التدليل الدولي لإسرائيل


محمد سيد رصاص
2022 / 5 / 28 - 08:29     


لا توجد دولة في التاريخ الحديث انبنت على وعد من دولة معينة بأن تقوم بإنشائها على أرض الآخرين سوى دولة إسرائيل. رغم اشتعال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في شهر آذار 1947 فقد اتحدا في توليد قرار تقسيم فلسطين بعد ثمانية أشهر في مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم تسابقا للاعتراف بدولة إسرائيل بعد إعلان ديفيد بن غوريون قيامها في عصر يوم الجمعة 14 أيار 1948، وقد تغاضيا عن تجاوزها في حرب 1948 لحدود الدولة اليهودية في فلسطين التي حددها قرار التقسيم. «دولة إسرائيل» هي الدولة الوحيدة في تاريخ هيئة الأمم المتحدة التي تحتل أراضي لدول أخرى معترف بحدودها من المنظمة الدولية مع سكوت عملي دولي أصبح عمره 55 عاماً، وهي قد تسببت عبر قيامها في عام 1948 في تشريد ملايين الفلسطينيين من أرضهم، وهي الدولة الوحيدة التي تضم أراضي من دول أخرى تحتلها وسط سكوت دولي عملي ولو تغطى هذا بقرارات إدانة هي أقرب للسيلوفان الرقيق. إسرائيل هي أكثر دولة قامت بغارات جوية على دول بعيدة وصلت للعراق وتونس، وهي أكثر دولة قامت بعمليات اغتيال في دول أخرى أو بخطف أشخاص من هنا أو هناك. هي دولة يتم غض البصر الدولي عن امتلاكها المعروف للسلاح النووي.

يجب البحث عن أسباب هذه المعاملة التفضيلية التي لم تحظ بها دولة ثانية في العالم.
يمكن هنا التنقيب، وربما يكون تنقيباً مثل الذي يجري في باطن الأرض، من حيث أن هناك تاريخاً سياسياً مليئاً بالألغاز، ولم تفك شيفرته بعد، أو لا توجد وثائق توضحه أو تجزم به أو توثقه. مثل ما يقال عن أن ثمن وعد بلفور في 2 تشرين الثاني 1917 قد دفعته المنظمة الصهيونية العالمية للندن عبر الضغط من خلال اللوبي اليهودي الأميركي لدخول واشنطن في الحرب العالمية الأولى في نيسان1917 بوقت كانت التوازنات العسكرية تميل لمصلحة الألمان ضد البريطانيين والفرنسيين. وعن أن موافقة ستالين المفاجئة والمناقضة للتفكير البلشفي على قرار التقسيم سببها المساعدة الصهيونية في تسليم موسكو أسرار القنبلة الذرية الأميركية التي تفردت بامتلاكها واشنطن في عام 1945. وعن أن سماح موسكو بالنصف الثاني من عقد الثمانينيات بفتح باب هجرة اليهود السوفيات، وهو ما قاومه ومنعه ستالين وخروتشوف وبريجنيف وأندروبوف وتشيرنينكو، كان بسبب تسليم تل أبيب للسوفيات أسرار «مبادرة الدفاع الاستراتيجية»، المعروفة باسم «حرب النجوم»، والتي أعلنها الرئيس الأميركي رونالد ريغان في آذار 1983، والتي كسرت معادلة الفناء النووي المتبادل التي انبنت عليها الحرب الباردة منذ وصول موسكو للقنبلة الذرية عام 1949 ثم الهيدروجينية عام 1952، وأن هذا هو السبب الذي دفع وقتها وزير الدفاع الأميركي كاسبر واينبرغر للقول عن الجاسوس الإسرائيلي في واشنطن جوناثان بولارد بأنه قد «تسبب بأضرار استراتيجية بالغة على الأمن القومي الأميركي».


طبعاً، هنا يمكن أيضاً البحث عن الأسباب التي تلمس، أو هي ظاهرة وجلية، لهذه المعاملة التفضيلية، غير تلك التي ما زالت خفية أو شبه خفية، المشار لها أعلاه، مثل القصد الضمني البريطاني من وعد بلفور في زرع دولة يهودية بمحيط إسلامي تعرف لندن، وهي الخبيرة بزرع الألغام والقنابل اللاحقة الانفجار، بأنه سيقود عاجلاً أو آجلاً إلى حرب دينية وإلى ضعف أي تيار علماني أو ليبرالي أو يساري بالمنطقة، تماماً كما فعلت عبر تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 بين دولتي الهند وباكستان لما قاد هذا إلى حروب أخذت شكل حروب هندوسية-إسلامية بين الدولتين وأنشأت اضطراباً طائفياً بين الهندوس والمسلمين أصبح عمره ثلاثة أرباع القرن في الدولة الهندية. هذا المخفر اليهودي المزروع بالمنطقة، الذي اسمه «دولة إسرائيل»، استعملته بريطانيا وفرنسا في حرب 1956 ضد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم استعملته واشنطن بدورها في حرب 1967 ضد عبد الناصر ثانية، ثم كررت واشنطن استعماله لضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981 ومن أجل إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عبر اجتياح صيف 1982.
خابت آمال ستالين رغم مساعداته العسكرية عبر الأسلحة التشيكية للدولة الوليدة في حرب 1948 في أن تكون إسرائيل بوابة الكرملين إلى الشرق الأوسط، وهو ما دفعه منذ أوائل عام 1949 لشن حملته ضد «النزعة الكوزموبوليتية المقلوعة الجذور» التي شملت مسؤولين وكتاباً يهوداً سوفياتاً وصلت لإعدام بعضهم، مثل سولومون لوزوفسكي، نائب سابق لوزير الخارجية ومدير مكتب المعلومات ورئيس قسم العلاقات الدولية في المدرسة الحزبية العليا، ومثل الشاعر بيريز ماركيش. بالمقابل، كان «الموساد» الإسرائيلي المصدر الرئيسي لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في المعلومات عن الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة السوفياتية، وقد ظهر هذا علناً وبشكل مثير في شباط 1956 لمّا نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» نص التقرير السري الذي ألقاه خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وانتقد فيه «عبادة الفرد» عند ستالين، وهو تقرير لم يسمح للضيوف في المؤتمر من الأحزاب الشيوعية العالمية بالحضور أثناء إلقائه.


على الأرجح، أنه قد ضعفت أهمّية إسرائيل عند الغرب الأميركي-الأوروبي بعد انتهاء الحرب الباردة في خريف عام 1989، ومن ثم مجيء واشنطن وحضورها العسكري المباشر عبر حربي 1991 و2003، كما أن الأذن الصماء التي مارسها أوباما عام 2015 (ويمارسها بايدن الآن) تجاه اعتراضات إسرائيل على الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران توحي بمقدار كبير من نقصان أهمية المخفر اليهودي عند البيت الأبيض، كما أن من المرجح أن فشل تل أبيب في حرب تموز 2006 بلبنان وفي حروب غزة 2008-2009 و2012 و2014 و2021 قد قلل من أهمية إسرائيل عند الغرب الأميركي- الأوروبي.
رغم هذا، ما زال التدليل الدولي لدولة إسرائيل مستمراً.