هل حقا لايعرف البابا ماذا فعل؟

معقل زهور عدي
2006 / 9 / 18 - 09:49     


بابا الفاتيكان ليس سياسيا من الدرجة الثانية ، أو جنرالا متهورا ، أو أحد المتعصبين الحمقى من أمثال زعماء منظمة كوكلاس كلان العنصرية الأمريكية ، وهو بالتأكيد ليس جاهلا أو رجلا عاديا لاوزن لكلامه . اذن لماذا هذا الهجوم المكشوف على الاسلام بطريقة استفزازية غير مسبوقة ؟

في الوقت الراهن يجهد كل عقلاء الأرض لاغماد السيوف المشرعة لحروب الحضارات واستبدالها بحوار الحضارات ، ولشدة المفاجأة تقرع طبول الحرب هذه المرة من البيت الذي يفترض ان يكون قلعة للسلام ( بيتي محراب للعبادة وانتم جعلتموه وكرا للأفاقين واللصوص – السيد المسيح ).

يظهر تصريح البابا كم أصبح عالمنا فاقدا للبصيرة والحكمة ، وكم تمكنت قوى العولمة من جرف كل القيم الأخلاقية والمصالح الانسانية العليا أمامها لتقود البشرية نحو قدر مجهول مظلم .
قبل غزو العراق كانت السياسة الأوربية (عدا البريطانية) تلهث لعقلنة السياسة الأمريكية من اندفاعاتها العسكرية المجنونة ، اليوم تلهث السياسة الأوربية وراء السياسة الأمريكية لتلتقط فتات موائدها بعد ان تبتلع وحشيتها ولاعقلانيتها بصمت وتواطىء.

أيضا شهدنا كيف تحول مجلس الأمن الدولي الى سيرك للرقص والبهلوانيات والتصفيق للارادة الأمريكية بدون حتى محاولة نقاشها بصورة جدية ، وفي آخر حفلة له وقف كوفي عنان ليضع مصير لبنان كدولة ذات أربعة ملايين نسمة بكل بشرها ومؤسساتها في كفة ومصير الجنديين الاسرائيليين المختطفين في كفة أخرى دون خجل.

لقد استبان لنا في حرب لبنان الى أي حد ابتذلت الكرامة الانسانية ، ووضعت القيم النبيلة وحرمة الدم البشري تحت الأقدام ليس من قبل أمريكا فحسب بل من قبل عالم أصبح فاقدا للمناعة ضد وحشية وجبروت القوة.

هل كان كل هذا التدهور في التمسك بالقيم والمثل الانسانية الذي يتزايد كل يوم في انتظار كارثة مثل كارثة 11ايلول – سبتمبر-2001- لينكشف وينطلق نحو هاوية لاقرار لها .

اذا كان يحق لأمريكا لأجل الانتقام من مقتل 3000 شخص في كارثة 11/9/2001 أن تغزو بلدين هما أفغانستان والعراق وتحتلهما حتى الآن وتقتل مئات الألوف من السكان الأبرياء ألا يحق لاسرائيل أيضا من أجل خطف جنديين أن تغزو لبنان وتدمره من شماله الى جنوبه انه المنطق ذاته وحضارة الرجل الأبيض في طبعتها المتعولمة.

للوهلة الأولى يخطر بالبال أن البابا قد يئس من حوار الحضارات وقرر الانتقال الى ميدان صراع الحضارات ، وتصريحاته الأخيرة تصلح كاشارة انطلاق لعهد جديد . عهد الانخراط في حرب لاهوادة فيها مع الاسلام من أجل تصفية الحساب معه أو على الأقل تحويله الى ديانة مقبولة بقص الأجزاء ( الضارة ) منها وفق مواصفات الفاتيكان .

الحقيقة أن تصريحات البابا أظهرت بجلاء أن رياح العولمة العاتية وصلت الى الفاتيكان بعد ان عصفت بالاتحاد الأوربي والأمم المتحدة ، وان المؤسسة المسيحية الأولى في العالم قد خلعت عباءة الراهب ولبست درع الحرب للأسف الشديد.

شعور عميق بالأزمة والخطر بدأ يسري كالوباء في النخب السياسية والعسكرية الأمريكية وليس السبب خافيا
الفشل في أفغانستان والعراق وفشل اسرائيل في لبنان .

عواقب تلك الهزائم أكبر من ان تتحملها الطبقات والنخب الحاكمة والمسيطرة ، لذا فهي بحاجة ماسة لتعبئة المجتمع الأمريكي والأوربي وراء سياستها المجرمة المجنونة ولا تريد لأصوات العقل ان تجد أذنا صاغية ، وهل أفضل من أجل ذلك من اثارة المشاعر الدينية المتعصبة ؟

لكن مالا تنتبه اليه تلك السياسة العسكرية قصيرة النظر أنها تقوم في ذات الوقت بتعبئة العالم الاسلامي ضدها وقطع الطريق على دعوات الاعتدال والحوار.

من ترتيلة للسلام الى بوق للحرب هذا هو اختيار البابا الجديد فهل ستستمع اليه جماهير سئمت الحروب وسفك الدماء والدخول في مغامرات لانهاية لها؟

وأخيرا سوف يتكلم كثيرون في محاججة البابا والرد عليه وسأترك ذلك لهم لكنني سأكتفي بالقول لبابا الفاتيكان على فرض ادعائه تمثيل الحضارة المسيحية الغربية ، ان الحضارة التي أنتجت محاكم التفتيش في اسبانيا بعد سقوط الأندلس وفرنسا على عهد لويس السابع والحروب الصليبية التي استمرت مئات السنين يجب ان تشعر ببعض الخجل حين تنتقد الآخرين بزعم نشرهم لمعتقداتهم بالعنف.
هوامش :
1- بعد سقوط غرناطة آخر امارة اندلسية بدأت الكنيسة بتنظيم فرق لتنصير المسلمين, والضغط بالوعد والوعيد على وجهاء المدينة وفقهائها ليتنصروا، حتى تم تعميد جميع الأهالي بالقوة بين العامين 1500-1501م.
وقد تعسفت محاكم التفتيش في أعمال التعذيب والإعدام، حيث كانت تحرق أحيانا المتهمين بصورة جماعية في مواكب الموت، وأحيانا تحرق عائلات بأكملها بأطفالها ونسائها. وكانت تحاكم الموتى فتنبش قبورهم، وعندما أصدر البابا (أنوسنت) الرابع قراره المعروف بإباحة تعذيب المسلمين، حتى وإن ارتدّوا عن دينهم وأقروا باعتناق المسيحية. وكان التعذيب يجري بلا قواعد، حيث أنشئت محاكم التفتيش لهذا الغرض.
2- ذكر مؤرخ صليبي ممن شهد المذابح في القدس أثناء الحروب الصليبية وهو ريموند أوف أجيل أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد (المسجد الأقصى) غداة المذبحة في القدس الشريف، لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه. وإلى مثل هذا القول أشار وليم الصوري، وهو أيضا من مؤرخي الحروب الصليبية.