القصة الشاعرة. - قراءة لفصل من كتاب ألعاب اللغة للدكتور محمد فكري الجزار-


محمد فرحات
2022 / 5 / 21 - 08:16     

"متى أمكن التصرف بالواقع، فليس ثمة مجال للحديث عن أقدار لا مفر منها، كذلك العولمة ليست قدرًا مقدورًا، ومن ثَمّ فبالإمكان التصرف بها لحساب هويتنا وخصوصياتها...صحيح أنها أفرزت ودعمَت نمطًا غير مسبوقِ من الاجتماع الإنساني العابر للخصوصيات هو النمط الرقمي بكل مخاطره، وبالرغم من هذا، فبقدر ما يمثل ذلك من تهديد للهويات، يمثل من جهة نقيضة محفزًا لابتكارِ دفاعات نوعية عنها، وعن خصوصياتها من دون أن تنعزل عن الفضاء الإنساني محققةً إعجازَ الجمع بين النقيضين، أعني خصخصة العولمة، هذه الكلمة التي يجب اعتمادها مصطلحًا في مواجهة هذه العولمة المتوحشة. ونظرًا لظروف تاريخية عديدة تخص مجتمعاتنا العربية، فلا يمكن الزعم أننا خرجنا من المرحلة الكولونيالية، كما أن استقلالنا استقلال شكلي وجزئي."
هذا التأثير الكولونيالي العولمي (الكولوعولمي) المزدوج على مجتمعاتنا العربية شكل مقاومة عنيفة على الصعيدين المادي، واتسعت المقاومة لتشمل الصعيد الأدبي كمقاوم لتذويب الهويات، وفي ذات الوقت فائق الحساسية في الاستجابة لضرورات اللحظة.
فكان لابد من إبداع جنس جديد بعد العطب الشديد والذي حدث لأعرق الأجناس الأدبية العربية- الشعر والنثر(السرد) بفعل الضربات الموجعة لأداة العولمة-الهوية الرقمية. وتلغيم الفراغ القائم على حدود الجنسين الأعرق عربيًا مسببةً قدرًا هائلًا من الفوضى الأجناسية غير المنضبطة بفعل شعبوية أدوات الاتصال الذكية الحديثة وعدم اقتصار استخدامها على طبقة اجتماعية أو مستوًى ثقافي ما؛ فصارت الكتابة في متناول الجميع أيضا بدون أي اعتبارات ثقافية أو إبداعية، فدخل عالم الكتابة الأدبية من لم يكن يحلم أو ينبغي له أن يحلم بممارستها (إبداعًا) و(نقدًا)!!
فبينما اقترحت ثقافة الأخر(الغرب) قصيدة النثر كجسر للهوة بين الشعر والنثر/السرد، وحينما استُنسِخت عربيًا اجترح النثري-السردي إثمه على الشعر، فَبَهَت الشعرُ حتى اقتصر وجوده فقط بعنوان اصطلاحي ظالم يُسمى (قصيدة النثر). فلم تقلص قصيدة النثر المسافة بين الجنسين العربيين الأعرق بل جارت ظلمًا على جنس دون الأخر.
كل ما سبق أدى إلى البحث عن جنس جديد وُلد ونشأ عربيًا لا مستوردًا كقصيدة النثر؛ فكانت (القصة الشاعرة). وغني عن الذكر أن ظهور أجناس أدبية جديدة بمثابة استجابة حتمية لضرورة اجتماعية بمقامه الأول.
وإذ وصلت قصيدة النثر لطريق مسدود قضى على ما تبقى من (شعريتة) بفعل الغزو الجامح من قبل العاديات الحياتية، ووصلت القصة القصيرة لذات مصير قصيدة النثر و تماهت باللحظية المخلة متمثلة في القصة القصيرة جدًا أو قصة الومضة كانعكاس للواقع الرقمي الطاغي! كذلك فقد هُدِمت ثوابت الرواية كلاسيكية بالشكل الحديث منها.
فكان لابد عربيًا من ظهور القصة الشاعرة.
يتناول د"الجزار" شرحا وتعريفا بتجربة الشاعر(محمد الشحات محمد) والذي عدّه المؤسس الأول لهذا الجنس؛ فتناول ما اشترطه"الشحات" من شروط لتحقق هذا الجنس، من مركزية القص، التفعيلة، المجازية، الوعي والموضوع، الاقتصاد الإبداعي،جدل الشفاهي والكتابي.
مركزية القص:
القص ممارسة إسناد حدثٍ لشخصية أو أكثر توسيعًا وتقليصًا وحذفًا وزيادةً وتقديمًا وتأخيرًا وتعليق بعضها على بعض حسب رؤية الكاتب وصولًا لتحويل الجملة إلى نص، ومن ثمّ فالحدث والشخصية من خصائص القصة الشاعرة.
التغعيلة:
شرط صارم لا يمكن تجاوزه وذلك للحفاظ على الشكل-الشعر كمميز مركزي.
المجازية:
فالمجاز في الشعر هو جنسه الأول لتتضافر التفعيلة مع المجاز للحفاظ على هوية الشعر وعدم تكرار ما حدث في قصيدة النثر بضياع الشعر بفعل العادي والحياتي.
"فإننا مع القصة الشاعرة أمام حالة فريدة للشعرية التي تقوم على تضافر اللغتين العادية والشعرية تركيبًا وسياقَا في إنتاجها.
الوعي والموضوع:
يرتهن الوعي إلى الواقع،فالوعي وعي بشيء في الواقع؛ وعي بالرقمنة المسيطرة على الواقع؛ وعليه كان الالتزام بما تفرضه الحياة الرقمية من اختزالية نصية لازمة، والتزام بقضايا المُعاش العادي(السرد) مؤطر بإطار شعري مجازي تفعيلي(الشعر).
الاقتصاد الإبداعي:
التعبير بأقل التراكيب اللغوية على المعنى كميزة من مميزات الشعر، وأيضا كميزة من مميزات الواقع الرقمي.
جدل الشفاهي والكتابي:
تقلصت المسافات التي كانت تفصل بين الكتابي والشفاهي حتى أنها أصبحت ثنائية غير مُعترف بها، وذلك أن السردي بكافة أجناسة يقف ضد هذه التقابلية الحاكمة كلاسيكيًا.
يضع الدكتور تعريفًا للقصة الشاعرة" نص تنصهر فيه بعض خصائص القصة والشعر المنتقاة ضمن اقتصاد لُغوي تمتنع معه إحالة أي من العنصرين إلى جنسه الأدبي.".
"ولست أخشى على الجنس الوليد من شئ خشيتي عليه من النقد التطبيقي فربما خلط الاحتفاء بموجبات النقد فأهدر التجربة الرائدة عربيًا وعالميًا، أو حاكمها إلى شروط النقد فقسى على تجربة لم تزل في مهدها… لا تئدوا التجربة بسرعة إدخالها إلى مختبرات الدرس، فلم تزل في طور التشكل. نعم، لا بد من نقد ما دام هناك نص أدبي، ولكن ما أطالب به نقد تعريفي أكثر منه نقد تحليلي، فلم يزل الوقت مبكرًا جدًا على هذا النوع من النقد المنهجي، فيما يخص القصة الشاعرة.".