لكي لا يبقى القتلة بمنأى عن العقاب! رسالة مفتوحة إلى الصديق، وزير المال الحالي، د. يوسف الخليل


كميل داغر
2022 / 5 / 30 - 13:36     

لكي لا يبقى القتلة بمنأى عن العقاب!
رسالة مفتوحة إلى الصديق، وزير المال الحالي، د. يوسف الخليل
===========
أظن أني تأخرت كثيراً في الكتابة إليك، ليس لأهنئك، بالتأكيد، بالمنصب الرفيع الذي حُزته، بدعمٍ، على ما يخيَّل إليّ، من كل من الثنائي الشيعي، وحاكم المصرف المركزي، اللاصق بمقعده في "بيت المال" اللبناني من حوالى الثلاثين عاماً، بل لأعبر لك عن ذهولي لقبولك تحمل هذه المسؤولية، ولبنان قد انحدر إلى عمق هاويةٍ وصفها احد المتسببين بإيصاله إلى هذا المآل، القابع في أعلى تلة من تلال بعبدا، ب"جهنم"! ذلك أنك لن تتمكن من أن تحقق في الموقع الذي وُضعت فيه أياً من الأحلام التي كانت تراودك يوم كنت في مقتبل شبابك، وحين اقتربت كثيراً من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وهي في أوج تجذرها، وبالتالي قبل أمدٍ بعيد من الانحطاط الذي بلغتْه، ولا سيما بعد وفاة مؤسسها، الدكتور جورج حبش. ستحقق فقط إملاآت الثلاثة المشار إليهم أعلاه، والذين "رفعوك" إلى حيث أنت الآن! وهو ما يظهر واضحاً في كل ما فعلته منذ لحظة وصولك إلى المبنى الكائن، في أحد التفرعات عن ساحة رياض الصلح، على مقربة من المجلس النيابي، حيث يتربع، كذلك، واحد من الثلاثة هؤلاء، على المجلس المذكور، منذ ثلاثين عاماً.
بين أهم هذه الأفعال، لا بل أهمُّها أمورٌ ثلاثة:
1- الموازنة العامة، وربما هي أسوأ الموازنات في تاريخ لبنان، منذ عام الاستقلال عن الدولة المنتدبة سابقاً عليه، فرنسا، في خريف العام 1943. ولن أستفيض في شرح الأسباب الكامنة وراء هكذا استنتاج، مكتفياً بالقول إنكم(أي أنت ومن وضعك في هذه المسؤولية)، في الوقت الذي جرى فيه إيصال الشعب اللبناني إلى هذه المأساة، من جانب عصابة من مصاصي الدماء، نهبت الأخضر واليابس من خيرات الشعب المذكور ومقومات عيشه، وانحدرت به إلى مهاوي الجوع والبؤس، عمدتم إلى مساواته، على صعيد الضرائب والرسوم، مع من سبق ان سماهم، ذات يوم، واحدٌ منهم، السيد وليد جنبلاط، بحيتان المال، غير مستثنٍ نفسه من هذا الوصف. وابقيتم على كل المسارب التي تسمح لمن في السلطة ومواقع القرار فيها بإهدار أموال المواطنين، الباقية، واستنزافها، وسرقتها. وبالطبع، مع استبعاد أي مسعى لاستعادة المنهوبات الهائلة التي اختلسها قادة البلد، ومصرفيوه، ورجال أعماله الكبار، وهرَّبوها إلى الخارج، بتواطؤ من جانب القائمين على المصرف المركزي.
2- مشروع "الكابيتال كونترول"، الذي يحابي أصحاب المصارف، والمودعين الكبار، والدولة، الممثلة بالمصرف المركزي، ولا يعطي حتى أي وعد على قدر ولو ضئيل من الجدية بضمان إرجاع ودائع المودعين المتوسطين والصغار، لا بل يشملهم، ولو بصورة غير مباشرة بعملية "قص الشعر"، ، وإن بشكل متفاوت. كما لا يتضمن أيَّ اهتمام بالتعويض على الناس العاديين الذين نزل مستواهم المعيشي إلى أدنى درك، وهبطت قيمة جنى عمرهم، ورواتبهم، وغير ذلك من مصادر عيشهم، إلى مستويات مزرية، بفعل التضخم الهائل الذي اصاب العملة الوطنية.
3- المشاركة، عن كثب، بمسعى التعتيم على حقيقة ما جرى في الرابع من آب 2020، وقبله وبعده، عبر رفض التوقيع على مرسوم تعيين قضاة محاكم التمييز، مع ما يعنيه ذلك من منع مواصلة التحقيق في الجريمة الكبرى التي اقتُرفت آنذاك، وضرب دور القضاء في إحقاق الحق، وفي الحيلولة دون إعفاء المجرمين الحقيقيين من العقاب. وهو ما يستمر في الحصول لدينا منذ عشرات السنين، على صعيد الكثير من جرائم الاغتيال، الفردية والجماعية.
صديقي، الدكتور يوسف الخليل
إذ أستعرض هذه الصورة البالغة الكآبة، الواردة أعلاه، أتذكر المرة الأولى التي تعرفت إليك فيها، قبل سبعة وعشرين عاماً، وبالتحديد في شتاء العام 1995. وقد كان ذلك بعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الذي كان يتحلق حوله، في اوروبا الشرقية، وبعد تراجع الصين، هي الاخرى، عملياً، إلى الرأسمالية. وقد لعب ذلك دوراً كبيراً في إحباط الكثيرين ممن كانوا يؤمنون ان البلدان المذكورة سبق أن حققت الاشتراكية، أو تسير حثيثاً في اتجاه إنجاز تحولها إليها. لا بل إن عديدين بينهم أعلنوا تخليهم ليس فقط عن هذه القناعة، بل كذلك عن تبنيهم للفكر الماركسي، ولقضية النضال لتحقيق الثورة الاشتراكية، في بلدانهم، كما على الصعيد العالمي. وقد أثَّر ذلك جداً، وبصورة سلبية، في الاستعدادات النضالية، وفي مستوى المعنويات، كما في الاستيعاب النظري للفكر الماركسي، وأشكال النضال لوضعه موضع التطبيق. الامر الذي جعل رهطاً ممن ظلوا على قناعاتهم الاصلية يتنادون للتلاقي في ما سُمِّيَ مسعى إعادة إعمار اليسار.
كان اللقاء يجمع العشرات من المهتمين بهذا المسعى، وذلك من توجهاتٍ شتى. فالبعض كانوا من الخارجين من تجربة العمل في إطار "منظمة العمل الشيوعي"، وكان آخرون من الحزب الشيوعي اللبناني، وآخرون من "التجمع الشيوعي الثوري"، وغيرهم من حزب العمل الاشتراكي العربي، وآخرون من المستقلين، حسبما وصفوا انفسهم، علماً أن بعضهم سبق أن مروا بتجارب في منظمات أو تجمعات متنوعة أخرى. أما انت فحسبت نفسك بين المستقلين.
ولكن العديد ممن حضروا الجلسات الأولى سرعان ما انكفأوا إلى حالةٍ انتظارية، ولم نعد نراهم في الاجتماعات. اما انت فواظبت على حضورها، لا بل سرعان ما عرضْتَ استضافتنا في بيتك الواسع، وقبِلَ بذلك الجميع. وبقينا نجتمع لديك أشهراً، لنقاش نصوص سياسية ونظرية ترتبط بالوضع اللبناني، والآفاق المستقبلية للنضال على صعيده، كما على الصعيدين الإقليمي والعالمي. نصوصٍ كلف بعضنا بكتابتها، كان من بينها دروس الحرب الأهلية فيه، وقد كتب نصها، إذا لم تخُنّي الذاكرة، الرفيق فواز طرابلسي، وجرت مناقشة هذا النص، وتم إقراره مع بعض التعديلات، ليكون واحداً من سلسلة نصوص تحدد مسار الحالة التي كان من المفترض أن تنشأ عن ذلك اللقاء. أما النص الوحيد الآخر الذي تم إنجازه فقد كلف اثنان بوضعه، الرفيق الراحل جورج بطل وأنا. وكان عن انهيار الاتحاد السوفييتي، ودروسه ونتائجه. وقد كتبته أنا، وطلب الرفيق جورج تعديلات شكلية قليلة له، في لقاء جمعني به، في مكتبي السابق في شارع عبد العزيز- الحمرا. لكن هذا النص الذي تم توزيعه على الجميع، وتم تحديد موعد لمناقشته، لم يُناقش، لأن الاجتماعات توقفت- مؤقتاً؟- بطلب من رفاق الحزب الشيوعي، الذين كانوا يودون الانصراف كلياً، للعمل الانتخابي، تمهيداً لانتخابات ربيع1996 النيابية!
غير أن المؤقت صار نهائياً. إلا أنني بقيت على تواصل معك اكثر من عشرين عاماً، وظللتَ انت تحضر، ولو في اوقات متباعدة، ندواتنا الفكرية والسياسية، وإن لم أكن اطمح إلى أن تتخطى العلاقة بيننا تبادل الآراء والافكار. بالمقابل كنت أسمع منك احياناً عن تجربتك مع صيادي صور، الذين اهتممتَ، على ما أذكر، بإيجاد رابط يجمعهم، ويساعد في تحسين أوضاعهم المعيشية. وفي هذا الإطار، أخبرتني ذات يوم عن الحديقة العامة التي أنشأوها، بحيث يلهو فيها اولادهم، ويرتاح على مقاعدها شيوخهم، وأي مواطن يود الخلود إلى الهدوء فيها، وسماع زقزقة العصافير.
صديقي الدكتور يوسف
أظن أن عديدين يقفون الموقف ذاته الذي أقفه الآن، إزاء التحولات التي طرأت على قناعاتك وأفعالك، في السنوات الأخيرة، إذ قبل ان توافق على تسلم وزارة المال، في عز الانهيار المالي الذي اصاب لبنان، كنت قد شاركت، من موقعك كمدير في البنك المركزي للعمليات المالية، في وضع الهندسات المالية التي لعبت دوراً وازناً في بلوغنا الدرك الذي بلغناه. وأظن أنهم، هم أيضاً، يشعرون بالألم نفسه الذي يحز في نفسي، أنا شخصياً، وأنا أرى ما يحصل، ولا سيما في مرحلة بلغت حدود الكارثة، في بلدنا، إذا لم يكن الفاجعة. والمستقبل ينذر بأكثر من ذلك، وربما بما وصفه الرئيس الحالي للجماعة التي تحكم بلدنا، ميشال عون، حين سئل إلى أين نحن ذاهبون، فأجاب على الفور: إلى جهنم! وهو ما قد يحصل، على الأرجح، إذا نجح هؤلاء في الاحتفاظ بالسلطة، واستمروا يحظون بمساندة نسبة مؤثرة من الكوادر الذين كان يمكن، على العكس، أن يلتحقوا يمن سمّاهم أنطونيو غرامشي "المثقفين العضويين"، وانت واحد منهم، وربما بين أهمهم!
صديقي الدكتور يوسف
إن العالم يتغير، والناس لا بد من أن تدافع عن نفسها، ضد سيرورة الهبوط إلى الجحيم. وهو ما أظهرته الثورات الشعبية، على امتداد العديد من البلدان العربية، منذ العام 2011، وأيضاً في لبنان في 17 تشرين الاول 2019، وما بعد ذلك التاريخ. وعلى الرغم من الاعتقاد الخاطئ لعديدين، فانتفاضة 17 تشرين تركت أثراً عميقاً في الواقع اللبناني، عبر عن نفسه أخيراً بنتائج انتخابات 15 أيار الجاري. وهي قد تتجدد، مثلما ستتجدد الثورات العربية، إلى حين يقيض لها الظفر.
وأنا أعتقد أن التحولات اليمينية التي طرأت لدى كثيرين ممن كانوا ينحازون إلى القضايا الشعبية كان سببها اليأس لديهم من بطء التطورات، في الاتجاه الثوري. ولكن الواقع الآن يأخذ منحى آخر، والناس الذين يعانون البؤس والإذلال، وشتى صنوف القهر، سينتفضون في كل مكان، و"يقتحمون السماء"، بحسب الوصف الذي أعطاه ماركس لمقاتلي كومونة باريس، في ربيع العام 1871. وكم أتمنى أن تكون عندئذ بينهم، لا في المعسكر الآخر.
لأجل ذلك، إن 220 قتيلاً، في انفجار الرابع من آب 2020، وآلاف الجرحى والمعوقين، ومئات الألوف من المهجرين من بيوتهم المدمرة، يتطلعون إلى أن تنحاز إليهم، لمعرفة حقيقة ما حصل، وتحديد المسؤولين عن هذه الجريمة النكراء، التي تأتي، من حيث حجمها وآثارها، في الدرجة الثالثة، بعد انفجاري هيروشيما وناكازاكي. وهو ما يلقى الإجماع لدى الناظرين إليها.
هذا وليس هؤلاء وحدهم من يناشدونك أن تنجز هذا الاصطفاف الجديد، في الموقف من مرسوم تعيين قضاة التمييز، بدلاً من الاهتمام بالتوزيع الطائفي، وخرافة الميثاقية، على غرار مسعوري المذاهب والطوائف. هذا المرسوم الذي رفضتَ إلى الآن ان تضع توقيعك عليه، بضغطٍ من الجهة نفسها التي وافقتَ على ترشيحها إياك إلى موقعك الحالي في وزارة المال – بما يؤدي إلى الحيلولة دون ظهور الحقيقة، وقطع الطريق أمام جرائم مماثلة قد يقترفها اولئك الذين تسببوا بجريمة الرابع من آب، وغيرهم، إذا هم ظلوا بمنأى عن العقاب. ليس هؤلاء وحدهم، بل بيروت كلها، بيروت "أم الشرائع"، مِن فجر تاريخها إلى الآن، وبيروت المستقبل الطويل، أيضاً، تنضم إليهم، في تطلعها لرؤية يوسف الخليل القديم، صديق صيادي صور، وباقي الجنوب، ولبنان، يستعيد الروح ذاتها التي جعلته يشارك، ذات يوم، في اجتماعات مسعى إعادة إعمار اليسار، ويغادر، إلى الأبد، اصطفافه الحالي، بجانب قتلَةٍ وسفاحين!!!