تونس: مأزق قيس سعيد: قطع رقبة البيروقراطية النقابية أم التنازل لها


بشير الحامدي
2022 / 5 / 24 - 17:01     

لئن كان بورقيبة تعاطى مع الحركة النقابية "الاتحاد العام التونسي للشغل" كأحد أضلاع ما كان يسميه بالمنظمات القومية "اتحاد الصناعة والتجارة ـ اتحاد الفلاحين ـ الاتحاد النسائي" وحصر دورها في تطبيق سياساته والدعوة له بوصفه الزعيم الذي سيرسو بسفينة تونس على بر الأمان عبر تلك السياسات واعتبر دائما أنه في صراع مع هذه المنظمة وهو ما دفعه في عديد المرات إلى مواجهات معها وبقي ينظر إليها دائما بوصفها جسما يمكن أن يخرج عن سيطرته وبالتالي لا يجب الاطمئنان إليه فإن بن علي سلك مع الاتحاد العام التونسي للشغل سياسة أخرى. لقد عمل على "أخذ القلعة من الداخل" وضمن بالتالي موالاة قيادتها وبلغ به الأمر حد أن لا قيادة تنتخب في مؤتمرات الاتحاد في عهده لا يكون له رأي في تركيبتها وفي الموافقة عليها.
في العشر سنوات الماضية من حكم النهضة وحلفائها تغيرت سياسة التعاطي مع الاتحاد العام التونسي للشغل حيث شهدنا ومنذ بدايات 2011 سواء مع حكومة محمد الغنوشي الأولى أو الثانية أو فيما بعد حكومات الترويكا أو الحكومات التي جاءت عقب وفاق حركة النهضة مع حزب نداء تونس أو حتى بعد انتخابات 2019 مع حكومة إلياس الفخفاخ وحكومة هشام المشيشي تشريكا فعليا لبيروقراطية الاتحاد في الحكم مباشرة أو بصورة غير مباشرة تماشيا مع السياسة التي استثمرت فيها بيروقراطية الاتحاد: "دعم" الانتقال الديمقراطي واعتبار نفسها شريكا في الحكم يجب الاعتراف به وعدم تجاوزه.
مع قيس سعيد وبعد 25 جويلية تغيرت العلاقة مع بيروقراطية الاتحاد. فسعيد والحلقة المغلقة التي تحكم به نسفوا كل الجسور القديمة التي كانت تربط الحاكم ببيروقراطية الاتحاد. فهم وهذا من طبيعة أمور كل حكم استبدادي معادون في الجوهر للحريات النقابية وليسوا حريصين كثيرا على أن يكون للحركة النقابية أي دور غير ما يقررونه لها من أدوار. هذا إذا ما وقفنا عند استنتاجات التحليل العام ولكن الأمر يصير أوضح إذا ما وضعنا في الاعتبار مشروع قيس سعيد كمشروع لاستبداد جديد وحكم فردي مطلق مستند لحالة من "فراغ" أنتجها مسار الانتقال الديمقراطي حالة لا تستند على طبقات التحت كما تدعي وتموه بل تستند بالفعل وعلى الأرض على الجهاز المسلح (جيش وبوليسية) وعلى العائلات التقليدية صاحبة النفوذ الاقتصادي والسياسي التي أصبحت ترى نفسها قادرة على الحكم بمفردها دون اللجوء للخوانجية وهي حالة هجينة لاهي بالفاشية ولا يمكن أن تكون ولا هي بالحالة الشعبوية كما رأينا في فينيزويلا مثلا أو بعض بلدان أروبا الشرقية رومانيا تشيكوسلوفاكيا المجر في بداية تسعينات القرن الماضي حين وقع إسقاط الديكتاتوريات الستالينية.
هذه المعاداة غير المصرح بها لا تتعلق فقط بالقيادة النقابية المهيمنة اليوم إنها تتعداها بحكم جوهر المشروع الاستبدادي القيسوني لمعاداة كل انتظام نقابي أو قطاعي أو سياسي مستقل عنه ولئن لم تكرس هذه المعاداة بشكلها السافر لحد اليوم فإنه لا شيء يمكن أن يمنع تكريسها مستقبلا خصوصا ونحن نعلم أن قيس سعيد ونظام حكمه مقبلان على تنفيذ إجراءات سيفرضها المانحون وستستهدف الأغلبية في قوتها ولن تزيد إلا من توسيع رقعة التفقير وبالتالي التسريع بتصاعد النضالات الطبقية التي ستفرض ربما على البيروقراطية النقابية مسايرتها وعدم الوقوف ضدها.
أن تعلن البيروقراطية النقابية مساندتها لـ 25 جويلية فذلك لا يكفي من وجهة نظر الحكم لأن المطلوب ليس المساندة فقط بل تسليم رقبتها برمتها ووضع نفسها تحت تصرف سعيد والبيروقراطية العسكرية والبوليسية الحاكمة الفعلية.
الخلاف اليوم مع سعيد ومع من يحكم باسمهم هو حول كل هذا. فالحكم يطلب رقبة البيروقراطية كلها والبيروقراطية النقابية لا تريد تسليم رقبتها بل تضع شروطا لذلك وهذه الشروط هي تلك الشروط التي حازتها زمن حكم الخوانجية مرتبة الشريك المعترف به ولا أعتقد أن القيادة الحالية التي تربت على هذا الامتياز يمكن أن تتنازل عنه مقابل لا شيء.
الواضح من خلاف بيروقراطية الاتحاد مع الحكم أنه خلاف سيدفع كل منهما لتقديم بعض التنازلات للطرف الآخر فالبيروقراطية لن تجنح للتصعيد لتصل إلى الموقف الذي يمكن أن يطالب سعيد بالتنحي أو تأزيم الأوضاع من حوله عبر الإضرابات ثم المواجهة في الشارع ولا سعيد ومن يحكمون بواسطته يقدرون على قطع رقبة البيروقراطية في هذا الظرف والذهاب بعيدا ولكن الثابت أن أمورا كثيرة قد تغيرت في علاقة الحكم بالبيروقراطية النقابية وبالنقابات عموما بعد عشرية حكم الخوانجية وهذا ما يجب أن لا يُتغافلَ عنه حين الحديث عن دور النقابات مستقبلا سواء في علاقتها بالحكم أو في علاقتها بقياداتها البيروقراطية وبمنتسبيها وبالأدوار المفروض أن تقوم بها.
24 ماي 2022