انتهت الانتخابات: الأزمة أكثر تعقيداً


سعد الله مزرعاني
2022 / 5 / 23 - 09:45     


سوف نكون بحاجة إلى وقت أطول من أجل الإحاطة بكامل جوانب ونتائج المعركة الانتخابية التي خيضت في لبنان وبلاد الاغتراب في الفترة الواقعة ما بين 6 و15 أيار الجاري. رغم ذلك، ومع التحسّب للسهو والخطأ، يمكن الآن، وكبداية لتقييم متكامل ما أُتيح ذلك، إدراج مجموعة من العناوين الأساسية. من جهة ثانية، فإنّ الإسراع في استخلاص الدروس، هو أكثر من ملحّ لأن الأزمة مفتوحة. هي مرشحة بقوة لمزيد من التفاقم اقتصادياً وسياسياً، وربما أمنياً، مع ما يُلحق ذلك من كوارث إضافية بالأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني الذي يُكابد واحدة من أكثر الأزمات في العالم، إفقاراً وخراباً وعبثية.

في الوقائع والمعطيات والمميزات، إنّ استحقاق عام 2022 قد وقع في خضم أزمة طاحنة حوّلت حياة اللبنانيين، المقيمين والمغتربين (الجدد خصوصاً، والذين شاركوا في الانتخابات بكثافة) إلى كابوس ما زالت فصوله تتوالى. وإن شكوك عدم حصول الانتخابات، بالإلغاء، ظلّت قائمة حتى مباشرة المرحلة الأخيرة لاقتراع المقيمين، وأن احتمالات تعطيلها استمرت متوقعة حتى الدقائق الأخيرة من عمليات الفرز (أسباب عديدة ومتباينة، فعلية ووهمية، كانت تغذي هذا الاحتمال). ولّد ذلك وسواه، مزاجاً شعبياً، وحتى سياسياً، متناقضاً بشأن مسألة المشاركة: لجهة الاندفاع أو الانكفاء. الشقّ النسبي (المشوّه بالصوت التفضلي) في قانون الانتخاب، أربك المشاركة في مرحلة تعاظم فيها التفكّكُ والفردانية والفئوية والتسلّق وتعدّد الولاءات. ثُمّ يأتي الدور الهائل وغير المسبوق للتدخل الخارجي: الغربي (الأميركي خصوصاً) والعربي السعودي (بالدرجة الأُولى). وهو دور شامل ومتواصل ومتشعّب: من السياسة إلى الاقتصاد والمال والإعلام (المستأجر والمموّل والمسخّر) والنشاط الميداني والزيارات المتواصلة (شملت أمين عام الأمم المتحدة!) والعقوبات والتفاوض مع العدو والعرقلة والمساعدات والمقاطعة وسحب السفراء... وصولاً إلى الرشوة وتركيب اللوائح وصياغة الشعارات التي تمحورت حول سلاح المقاومة (من أبرز ضحايا هذا التدخل إقصاء سعد الحريري ثم محاولة إعادته بالإكراه المجاني). في مجرى احتدام المعركة تم استحضار سلاح آخر مجرب وفعّال: طائفي ومذهبي ومناطقي كانتوني بمشاركة مباشرة للمرجعيات الدينية وبأعلى الأصوات. من جهتهم، ثابر عتاة المنظومة الحاكمة على المراوحة في النظام المتخلّف والفاشل نفسه: بوسائل الإنكار والخداع والفئوية والمحاصصة والعصبيات والتبعية، وبالرهان على الاحتواء والتيئيس، وعلى تعب الناس وعجزهم عن مواصلة الاعتراض، وبالتالي عن المحاسبة والتغيير.


رغم كل ذلك، كان للأزمة مفعولها ونتائجها الطبيعيين، ولو جزئياً، بوصفها، أساساً، ميداناً للصراع الاجتماعي الطبقي، بمحتواه ومداه المحلي والإقليمي والدولي. لقد كان الشائع، بل الراسخ، أن الشعب اللبناني مدمن على الالتحاق والهوان، وأنّ منظومته ونظامه السياسيين محصَّنان ومصفّحان ضد الاختراق والمحاسبة. وفقاً لهذه المقولة، مارست المنظومة الحاكمة سياسة التجاهل والمكابرة طيلة حوالى ثلاث سنوات من الانتفاض والاحتجاجات. ومضت إلى الانتخابات واثقة من قدرتها على التجديد لنفسها وعلى احتواء السخط الشعبي من خلال الخداع والوعود والتيئيس، وخصوصاً من خلال شحذ سلاحها المفضل والمجرّب وهو سلاح العصبيات الطائفية، والمذهبية خصوصاً. لكن ضخامة الأزمة وتعاظم المتضرّرين وتعمّق النقمة، مكّنت حركة الاحتجاج من أن تحطِّم عدداً من الحواجز والرواسخ والمعادلات. تقدّمت الصفوف، خصوصاً الطبقة الوسطى الأكثر تضرراً ومعاناة من الخسارة والخراب، مزودة بما كسبته من الوسائل الحديثة في التحريض والتواصل والتكتل، وتمكنت من اختراق أسوار المجلس النيابي بنسبة تقارب الـ 13% من عدد أعضائه. أطاح انتصارها هذا رموزاً ووجوهاً قديمة أو جديدة اعتاد بعضها الدفاع عن المنظومة والنظام بأقذر الوسائل!
في امتداد ذلك، تبين أنّ أزمة غير مسبوقة بحجم الأزمة اللبنانية المتمادية، لم يكن لها، إطلاقاً، أن تمر دون أن تؤدي إلى حد أدنى من المحاسبة والمساءلة والتغيير! للصراع الاجتماعي، ولو غير ناضج الشروط بالكامل، قوانينه ونتائجه. وهو أمر جرى، دائماً، الدأب على طمسه. والأسوأ أن التدخل الخارجي قد حرص، هو الآخر، على توجيه المسؤولية، وبالتالي النقمة والاحتجاجات، ليس ضد الطاقم الحاكم والنظام القائم، بل نحو هدف آخر يتصل بالصراع الدائر في المنطقة وفي العالم، والذي تديره وتغذّيه لمصلحتها ومصلحة أدواتها وحلفائها الولايات المتحدة الأميركية.


يقودنا هذا الأمر إلى طرح مجموعة عناوين بشأن مسار الاحتجاجات. وهي عناوين جرى تناولها أو التنبيه بشأنها، من قبل حريصين، منذ بدايات الانتفاضة. المقصود الدعوة إلى أن يكون للانتفاضة برنامج بديل وأولويات واضحة وخطة تحرك وتعبئة وتحشيد هادفة. ولن يتم ذلك أو يكتمل أو يستمر بدون قيادة تنسّق وتطور وتستثمر لمصلحة التحرك وصولاً إلى الهدف المنشود. الطابع العفوي الغالب، ونقص التجربة وأحياناً الوعي والإرادة، عوامل قادت إلى تجاهل كل ذلك لحساب شعارات من نوع: «كلنا قيادة»، «بدنا حقوقنا»، «مطالبنا معروفة»... وتباعاً، تبيّن أن ثمّة من يحاول تعميق هذا النوع من التناول العفوي أو العبثي. كان الهدف هو السعي لمصادرة واستغلال الاحتجاجات وتوجيهها وفق مصالح وأغراض متعارضة مع مصالح المنتفضين ومع الشروط والأولويات الحقيقية المطلوبة، حيال المسؤوليات والبدائل. ليست المدة الفاصلة ما بين بدء الاحتجاجات وموعد الانتخابات بسيطة، ولا الأهوال والخسائر من النوع الذي يمكن تحمّله، ومع ذلك تبيّن أن جميع أطراف الانتفاضة، بمن فيهم قوى التغيير القديمة والعريقة، قد عجزوا عن التوحد، والتنسيق في ما بينهم، سواءً على المستوى السياسي أو على المستوى الاقتصادي الاجتماعي.
في مجرى ذلك تقدّم شعار نزع السلاح وإلغاء «الدويلة» ليصبح هو الأعلى صوتاً في «المنصات» والإعلام المدفوع الآخر والمسخّر لهذا الغرض، وفي حملات ضارية، استفادت من إجرام وفئوية المنظومة، ومن أخطاء وثغرات المقاومة ومن عجز وفشل السلطة، لتشويه المشهد وإشاعة اليأس والتبعثر في المواقف والأولويات والولاءات.


ينبغي القول، في امتداد ذلك، أن الانتصار الشعبي حقيقي وواعد. لكنه محدود وجزئي وهش. هو واقعياً غير حائز، دون جهد وغربلة، وفرز، على شروط ومتطلبات الاستمرارية والتقدّم في معركة مفتوحة، بلا أفق، وشديدة التداخل ما بين تناقضات وصعوبات الداخل وتدخلات وتأثيرات الخارج. انتقلت الأزمة بعد الانتخابات إلى طور جديد وتوازنات مختلفة، ولو بنسبة محدودة. كيف نبني على ما تحقّق؟ كيف يمكن تحرير الانتصار من الأدران الداخلية والاستغلال الخارجي؟ ما هي مسؤولية القوى اليسارية والوطنية؟ ما هي مسؤولية المقاومة، بعد أن سُجّل في مرماها، سياسياً وإعلامياً ومعنوياً، عدد غير قليل من الأهداف؟! وهذا ما سيكون موضوعنا في مقاربة لاحقة.