا منذ زمن بعيد. لكن المنظورات الماركسية لا تكتفي بالعموميات.

لا يكفي أن نكرر تصريحات عامة حول حتمية الثورة الاشتراكية. يجب على المرء أن يعرف كيف يشرح لماذا ذلك صحيح. سبق لهيغل أن شرح أن مهمة العلم ليست تجميع كم كبير من التفاصيل، بل مهمته التوصل إلى رؤية عقلانية. وهذه بالتحديد هي مهمة الماركسيين.

في كثير من الأحيان يلجأ بعض اليساريين، وحتى بعض الماركسيين، إلى الاستشهاد بقوائم طويلة من الإحصاءات الاقتصادية، التي يمكن قراءتها بسهولة في الصحافة البرجوازية. ثم يخلصون، في النهاية، إلى نتيجة مفادها أن “الاشتراكية هي الحل”، أو شيء من هذا القبيل. قد يكون ذلك صحيحا تماما، لكنه استنتاج لا ينبع من قائمة الحقائق والأرقام، وبالتالي فإن صلاحيته قليلة أو معدومة. هذه الطريقة الميكانيكية هي مجرد مؤشر على الكسل العقلي، ولا تنتج سوى الملل ونفاذ الصبر لدى أولئك الذين سبق لهم أن سمعوا تلك التصريحات من قبل.

لن تساعدنا الصياغات العامة والمخططات المجردة على فهم الحقائق الملموسة للمرحلة التي نمر بها، مثلما لن يساعدنا الاكتفاء بتكرار الشعارات العامة حول أزمة الرأسمالية، والتي تفقد كل قوتها وأهميتها بفعل التكرار، ويتم ابتذالها إلى كليشيهات فارغة لا معنى لها.

يجب علينا أن نتتبع الموقف وهو يتطور بشكل ملموس في كل مرحلة. ونحن مجبرون على الإجابة عن السؤال الذي قد يخطر ببال العديد من الناس: أنتم الماركسيين تقولون إن النظام الرأسمالي يمر بأزمة، ومن الواضح أن هذا هو الحال. لكن لماذا لم تحدث الثورة؟

قد يبدو السؤال ساذجا. لكنه أعمق مما قد تعتقدون، ويستحق دراسة متأنية. ولكي نكون صادقين نقول إنه حتى بعض الذين يسمون أنفسهم ماركسيين يطرحون على أنفسهم نفس السؤال: لماذا لم تنهض الجماهير رغم أن الأزمة عميقة هكذا؟

أشير هنا إلى أولئك الذين يسمون بالناشطين، الذين يظهرون ازدراء كبيرا بالأفكار والنظرية، ويتخيلون أنهم، من خلال جريهم في كل الجهات مثل دجاج مقطوع الرأس، والصراخ من أجل الثورة، سوف يحفزون بطريقة ما الجماهير لتنتفض.

أتذكر جيدا هؤلاء القادة الطلاب الجامعيين، في باريس عام 1968، بحركيتهم المفرطة، وأنا أراهم الآن: برجوازيون خاملون راضون عن أنفسهم، يسخرون من الثوريين بشكل عام، وبالتالي فإنهم، ضمنيا، يبصقون على ماضيهم الخاص. أعترف أن هذا التحول لم يكن مفاجأة بالنسبة لي. كان الأمر واضحا بالفعل منذ ماي 1968. إنهم لم يكونوا يفهمون أي شيء في ذلك الوقت، وهم الآن أكثر جهلا.


باريس، ماي/أيار 1968، صورة: Literary Hub
هؤلاء “النشطاء” ينفذ صبرهم تجاه الجماهير، وعندما يتعبون من ترديد الشعارات “الثورية” الفارغة -التي تشبه تعويذات كاهن عجوز متعب- دون أن يحصلوا على النتيجة المرجوة، يعملون على إلقاء اللوم على الطبقة العاملة، ويصابون بالإحباط ويسقطون في الخمول. ليست الحركية المفرطة واللامبالاة العاجزة سوى وجهين لعملة واحدة.

ليست مهمة الماركسيين أن يضعوا مقياس الحرارة تحت لسان الطبقة العاملة لمحاولة تحديد متى ستكون مستعدة للتحرك. إن هذا المقياس لم يكن أبدا موجودا، ولن يكون موجودا على الاطلاق. ولا يمكن تسريع الأحداث بنفاد الصبر.

هل الوضع يتحرك ببطء شديد بالنسبة لك؟ حسنا، نود جميعا لو أنه يتطور بشكل أسرع. لكن هذه الأشياء ستستغرق وقتا، ونفاذ الصبر هو أخطر عدو لنا. لا توجد طرق مختصرة! لقد سبق لتروتسكي أن حذر من أن محاولة الحصاد في حقل لم يزرع من قبل ستؤدي حتما إلى ارتكاب أخطاء إما ذات طابع يسراوي متطرف أو ذات طابع انتهازي. وإذا حاولت أن تصرخ بصوت أعلى من قوة حبالك الصوتية، فسوف تفقد صوتك ببساطة.

لكن إذا بقيت، بعد قراءة هذا المقال القصير، مصرا على معرفة متى سيتحرك العمال للإطاحة بالنظام الرأسمالي، فأنا مستعد لتزويدك بإجابة دقيقة للغاية:

سوف يتحرك العمال عندما يكونون مستعدين.

ليس قبل ذلك بدقيقة.

ولا بعد ذلك بدقيقة.

الجيولوجيا والسوسيولوجيا
إن مجرد طرح المرء للسؤال حول سبب عدم وجود ثورة، يكشف أكثر من مجرد الحيرة. إنه يفضح الجهل التام سواء بالقوانين الأولية للثورة، أو بالطريقة التي تكتسب بها الجماهير الوعي. وكلاهما ليستا سيرورات آلية ولا ميكانيكية، وكلاهما، كما سنرى، مرتبطان ارتباطا وثيقا.

لنبدأ، كما هو الحال دائما، بالمبادئ الأساسية. يعلمنا الديالكتيك أن هناك تشابها كبيرا بين المجتمع والجيولوجيا. تخبرنا حواسنا أن الأرض تبدو صلبة وثابتة تحت أقدامنا (“ثابتة مثل الصخر”، كما يقول المثل). لكن الجيولوجيا تعلمنا أن الصخور ليست ثابتة بأي حال من الأحوال، وأن الأرض تتحرك باستمرار تحت أقدامنا.

على السطح، قد يبدو كل شيء هادئا وصلبا بشكل كامل. لكن تحت السطح، هناك محيط شاسع من الصخور السائلة الملتهبة، ودرجات حرارة وضغوط لا يمكن تصورها، تبحث عن نقطة ضعف في سطح الأرض. وفي النهاية تزداد قوة عنصر الضغط من الأسفل بشكل تدريجي إلى النقطة التي يتم فيها كسر الحواجز، فتندفع الصهارة أخيرا إلى السطح بانفجار عنيف، مطلقة قوى هائلة مكبوتة في انفجار بركاني.


على السطح، قد يبدو كل شيء هادئا وصلبا بشكل كامل. لكن تحت السطح، هناك محيط شاسع من الصخور السائلة الملتهبة، ودرجات حرارة وضغوط لا يمكن تصورها، تبحث عن نقطة ضعف في سطح الأرض.
لدينا هنا تشابه دقيق للغاية مع ما يحدث في المجتمع. فظاهريا يبدو كل شيء هادئا، لا يكدر صفوه سوى بعض الهزات العرضية التي تمر تاركة الوضع القائم سليما إلى حد ما. المدافعون عن الوضع القائم يسمحون لأنفسهم بأن ينخدعوا بفكرة أن كل شيء على ما يرام. لكن تحت السطح يتراكم الاستياء والمرارة والسخط والغضب ببطء إلى أن يصل إلى النقطة الحرجة حيث يصبح الزلزال الاجتماعي حتميا.

من المستحيل التنبؤ باللحظة الدقيقة التي سيحدث فيها هذا التغير، تماما مثلما هو من المستحيل التنبؤ بدقة بلحظة وقوع الزلزال على الرغم من كل التقدم الذي حققته العلوم والتكنولوجيا الحديثة. يخبرنا العلم أن مدينة سان فرانسيسكو مبنية على صدع في قشرة الأرض، يُعرف باسم صدع سان أندرياس. هذا يعني أن المدينة سوف تتعرض، عاجلا أم آجلا، لزلزال مدمر.

ورغم أنه لا أحد يعرف متى سوف يحدث ذلك، فإن حدوثه مؤكد تماما. ومن المؤكد بنفس القدر أن الانفجارات الثورية سوف تحدث عندما لا تتوقعها البرجوازية وخدمها من المنظرين والاقتصاديين والسياسيين.

يشير تروتسكي، في عبارة رائعة، إلى “السيرورة الجزيئية للثورة”، التي تجري بشكل مستمر في أذهان العمال. لكن وبما أن هذه السيرورة سيرورة تدريجية ولا تؤثر على الملامح السياسية العامة للمجتمع، فإنها تمر دون أن يلاحظها أحد – باستثناء الماركسيين.

لكن ليس كل من يدعي أنه ماركسي، قد أدرك بالفعل أبسط مبادئ ومنهج الماركسية. رأينا ذلك في فرنسا في ماي 1968، عندما كان العصبويون الجهلة، من أمثال ماندل، قد شطبوا العمال الفرنسيين تماما من حساباتهم، باعتبارهم “متبرجزين” و”متأمركين”. كان أعضاء النقابات أقل من أربعة ملايين عامل، لكن 10 ملايين عامل احتلوا المصانع في أكبر إضراب عام ثوري في التاريخ. إلا أن مسألة ما إذا كانت مثل هذه الانفجارات كافية لتؤدي إلى ثورة اشتراكية ناجحة، هي مسألة مختلفة تماما.

في عام 1968، كان العمال الفرنسيون يملكون السلطة بين أيديهم. أبلغ الرئيس ديغول السفير الأمريكي قائلا: «لقد انتهت اللعبة. في غضون أيام قليلة سيكون الشيوعيون في السلطة». وقد كان ذلك ممكنا تماما. فإذا لم يحدث ذلك، فإن الخطأ لا يقع على عاتق الطبقة العاملة، التي بذلت كل ما في وسعها للقيام بالثورة، لكنه يقع على عاتق القيادة. وهذه هي القضية المركزية التي سنعود إليها فيما بعد.

شروط الثورة
تتطلب الثورة الاشتراكية، لكي تنجح، توفر شروط معينة، موضوعية وذاتية.

الأزمة الاقتصادية لوحدها ليست كافية -في حد ذاتها- للقيام بالثورة، نفس الشيء بخصوص انخفاض مستويات المعيشة. سبق لليون تروتسكي أن أشار ذات مرة إلى أنه لو كان الفقر هو سبب الثورات، لكانت الجماهير دائما في حالة ثورة.

يتصرف بعض العصبويين كما لو أن الجماهير هي بالفعل في حالة تمرد دائم ومستعدة دائما للثورة. لكن هذا ليس صحيحا. حقيقة أن النظام الرأسمالي في أزمة عميقة واقع بديهي لا يتطلب أي دليل. لكن كيف تدرك الجماهير هذا الواقع هو سؤال مختلف تماما. الأوهام التي تراكمت على مدى سنوات وعقود لن تزول بسهولة. ولتحطيم التوازن الحالي لا بد من سلسلة من الصدمات العميقة.

صحيح أنه، من الناحية الموضوعية، شروط الثورة الاشتراكية ليست موجودة فحسب، بل لقد نضجت منذ زمن بعيد. بل إنها في الواقع قد تعفنت إلى حد ما. لكن تاريخ البشرية يصنع من خلال أفعال الرجال والنساء. ونحن، بصفتنا ماديين، نعلم أن الوعي البشري بشكل عام ليس ثوريا، بل هو محافظ بشكل عميق. العقل البشري يكره أي تغيير من أي نوع.

هذه آلية سيكولوجية عميقة الجذور للدفاع عن النفس ورثناها من الماضي البعيد، وانمحت منذ فترة طويلة من ذاكرتنا، لكنها تترك بصمة لا تمحى في عقلنا الباطن. إنها قانون متجذر في الرغبة في الحفاظ على الذات.


ونتيجة لذلك يميل وعي الجماهير دائما إلى التأخر عن الأحداث، وقد يكون هذا التأخر كبيرا جدا، لأنه مشروط بكل التجارب السابقة. يجب علينا أن نأخذ هذه الحقيقة في الحسبان باستمرار عند تحليل الوضع الحالي.

هناك مثل صيني قديم يخبرنا أن أكبر مصيبة يمكن أن تصيب الإنسان هي أن يعيش في أوقات استثنائية. فعندما تبدأ الأرض بالاهتزاز تحت قدميه؛ عندما تنهار المعابد والقصور القديمة، تكون تلك تجربة مقلقة للغاية.

سيركض الناس هنا وهناك، في محاولة للعثور على الأمان. لكن لا وجود لأي أمان بالطرق القديمة. لذلك يجب التخلي عن الطرق القديمة وإيجاد طرق جديدة. الصدمات العميقة بدأت بالفعل في زعزعة ثقة الناس في المجتمع الحالي.

ومع ذلك فمن الحقائق التي لا يمكن إنكارها أيضا أن معظم الناس يشعرون بأمان أكبر وراحة أكبر في البيئة المألوفة للعالم الذي ولدوا فيه وعاشوا فيه معظم حياتهم. وحتى عندما تكون الأوقات عصيبة، ستجدهم يتمسكون بعناد بالاعتقاد بأن الغد سيكون أفضل وأن “الأوقات العادية” ستعود في آخر المطاف.

وعندما يشير لهم الثوريون بالحاجة إلى الثورة، يكون رد فعلهم الأول هو هز أكتافهم والقول: “الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه”. وهذا رد فعل طبيعي تماما. فالثورة قفزة في الظلام ستأخذهم إلى المجهول.

قوة العطالة
تمتلك الطبقة السائدة بين يديها أسلحة جد قوية للدفاع عن ثروتها وسلطتها: الدولة والجيش والشرطة والقضاء والسجون والإعلام والنظام التعليمي بأكمله. لكن أقوى سلاح في ترسانتها ليس هو تلك الأشياء. أقوى سلاح هو الروتين، والذي هو المعادل الاجتماعي لقوة العطالة في الميكانيكا.

قوة العطالة قانون شهير جدا ينطبق على جميع الأجسام، وينص على أن الأجسام ستبقى دائما في حالتها، سواء في حالة سكون أو حركة، ما لم يتدخل سبب خارجي لجعلها تغير هذه الحالة، والتي عند هذه النقطة تسمى مقاومة أو فعل. وينطبق هذا القانون نفسه على المجتمع.

تخلق الرأسمالية عادات الطاعة مدى الحياة، والتي يمكن نقلها بسهولة من المدرسة إلى المصنع ومن تم إلى الثكنات.

يجثم عبء التقاليد وروتين الحياة اليومية الثقيل على أدمغة الناس ويجبرهم على الانصياع لأحكامه. وهذا يعني أن الجماهير، على الأقل في البداية، ستسلك دائما الطريق الأقل مقاومة. لكن في النهاية ستجبرهم ضربات مطرقة الأحداث العظيمة على البدء في مساءلة القيم والأخلاق والدين والمعتقدات التي شكلت تفكيرهم طوال حياتهم.

يتطلب الأمر أحداثا هائلة لإخراج الجماهير من هذا الروتين المدمر للعقل، وإجبارهم على إدراك موقعهم الحقيقي، والتشكيك في المعتقدات القديمة التي اعتقدوا أنها لا جدال فيها، ودفعهم إلى استخلاص استنتاجات ثورية. هذا حتما يستغرق وقتا. لكن خلال الثورة يعرف وعي الجماهير زخما هائلا. ويمكن أن يتحول بالكامل في غضون 24 ساعة.

نرى نفس السيرورة في كل إضراب. غالبا ما يتفاجأ العمال الأكثر تقدما عندما يتحول فجأة بعض العمال الأكثر تخلفا وتحفظا إلى مناضلين أكثر نشاطا وطاقة.

ليس الإضراب سوى ثورة في صورة مصغرة. وخلال أي إضراب تصير للقيادة أهمية قصوى في سيرورة تنمية الوعي. في كثير من الأحيان يمكن لخطاب جريء واحد، من قبل مناضل واحد فقط، أثناء اجتماع جماهيري، أن يعني نجاح أو فشل الإضراب. وهذا يقودنا إلى القضية المركزية.

العامل الذاتي في التاريخ
تكشف الحركات الثورية الجماهيرية العفوية عن القوة الهائلة التي تختزنها الجماهير. لكن في شكل قوة محتملة فقط، وليس فعلية. ففي ظل غياب العامل الذاتي، لا تستطيع حتى أكثر الحركات الجماهيرية قوة أن تحل المشكلات الأكثر أهمية للطبقة العاملة.

يجب علينا هنا أن نفهم أن هناك فرقا جوهريا بين الثورة الاشتراكية وبين الثورات البرجوازية في الماضي. إذ على عكس الثورات البرجوازية، تتطلب الثورة الاشتراكية الحركة الواعية للطبقة العاملة، التي لا يجب عليها فقط أن تأخذ زمام سلطة الدولة بين يديها، بل يجب عليها أيضا أن تتولى، منذ البداية، السيطرة الواعية على القوى المنتجة.

فمن خلال آلية الرقابة العمالية على المصانع، تمهد الطبقة العاملة الطريق لبناء اقتصاد مخطط اشتراكي ديمقراطي. لم يكن هذا هو الحال على الإطلاق مع الثورات البرجوازية في الماضي، لأن اقتصاد السوق الرأسمالي لا يتطلب نهائيا أي تخطيط أو تدخل واع.

لقد ظهرت الرأسمالية تاريخيا بشكل عفوي، نتيجة لتطور القوى المنتجة في ظل الإقطاع. نظريات القادة الثوريين البرجوازيين كانت، في حالة وجودها، مجرد انعكاس غير واع لمتطلبات البرجوازية الناشئة وقيمها ودينها وأخلاقها.

بين ماكس فيبر العلاقة الوثيقة بين البروتستانتية (وخاصة الكالفينية) وبين قيم البرجوازية الناشئة، بتفصيل كبير على الرغم من أنه، بسبب موقفه المثالي، وضع العلاقة رأسا على عقب.


وبعد قرن من الزمان، في فرنسا، مهدت عقلانية عصر التنوير الأرضية نظريا للثورة الفرنسية الكبرى، والتي أعلنت بجرأة حكم العقل، بينما كانت، في الممارسة العملية، تمهد الطريق لحكم البرجوازية.

وغني عن البيان أن تلك الأفكار الرائدة، لا في حلتها الدينية السابقة، ولا عندما لبست فيما بعد عباءة العقل الجميلة، لم تكن تمثل حقا مصالح البرجوازية الفجة والمادية والمتعطشة للمال، بل على العكس من ذلك، كانت تلك الأشكال ضرورية للغاية لتعبئة الجماهير الشعبية للثورة على النظام القديم، بينما تقاتل تحت راية أسيادها المستقبليين.

وبمجرد ما لم تعد تلك النظريات تعكس مصالح الطبقة البرجوازية الصاعدة (أو صارت تناقضها)، تم التخلي عنها واستبدلت بأفكار أخرى تناسب النظام الاجتماعي الجديد بشكل أكبر.

أثناء المراحل الأولى للثورة الإنجليزية، كان على أوليفر كرومويل أن يدفع بالعناصر البرجوازية جانبا من أجل استكمال الإطاحة بالنظام الملكي القديم، والاعتماد على العوام والفئات شبه البروليتارية الأكثر ثورية. ولتحريض الجماهير أعلن الدفاع عن ملكوت الله على الأرض.

لكنه بعد أن أنجز تلك المهمة، انقلب على اليسار، وسحق المساواتيين (Levellers)، وفتح الباب أمام البرجوازية المعادية للثورة التي شرعت في التوصل إلى حل وسط مع الملك، ثم نفذت ما يسمى بالثورة المجيدة لعام 1688، والتي أسست أخيرا حكم البرجوازية. تمت محاربة أفكار البيوريتانيين، وأجبروا على الهجرة إلى شواطئ العالم الجديد لممارسة معتقداتهم الدينية.

يمكن ملاحظة سيرورة مماثلة في الثورة الفرنسية، حيث تمت الإطاحة بالديكتاتورية الثورية لليعاقبة، التي كانت قائمة على دعم الجماهير شبه البروليتارية من سكان باريس، أولا من خلال الردة الترميدورية وحكومة الإدارة، ثم القنصلية، ثم ديكتاتورية نابليون بونابرت، وأخيرا من خلال عودة آل بوربون بعد معركة واترلو. لم يتحقق النصر النهائي للبرجوازية الفرنسية إلا بعد ثورة 1830 والثورة البروليتارية المهزومة عام 1848.

الثورة الروسية
يمكن إظهار الدور الحاسم للعامل الذاتي بوضوح شديد في الثورة الروسية. كتب لينين عام 1902:

«لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما أكدنا على هذه الفكرة في وقت يسير فيه التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع الافتتان بأضيق أشكال النشاط العملي»[3].

وأضاف أنه: «لا يمكن أن يقوم بدور الطليعة إلا حزب يسترشد بالنظرية الأكثر تقدما»[4].

لم يكن هذا هو الحال مع الثورة البرجوازية، وذلك للأسباب التي ذكرناها. لكنها كانت ضرورية للغاية لنجاح الثورة الاشتراكية، كما رأينا عام 1917.

لقد حدثت ثورة فبراير بدون أي قيادة ثورية واعية. أظهر العمال والجنود (الفلاحون بالزي العسكري) أنهم أقوياء بما يكفي للإطاحة بالنظام القيصري الذي حكم روسيا لقرون. ومع ذلك فإنهم لم يأخذوا السلطة بأيديهم. عوض ذلك شهدنا فترة ازدواجية السلطة التي استمرت حتى تولت السوفييتات السلطة أخيرا في نوفمبر، تحت قيادة البلاشفة.

لماذا لم يتمكن العمال من حسم السلطة في فبراير؟ يمكن للمرء، بالطبع، أن يجيب عن هذا السؤال بكل أنواع الحجج “الذكية”. بل حتى بعض البلاشفة أكدوا أن السبب يكمن في أنه كان على البروليتاريا أن تمتثل “للقانون الحديدي للمراحل التاريخية”، وأنها لا تستطيع “تخطي فبراير” وأنه يتوجب عليها “اجتياز مرحلة الثورة البرجوازية”. كان هؤلاء الأشخاص، في الواقع، يحاولون التستر على جبنهم الخاص وارتباكهم وعجزهم من خلال الاشارة إلى “العوامل الموضوعية”. وقد رد لينين بازدراء على هؤلاء قائلا:

«لماذا لم يحسموا السلطة؟ يجيب ستيكلوف: لهذا السبب وذاك. هذا هراء. الحقيقة هي أن البروليتاريا ليست منظمة بما يكفي وليست واعية طبقيا بما يكفي. يجب الاعتراف بهذا: إن القوة المادية في أيدي البروليتاريا، لكن اتضح أن البرجوازية مستعدة وواعية طبقيا. هذه حقيقة مروعة، ويجب الاعتراف بها بصراحة وعلانية، ويجب إخبار الشعب أنه لم يأخذ السلطة لأنه كان غير منظم بما فيه الكفاية وغير واع بما فيه الكفاية»[5].

فلنكن واضحين: لولا وجود الحزب البلشفي -بل في الواقع لولا وجود رجلين، لينين وتروتسكي- لم تكن ثورة أكتوبر لتحدث أبدا، لكانت قد أُجهضت وانتهت بثورة مضادة ونظام فاشستي.

بعبارة أخرى، ستبقى قوة الطبقة العاملة -التي هي حقيقية- مجرد امكانية. وهذا لا يكفي أبدا. هنا تكمن الأهمية الحاسمة للعامل الذاتي في التاريخ.

انهيار الوسط
الاضطرابات الثورية متضمنة في الوضع برمته اليوم. وسوف تندلع حتما، سواء كان هناك حزب ثوري أم لا. لكن أهمية القيادة الجيدة في الحرب بين الطبقات عامل حاسم، مثل أهمية الجنرالات الجيدين في الحروب بين الأمم، وهنا تكمن المشكلة.

تسعى الجماهير جاهدة لإيجاد مخرج من هذا الكابوس. إنها تتطلع إلى الأحزاب الواحد منها تلو الآخر وإلى الزعماء الواحد منهم تلو الآخر، وترمي بهم الواحد تلو الآخر في مزبلة التاريخ. وهذا ما يفسر الاضطراب الشديد في الحياة السياسية في جميع البلدان في الوقت الحاضر. يتأرجح البندول السياسي بعنف نحو اليمين ثم نحو اليسار.

والضحية الرئيسية هي ذلك الكائن الغريب، الذي هو الوسط. هذا مصدر قلق كبير بين منظري رأس المال، لأن الوسط يمثل نقطة توازن بين اليسار واليمين تعمل على تحييدهما معا. في هذا الوسط الغامض يتم طمس جميع الخطوط الواضحة، حيث تصور البلاغة الفارغة والوعود الغامضة على أنها عملة حقيقية، أو على الأقل على أنها سندات قد يتم استردادها في المستقبل (غير المنظور).


لفترة طويلة جدا تم تمثيل الوسط في الولايات المتحدة من قبل حزبين، الجمهوريين والديمقراطيين، وفي بريطانيا من قبل حزب العمال والمحافظين، واللذين لا يمكن التمييز بينهما. لكن كل ذلك كان له أساس مادي.

خلال فترة ما بعد الحرب، عندما تمتعت الرأسمالية بانتعاش اقتصادي غير مسبوق، قدم حزب العمال، والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأخرى، إصلاحات مهمة، مثل الخدمة الصحية الوطنية المجانية في بريطانيا. لكن تلك الفترة قد انتهت منذ فترة طويلة.

في الوقت الحاضر لم تعد الطبقة السائدة قادرة حتى على السماح ببقاء المكتسبات القديمة، ناهيك عن تقديم إصلاحات جديدة. لقد اختفى اليقين القديم، ومعه اختفى الاستقرار القديم. هناك اضطرابات وأزمات في كل مكان. إن أزمة الرأسمالية هي أزمة الإصلاحية.

دور “اليسار”
تعني أزمة الإصلاحية وانهيار الستالينية أن هناك فراغا في اليسار. وبما أن الطبيعة تمقت الفراغ فلا بد من ملئه. وبما أن التيار الماركسي ما زال يفتقر إلى القوى اللازمة لملء ذلك الفراغ، فإن الإصلاحيين اليساريين سيملؤونه.

لقد تعرضت القوى الماركسية الحقيقية لتراجع كبير، لأسباب تاريخية لا يمكننا التطرق لها هنا. وبسبب ضعف العامل الذاتي، من المحتم أن تتجه الجماهير، عندما تستيقظ على الحياة السياسية، نحو المنظمات القائمة والقادة المعروفين، وخاصة أولئك الذين لديهم أوراق اعتماد “يسارية”.

وبالتالي فإن الفترة الحالية ستشهد صعود التيارات اليسارية الإصلاحية وحتى التيارات الوسطية. لكنها بدورها ستخضع للاختبار من قبل الجماهير، وسوف يكون لها، في كثير من الحالات، مجرد طابع عرضي.

بالنظر إلى هذه الحقيقة، علينا نحن الماركسيين أن نتبنى موقفا مرنا تجاه اليسار، وأن نقدم لهم الدعم بقدر استعدادهم للنضال ضد الإصلاحيين اليمينيين، لكن مع الحرص دائما على انتقادهم عندما يتذبذبون ويقدمون تنازلات غير مقبولة ويتراجعون أمام ضغوط البرجوازية والرأي العام والخونة اليمينيين.

لا يمكن للرغبة في تحقيق تغيير جوهري في المجتمع أن تقتصر على فهم واضح للبرنامج والمنظورات. يجب أن تنطوي أيضا على عنصر قوة الإرادة، أو إرادة القوة: أي الرغبة الواعية في تحقيق النصر، والاكتساح، وإزالة كل العقبات وتغيير المجتمع.

وهذا بدوره يجب أن يقوم على رؤية للمستقبل وثقة كاملة في قدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع. لكن الإصلاحيين اليساريين ليس لديهم أي منهما. ولذلك فإنهم يتلافون بجبن الهدف المركزي.

إنهم يراوغون ويماطلون ويسعون إلى ايجاد حلول وسط، وهي مجرد عبارة أخرى للاستسلام، لأن البحث عن حل وسط حيث لا يمكن إيجاد حل وسط، ومحاولة بناء الجسور بين المصالح الطبقية التي لا يمكن التوفيق بينها، إنما يعني محاولة تربيع الدائرة. الارتياب والغموض والتردد هو ما يشكل جوهرهم. والهزيمة متأصلة في أعماق روحهم ونفسيتهم.

لا يمكنهم، بطبيعة الحال، أن يعترفوا بذلك، حتى ولو لأنفسهم. بل إنهم، على العكس من ذلك، يقنعون أنفسهم بأن طريقهم هو الطريق الصحيح الوحيد، وأن أي مسار آخر سيؤدي حتما إلى الكارثة. إنهم يجدون ألف سبب لخداع أنفسهم، ولنظرا لكونهم مقتنعين جدا فإنهم مسلحون بشكل جيد لخداع الآخرين.

في كثير من الأحيان يكون اليساريون أناسا نزهاء. أوه، أجل! إنهم مقتنعون تماما بصحة حججهم. ويمكن للإصلاحي اليساري النزيه أن يتسبب في ضرر أكبر بكثير من الضرر الذي يتسبب فيه غير النزيه. إن خيانتهم ليست متعمدة أو واعية. لقد وضعت الجماهير كل ثقتها فيهم، وبالتالي فإنهم يدفعونها بشكل أكيد إلى فكي الهزيمة.

لقد كان مارتوف بلا شك رجلا نزيها ومخلصا للغاية، وكان كذلك رجلا لامعا جدا وذكيا. ومع ذلك فقد لعب دورا سلبيا للغاية في تاريخ الثورة الروسية.

حالة اليونان
في فترة الثلاثينيات العاصفة، كانت المنظمات الجماهيرية الاشتراكية الديموقراطية في حالة من الغليان. وقد أدت الأزمة الاقتصادية التي أعقبت انهيار وول ستريت عام 1929، والبطالة الجماهيرية، وصعود الفاشية في أوروبا، إلى بروز الظاهرة المعروفة لدى الماركسيين باسم “الوسطية”، والتي كانت، حسب تعبير تروتسكي، «اسما عاما لأكثر التيارات والتجمعات تنوعا بين الإصلاحية والماركسية».

ومع ذلك فإنه في الفترة الحالية لم تنعكس الحركة الثورية في المجتمع على شكل حركة داخل صفوف المنظمات الاشتراكية الديموقراطية، كما كان الحال في الثلاثينيات. فالحركات مثل بوديموس (Podemos) في إسبانيا، وسيريزا (SYRIZA) في اليونان، وبدرجة أقل الحركة التي تشكلت حول ميلونشون في فرنسا ، قد عكست جزئيا الاستياء المتزايد في المجتمع. لكنهم جميعا كان موقفهم السياسي مرتبكا للغاية، وليسوا سوى انعكاس باهت للتيارات الوسطية التي ظهرت في الثلاثينيات.


في حالة اليونان، في ظل ظروف الأزمة الاجتماعية الخانقة، نما حزب سيريزا، الذي هو حزب يساري صغير ظهر من انقسام يميني عن الحزب الشيوعي الستاليني (KKE)، وتطور بسرعة على حساب الحزب الإصلاحي الجماهيري التقليدي PASOK، الذي فقد إلى حد كبير مصداقيته في نظر الجماهير. وصل سيريزا إلى السلطة في يناير 2015، بعد انتصار ساحق على حزب الديمقراطية الجديدة اليميني.

بعد أزمة عام 2008، كانت اليونان تتأرجح على حافة الإفلاس. كانت من بين البلدان الأكثر تضررا من أزمة الديون السيادية في أوروبا. عرض الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي خطة لإنقاذ اليونان، لكن على حساب فرض إجراءات تقشف قاسية. تسبب ذلك في اندلاع حركة جماهيرية ضخمة ضد التقشف. وعلى عكس حكومة الديمقراطية الجديدة وحكومة باسوك، فإن سيريزا وعد بإنهاء التقشف. لكن ذلك كان مستحيلا في ظل الأزمة الرأسمالية.

رأى القادة الأوروبيون في ذلك تهديدا. كان عليهم سحق سيريزا، لتوجيه تحذير للآخرين مثل بوديموس في إسبانيا، الذين قد يميلون إلى اتباع نموذجها. لقد عقدوا العزم على تقويض الحكومة اليسارية وتدميرها بأي وسيلة ممكنة. وفي ظل تلك الظروف كان من الصواب تماما الدعوة إلى استفتاء لحشد الجماهير خلف الحكومة وضد التقشف.

تم رفض شروط خطة الإنقاذ التي قدمها قادة الاتحاد الأوروبي بشكل حاسم في استفتاء 05 يوليوز 2015، عندما صوت 61% من الشعب بـ”لا”. وبالنظر إلى هذه النتيجة المدوية، من بقي في مقدوره أن يجرؤ على الشك في الروح الكفاحية للطبقة العاملة اليونانية؟ لم يقتصر الأمر على العمال فحسب، بل لقد تم تحركت كل الفئات الشعبية للنضال. كل الفئات باستثناء تلك التي كان من المفترض أن تقود النضال.

لو أن تسيبراس كان ماركسيا، لكان بإمكانه استخدام الحركة لتغيير المجتمع، بدعوة العمال لاحتلال البنوك والمصانع. كان شعب اليونان مستعدا لتحمل المصاعب، مثلما كان العمال الروس على استعداد لتحملها بعد ثورة 1917.

كان من الممكن لسياسة ثورية، مدعومة بإطلاق نداء أممي، أن يكون لها تأثير ملهم على عمال بقية أوروبا والعالم. كانت الجماهير في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وأماكن أخرى، ستستجيب بحماس لنداء التضامن الأممي من طرف الشعب اليوناني المحاصر. كان من الممكن أن تندلع المظاهرات والإضرابات، مما سيجبر المصرفيين والرأسماليين على اتخاذ موقف دفاعي ويفتح الباب أمام الاحتمالات الثورية في كل مكان.

تم طرح المسألة بشكل حاسم: إما النضال حتى النهاية أو التعرض لهزيمة مخزية. لكن الإصلاحيين اليساريين لا يناضلون أبدا حتى النهاية. إنهم يبحثون دائما عن الطريق الأقل مقاومة ويسعون إلى المساومة مع الطبقة السائدة. حاول مفاوضو سيريزا ممارسة الألعاب بالكلمات والمراوغة وتقديم أنصاف حلول لا تحل شيئا. لكن الطرف الآخر لم يكن مهتما بالمساومة.

في النهاية وضعت البرجوازية الأوروبية حدا لمراوغاتهم. وفي مواجهة خيار واضح بين النضال أو الاستسلام، اختار تسيبراس المسار الأخير. فقبل بشروط كانت أقسى بكثير من تلك التي رفضها الشعب اليوناني بحزم في الاستفتاء. وبعد هذه الخيانة الكاملة، قبل تسيبراس وفريقه بخنوع إملاءات بروكسل وبرلين. الشيء الذي أعقبه موجة من الغضب وخيبة الأمل واليأس.

هذه هي النتيجة الحتمية للارتباك اليساري الإصلاحي.

بوديموس
في إسبانيا، أصبحت حركة بوديموس، مثل سيريزا، قوة جماهيرية في فترة زمنية قصيرة، مما يعكس الرغبة الشديدة في التغيير من جانب الجماهير التي تسعى إلى قطيعة تامة مع الماضي.

تأثر القادة الرئيسيون في بوديموس بالثورة البوليفارية في فنزويلا. لكنهم كانوا عاجزين تماما عن استيعاب دروس قوتها، أي الحاجة إلى تعبئة الجماهير برسالة ثورية جريئة.

وبدلا من ذلك لم يقلدوا سوى جانبها الأضعف: أي افتقارها إلى الوضوح النظري، ورسائلها الغامضة، ورفضها ايصال الثورة حتى النهاية. أي أنهم، باختصار، قاموا بنسخ السمات السلبية التي أدت في النهاية إلى إغراق سفينة الثورة الفنزويلية.


بابلو اغليسياس والبرتو غارثون- الصورة لخوسي كاميو
أثارت بوديموس آمال الملايين من الناس. وبفضل الخطاب الراديكالي لزعيمها بابلو إغليسياس، انتقلت من مجموعة غير معروفة إلى احتلال المركز الأول في استطلاعات الرأي. لكن بابلو إغليسياس، والقادة الآخرون في بوديموس، كلما اقتربوا أكثر من السلطة كلما زادوا في تخفيف خطابهم.

وبدلا من النضال من أجل تجاوز الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني، اكتفوا بقبول دور شركاء صغار في حكومة ائتلافية معه. وعوض القيام بقطيعة جذرية مع الرأسمالية، شاركوا في حكومة رأت أن مهمتها الرئيسية هي إدارة أزمة الرأسمالية الإسبانية.

في مقابل بعض الحقائب الوزارية، أصبحت أونيدوس بوديموس (Unidos Podemos) كما يطلق عليها اليوم، مشاركة في المسؤولية في الحكومة التي أرسلت شرطة مكافحة الشغب ضد عمال الصلب المضربين في قادش، وهي الآن تدير الأموال الأوروبية، التي تأتي مصحوبة بقيود التقشف.

ونتيجة لذلك تراجع الدعم الشعبي لأونيدوس بوديموس، وصار الحزب في أزمة مستمرة وفقد معظم قاعدته النشطة. لم يعد الآن سوى صدفة فارغة مقارنة بما وعد به في البداية. لقد تم تبديد الإمكانات الثورية الكامنة في الحركة، مما أدى إلى إحباط واسع النطاق بين صفوف العمال والشباب الأكثر تقدما. هذه هي النتيجة المنطقية للإصلاحية اليسارية.

دروس كوربين
كان أبرز نجاح للإصلاحية اليسارية هو انتخاب جيريمي كوربين زعيما لحزب العمال. النقطة الأساسية هنا هي أن كوربين تمكن من الاستناد على مشاعر السخط العميقة ضد المؤسسة الرسمية والوضع القائم. حقق نصرا حاسما، حيث حصل على ما يقرب من 60% من الأصوات في انتخاب القيادة. وفجأة انفتحت البوابات وانضم مئات الآلاف من الأعضاء الجدد إلى الحزب من أجل دعمه. كان هؤلاء مستعدين وراغبين في النضال ضد اليمين.


كانت الطبقة السائدة مرعوبة. وكانت الظروف مهيأة للقيام بتحول جذري وعميق لحزب العمال. بدأ نقاش حول تبني خطط لإعادة انتخاب إلزامية لنواب حزب العمال، وعزل النواب الذين يخرجون عن خط الحزب، وترسيخ سلطات قواعد الحزب. كان الجناح اليميني في حالة من اليأس. وغادر عدد من النواب البليريين الحزب.

إلا أن الإصلاحيين اليمينيين حصلوا على دعم الطبقة السائدة ووسائل الإعلام، التي نظمت حملة شرسة ضد كوربين بهدف إجباره على الاستقالة. وكانت النتيجة هي اندلاع حرب أهلية داخل حزب العمال، لكنها كانت ذات طابع أحادي الجانب.

في ظل هذه الظروف بدا الانقسام داخل حزب العمال أمرا لا مفر منه. كان من الواضح أن البليريين كانوا يستعدون لذلك. كان منظرو رأس المال قد وصلوا بالفعل إلى النتيجة المنطقية. لكن كل ذلك لم يؤد في النهاية إلى أي مكان. لقد تم سحق الكوربينيين من طرف اليمين. لماذا؟ كيف كان ذلك ممكنا، في حين كان كوربين يتمتع بدعم هائل في صفوف حزب العمال؟ تكمن الإجابة في طبيعة الإصلاحية اليسارية.

كان الدور الأكثر شؤما هو ذلك الذي لعبته حركة الزخم المؤيدة لكوربين. كان من الممكن لها أن تصبح نقطة محورية لآلاف النشطاء. عقدت اجتماعات كبيرة لحركة الزخم في أنحاء مختلفة من البلاد، حيث ساد مزاج الغضب والراديكالية.

لكن اليمين أظهر كل العزيمة التي كانت غائبة بشكل واضح عند اليساريين. كان قادة حركة الزخم خائفين من القواعد أكثر من خوفهم من اليمين. لقد داسوا في كل خطوة على الفرامل وخربوا الحملة لعزل النواب اليمينيين لحزب العمال، التي كان الماركسيون يطالبون بها باستمرار منذ البداية وتلقت دعما واسعا بين قواعد الحزب. نتيجة لذلك وجد أعضاء الحزب أنفسهم يصارعون وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم.

لكن العنصر القاتل كان هو الدور الذي لعبه كوربين نفسه. لم يكن اليساريون، وعلى رأسهم كوربين نفسه، مستعدين لخوض نضال جاد ضد برلمانيي الجناح اليميني لحزب العمال. دافع قادة حركة الزخم عن خيانتهم بالقول: “لقد تراجعنا عن حملة العزل لأن جيريمي طلب من الأعضاء ذلك”.

كان العذر هو “نحن مع الوحدة”. كانوا يخشون حدوث انشقاق مع برلمانيي الجناح اليميني في حزب العمال. لكن ذلك الانشقاق كان ذلك ضروريا تماما، وإلا فإن مكاسب اليسار سوف تتعرض للتدمير بشكل كامل. وهذا بالضبط ما حدث.

كان اليمين يعرف بالضبط أين يقف. لقد انتهج سياسة عدوانية ضد اليسار، وضد الماركسيين على وجه الخصوص، وكان على استعداد للذهاب حتى النهاية، بغض النظر عن أي عواقب.

غني عن القول إنه عندما انخرط اليمين في الهجوم، فإنه لم يبد أي علامة من علامات الجبن التي أظهرها اليسار. لقد شنوا هجوما شرسا، مستخدمين كل قوة وسائل الإعلام البرجوازية لتشويه كوربين وتحطيم سمعته. وفي النهاية طردوه مع عدد كبير من اليساريين.

وبطبيعة الحال فقد كان التيار الماركسي هو الهدف الرئيسي لذلك الهجوم. تم حظر منظمة Socialist Appeal، لكنها نظمت هجوما مضادا فعالا للغاية، وحصلت على الكثير من الدعم. وعلى النقيض من ذلك فقد تصرف اليسار بطريقة جبانة، ورفض النضال ضد حملة التطهيرات التي شنها ستارمر، والتي قام بها حتى النهاية.

الأزمة في بريطانيا
مسلسل كوربين، الذي بدأ بوعود كبيرة، انتهى بهزيمة مشينة. غادر آلاف الأشخاص الحزب في حالة من الاشمئزاز وسحق اليسار بالكامل. وأفسحت الأوهام الضخمة التي أثارها كوربين الطريق أمام انتشار مزاج من التشكيك العميق في حزب العمال.

ومع تفكك اليسار صار الوضع الحالي الآن يتجه في مسار مختلف تماما. لكن هذه ليست نهاية القصة. فلأسباب موضوعية وذاتية أصبح من الواضح الآن بشكل متزايد أن بريطانيا هي أحد العناصر الرئيسية في أزمة الرأسمالية الأوروبية -إن لم تكن العنصر الأساسي. فقد تحولت من البلد الأوربي الأكثر استقرارا قبل بضع سنوات فقط، إلى ربما البلد الأكثر اضطرابا اليوم. هي الآن واحدة من أضعف الحلقات في سلسلة الرأسمالية الأوروبية.

إن العمال بعد هزيمتهم على الصعيد السياسي، بدأوا الآن يتجهون إلى النضال على الجبهة النقابية. وصرنا نشهد بداية التجذر في النقابات. أزمة حكومة جونسون ستؤدي حتما إلى سقوطها.

بلا شك سوف يتأرجح البندول نحو اليسار مجددا في المستقبل، خاصة إذا وصل حزب العمال، بقيادة كير ستارمر والبليريين، إلى السلطة في ظل ظروف أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة. سيؤدي ذلك إلى كشف كل التناقضات الداخلية في حزب العمال، التي بقيت مغمورة مؤقتا، والتي يمكن أن تعود إلى الظهور بشكل انفجاري في المستقبل.

سيفتح هذا الوضع إمكانيات حقيقية أمام التيار الماركسي. كل شيء يعتمد على قدرتنا على النمو. وقد صار تحقيق نمو سريع ممكنا الآن. ورغم أن الفرع البريطاني للتيار الماركسي الأممي ما زال فاعلا متواضعا للغاية في الموقف الحالي، فإنه يمتلك قاعدة صلبة من الكوادر المتمرسة، وقد بنى قاعدة قوية بين الشباب، ومنظمة وطنية وجريدة معروفة داخل الحركة العمالية.

وعلى أي حال فإن قوانا أكبر بكثير من تلك التي كانت لدى تروتسكي في بريطانيا خلال الثلاثينيات، ولديها مستوى أعلى بكثير. وبالتالي فإنه مع التكتيكات الصحيحة، سوف تكون احتمالات النمو عظيمة للغاية.

تغير المزاج
إن الأزمة الحالية ـ والتي لديها طابع العالمي- تختلف نوعيا عن أزمات الماضي. خلال العامين الماضيين، كان الملايين من الناس العاديين يتعلمون ببطء، لكن بثبات. وفي كل مكان، تحت سطح الهدوء الظاهري، هناك تراكم لسخط هائل. يستحوذ على الجماهير مزاج من الغضب والسخط والشعور الملتهب بالظلم، وقبل كل شيء خيبة الأمل، قدر هائل من خيبة الأمل.

إنهم يقولون القليل، لكنهم متذمرون ويعبرون عن أن الوضع الحالي لم يعد محتملا. وصارت تنتشر بسرعة الفكرة التي مفادها أن هناك شيء ما خاطئ في المجتمع الحالي. رغم أنهم، في المدى القريب، وكقاعدة عامة، ليسوا مستعدين بعد لاتخاذ إجراء مباشر ضد النظام القائم.


لكنهم، عاجلا أم آجلا، بوجود القيادة اللازمة أو بدونها، سوف ينتقلون إلى الفعل ليأخذوا مصيرهم بأيديهم. ولقد سبق لنا بالفعل أن رأينا العديد من الأمثلة على ذلك. ففي السنوات القليلة الماضية رأينا حركات ثورية أو ما قبل ثورية قوية في تشيلي والسودان وميانمار ولبنان وهونغ كونغ، وغيرها.

وأحدث إضافة إلى هذه القائمة كانت هي الانتفاضة الشعبية في كازاخستان مطلع العام الجاري، والتي بدأت باحتجاجات عمال النفط على ارتفاع أسعار الوقود. كان ذلك تحذيرا. ونفس الضغوط التي أدت إلى تلك الانتفاضة موجودة في العديد من البلدان الأخرى.

تدرك الطبقة السائدة الخطر المحدق، ومنظرو رأس المال يقدمون تنبؤات قاتمة للعام المقبل. تعرضت الحركة العمالية للعرقلة لبعض الوقت بسبب جائحة كورونا. لكن هناك الآن مؤشرات على عودة الصراع الطبقي للنهوض. ويمثل ارتفاع الأسعار وانخفاض مستويات المعيشة حافزا لتصاعد الإضرابات.

وقد قوبلت الدعوات الديماغوجية إلى “الوحدة الوطنية” بالتشكيك، مع انفضاح كلبية وجشع وأنانية الطبقة السائدة أثناء الجائحة. حالة خيبة الأمل والغضب التي كانت تتراكم باطراد بدأت تصعد الآن إلى السطح. وقاعدة دعم الوضع القائم والحكومات والقادة الحاليين في تراجع سريع. لكن كل هذا لا يؤدي تلقائيا إلى ثورة اشتراكية ناجحة.

قال تروتسكي ذات مرة عن الثورة الإسبانية إن العمال الإسبان كان بإمكانهم الاستيلاء على السلطة، ليس مرة واحدة فقط، بل عشر مرات. لكنه أوضح أيضا أنه بدون قيادة مناسبة، سوف تضيع حتى أكثر الإضرابات قوة دون أن تقدم أي حل.

مرحلة مطولة من الثورات والثورات المضادة
هناك العديد من أوجه التشابه بين فترة عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وبين الوضع الحالي. لكن هناك أيضا اختلافات مهمة. فقبل الحرب العالمية الثانية، لم يكن من الممكن أن يستمر وضع ما قبل ثوري لفترة طويلة، كان ذلك الوضع يحسم بسرعة إما بحركة في اتجاه الثورة أو في اتجاه الثورة المضادة (الفاشية).

لكن الوضع لم يعد كذلك اليوم. فمن ناحية، تفتقر الطبقة السائدة اليوم إلى القاعدة الاجتماعية الجماهيرية للردة الرجعية التي كانت لديها في الماضي. ومن ناحية أخرى فإن الانحطاط غير المسبوق للمنظمات العمالية صار يعمل كحاجز صلب يمنع البروليتاريا من الاستيلاء على السلطة. ولذلك فإن الأزمة الحالية سوف تكون طويلة الأمد. يمكنها أن تستمر لعدة سنوات، مع فترات مد وجزر، على الرغم من أنه من المستحيل تحديد المدة بدقة.

إلا أنه عندما نقول إن الأزمة ستستمر لفترة طويلة، فهذا لا يعني على الإطلاق أنها ستكون سلمية وهادئة. بل على العكس تماما! لقد دخلنا الفترة الأكثر غليانا واضطرابا في تاريخ العصر الحديث. سوف تؤثر الأزمة على جميع البلدان الواحد منها تلو الآخر. وسوف تتاح للطبقة العاملة العديد من الفرص لاستيلاء على السلطة.

التغيرات المفاجئة والحادة متضمنة في الوضع الحالي، والذي يمكن أن يتغير في غضون 24 ساعة. ويجب علينا أن نعترف بنزاهة بأننا نواجه خطر الوقوع في الروتين، والاكتفاء باستخدام نفس الأساليب القديمة بشكل سلبي والفشل في الاستفادة من الفرص الجديدة التي تتاح لنا.

يجب على الماركسيين، في مثل هذه الفترات، أن يظهروا أقصى مستويات الطاقة والتصميم والمرونة التكتيكية، وأن يصلوا بجرأة إلى الفئات التي بدأت تتحرك في الاتجاه الثوري.

يمكن للوضع الحالي أن يستمر لعدة سنوات دون التوصل إلى نهاية حاسمة. لكن هذا التأخر ليس بالأمر السيء. بل إنه على العكس في صالحنا بشكل كبير، لأنه يمنحنا الوقت الضروري -على الرغم من أنه لا يمنحنا وقتا لا نهائيا!- لبناء وتقوية منظمتنا؛ لكسب أفضل العمال والشباب وتثقيفهم وتدريبهم.

يمكن للمرء أن يرى في كل مكان أزمة الحكومات، وتصاعد مزاج نقدي بين الجماهير موجه ضد المؤسسات الرسمية وجميع أجهزتها. هذا هو الحال بشكل خاص بين الشباب، الذين هم الأكثر انفتاحا على الأفكار الثورية الأكثر تقدما.

لقد بدأت سيرورة التعلم العظيمة. قد يبدو أنها تسير ببطء. لكن التاريخ يتحرك وفقا لقوانينه الخاصة وبسرعاته الخاصة، والتي تحددها عوامل كثيرة، ليس من السهل دائما تحديدها مسبقا.

لقد تلقينا العديد من التقارير عن ظهور حركة نحو الشيوعية بين الشباب. وحتى في الأجزاء الأكثر محافظة في الجنوب العميق للولايات المتحدة، هناك فئات مهمة من الشباب الراديكالي الذين بدأوا في اعتبار أنفسهم شيوعيين.

هذه ليست ظاهرة معزولة. هذه أعراض رئيسية تكشف عن أن شيئا مهما للغاية يتغير في المجتمع، ويجب على الماركسيين إيجاد طريقة للاستفادة منه.

فلنبن التيار الماركسي الأممي!
علينا أن نواجه الحقائق: لقد تراجع العامل الذاتي بفعل سلسلة من العوامل الموضوعية، التي لا نحتاج إلى شرحها هنا. وهذا العامل الذاتي موجود بشكل منظم في صفوف التيار الماركسي الأممي، وإن في حالة جنينية على الأقل.

لكن الجنين ليس سوى إمكانية مجردة. ولكي نحقق هدفنا ونصبح قوة فعلية في الصراع الطبقي، يجب علينا أن نتقدم إلى ما بعد هذه المرحلة.

لقد حقق التيار الماركسي الأممي مكاسب رائعة. فنحن ننمو في جميع البلدان، بينما جميع المجموعات اليسارية المزعومة الأخرى، التي تخلت عن الماركسية منذ زمن طويل، تعيش أزمة، وتنقسم وتنهار في كل مكان.

لقد تحقق تقدمنا ​​بفضل موقفنا الحازم تجاه النظرية وتركيزنا على الشباب. فكما قال لينين: من لديه الشباب لديه المستقبل. ومع ذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأننا لسنا مستعدين بعد لمواجهة التحديات الهائلة التي ستواجهنا عندما لا نتوقعها.

لكي تستفيد المنظمة الثورية بشكل كامل من الوضع الثوري أو الما قبل ثوري، من الضروري عليها أن تمتلك حدا أدنى، على الأقل، من الكوادر ذات الخبرة ومنظمة قادرة على الحياة.

إن المنظمة الثورية التي تطمح إلى لعب دور قيادي تحتاج إلى حجم معين يمكن للطبقة العاملة أن تراه. ومثل تلك المنظمة لا يمكن ارتجالها أو بناؤها بسهولة في خضم الأحداث.

كل شيء في آخر المطاف يعتمد على مدى نمونا. وهذا سوف يستغرق وقتا. كتب تروتسكي في نوفمبر 1931: «إن الوقت، في الوضع العالمي الحالي، هو أثمن المواد الخام». وهذه الكلمات هي اليوم أكثر راهنية مما كانت عليه في أي وقت آخر في التاريخ.

يجب علينا أن نتحلى بشعور الاستعجال. لأنه إذا لم تكن قوانا كافية لمواجهة تحديات السنوات القادمة، فستضيع فرص مهمة. يجب أن نكون مستعدين! يجب أن يكون شعارنا هو شعار الثوري الفرنسي العظيم دانتون:

“De l’audace, encore de l’audace, et toujours de l’audace!”

«الجرأة، والمزيد من الجرأة، والجرأة دائما!».

هوامش:
[1]: Trotsky, The History of the Russian Revolution, Chapter 43, ‘The Art of Insurrection’

[2]: Engels, 24 October 1891

[3]: V. I. Lenin, What Is to Be Done?, Wellred Books, 2018, p. 26.

[4]: Ibid., p. 27.

[5]: Lenin, Collected Works, vol. 36, p. 437 –خط التشديد من عندي: آ. و-