الاشتراكية الديمقراطية خادمة للرأسمالية على نهج العولمة الأمريكية


ابراهيم حجازين
2022 / 5 / 16 - 12:53     

في نهاية القرن التاسع عشر، جرت تغيرات طبقية عميقة على بنية المجتمعات الأوروبية الغربية طالت تركيبة البرجوازية المهيمنة فيها، فظهرت في صفوفها فئات جديدة تختلف عن عن تلك البرجوازية التقليدية التي صارعت الإقطاع وحملت سمات تقدمية في مسيرتها تلك، وانضمت لها فئات متحولة جديدة من فئات الإقطاع وأخرى رأسمالية لا تمت بصلة للفئات الوسطى من البرجوازيين وخاصة في المجتمعات الديناميكية، يلاحظ ذلك في الولايات المتحدة حيث بدأت تتسيد فئات من كبار الرأسماليين المرتبطين بنشاط الاحتكارات ذات النزعة الاستعمارية الأشد توحشا في الداخل وعلى الصعيد الدولي، وكذلك الأمر في الدول المتقدمة الأخرى كبريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا وغيرها.
كذلك جرت تغيرات على بنية الطبقة العاملة والحركة العمالية والنقابية والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وظهرت في صفوفها النزعة الانتهازية والتذيل للطبقة الرأسمالية، وانقسمت حركة الطبقة العاملة إلى جناحين يميني انتهازي ويساري ثوري، على سبيل المثال في ألمانيا التي كانت مركز الحركة العمالية في أوروبا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الرسمي والمعترف به على الصعيد الدولي كقائد للحركة العمالية سادت النزعات الإصلاحية الانتهازية وانفصل عنه الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل والذي أتبع نهجا وسطيا بين الانتهازية واليسارية وتشكل في داخله جناح يساري برز بقوة للوجود على اعتاب الحرب العالمية الأولى حرب إعادة اقتسام المستعمرات بين الدول الامبريالية، حيث التحقت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية كل ببرجوازيتها وحرب اللصوص الرأسماليين، عدا أجنحة الحركة اليسارية التي اتخذت مواقف معادية للحرب وخاضت نضالات جماهيرية ضد نشوب الحرب في ظروف قمعية مشددة مارستها الحكومات التي وحدت الرأسماليين والاشتراكيين الديمقراطيين اليمينيين، أدت إلى خسارة هذا الجناح اليساري لأعداد كبيرة من مناضليه سجنا وتعذيبا واغتيالا واتجهت هذه الأحزاب إلى النشاط السري وقادت عددا من الانتفاضات ضد حكوماتها المنخرطة في الحرب، وقامت بتأسيس أحزاب من نمط جديد.
انعكست الحرب العالمية بنتائجها اقتصاديا واجتماعيا وضحاياها المليونية على الدول الخاسرة والمنتصرة، عدا الولايات المتحدة التي حققت أرباح هائلة وغير متوقعة من الحرب، بينما وقعت الدول الأوروبية في أزمة اقتصادية عميقة جدا، وقامت عدة ثورات وانتفاضات ضد الأنظمة الرأسمالية في بعض الدول ونشطت حركات مناهضة للرأسمالية وحكومات الرأسماليين في الدول الاخرى، كان الفشل من نصيب الثورات التي قادتها الأحزاب الثورية خاصة في ألمانيا والنمسا والمجر وبولندا ودول البلطيق وكان نتيجته قاسية على الطبقة العاملة وحركتها، بينما حقق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي النجاح بقيام ثورة أكتوبر عام 1917. وهكذا تبلور الجناح اليساري في الحركة العمالية وظهرت الأحزاب الشيوعية تمييزا لها عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية اليمينية.
الأزمة الاقتصادية العميقة التي أعقبت الحرب دفعت الرأسماليين إلى الاستعانة بالحركات اليمينية المتطرفة كالنازية والفاشية ودعمتها الى الوصول الى الحكم، فنجح موسوليني عام 1922 بالاستيلاء على السلطة واصبح النموذج الذي اقتدت به الحركات الفاشية والنازية في دول أوروبا وخاصة هتلر في المانيا واستولى على السلطة عام 1933 بدعم من البرجوازية الالمانية اثناء ازمة الكساد العالمية التي انفجرت عام 1929 انطلاقا من الولايات المتحدة والتي مهدت للحرب العالمية الثانية، ونشطت الفاشية في فرنسا وبريطانيا وحتى في أمريكا نشات اتجاهات لتاطير الفاشيين ونجحت في اسبانيا على بد فرانكو في حربه المدعومة من المانيا وإيطاليا وصمت متواطئ من فرنسا وبريطانيا ضد الجمهوريين الإسبان.
في مرحلة بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت الحركات اليمينية المتطرفة هي المنقذ والمخلص للنظام الرأسمالي من الحركات الجماهيرية بقيادة العمال واحزابهم اليسارية، بينما كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لا تزال تتراوح في مواقفها من التطورات بعد الحرب بين مواقفها الملتحقة بالنظام الرأسمالي وبين التحالف مع الأحزاب الشيوعية، على أثر ذلك تشكلت في أوروبا الجبهات الشعبية المعادية الفاشية، نجحت الإستراتيجية والتكتيك الجديدين في تشكيل حركات المقاومة المسلحة المعادية للاحتلال النازي في أوروبا الغربية والشرقية وكان لها الدور الهام في فرنسا وإيطاليا في مقاومة النازية واسقاط النظام الفاشي، وهذا قاد إلى تقارب بين الأحزاب الشيوعية والتيارات اليسارية في الحركة الاشتراكية الديمقراطية في شرق القارة حيث قامت ثورات ساعد الوجود السوفياتي، وسيطر نتيجتها اليسار بقيادة الأحزاب الشيوعية، واعطى كذلك زخم لليسار الأوروبي الغربي الذي أصبح ذو نفوذ جماهيري ثبت دوره في أوساط الجماهير والحكومات التي تشكلت بعد الحرب، مما أثار الرعب في أوساط الرأسماليين وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، فأعلنوا بلسان تشرشل الستار الحديدي على الاتحاد السوفياتي لمحاصرته، وبدء الحرب الباردة ومشروع مارشال وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية المتحدة التي راكمت أرباح هائلة بسبب الحرب ومبيعات السلاح للحلفاء وحتى المانيا ونهب ذهب دول وشعوب أوروبا واثارها، كما شكلت أمريكا حلف الناتو عام 1949 أداتها العسكرية العدوانية ضد الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، بهذه الصدد وضعت الخطط المناسبة لإضعاف الحركة العمالية واليسارية بما فيها التطهير والملاحقة للأحزاب اليسارية والنقابات العمالية في غرب أوروبا والولايات المتحدة ولنا بالمرحلة المكارثية في الولايات المتحدة دليلا على الحرب التي خاضتها الدولة العميقة فيها على الحركة العمالية والنقابية واليسار الأوروبي والأمريكي.
بعد الحرب العالمية الثانية كما رأينا حصلت تضييقات وملاحقات وضغوط على الحراكات الجماهيرية والعمالية في الغرب واتبعت سبل شبه انقلابية لصياغة الأنظمة في هذه المرحلة وحدثت تراحعات في فكر وبرامج الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والعمالية الغربية، فتخلت عن البنود التي كانت تشير إلى الإشتراكية فيها وكذلك محت كل ما يمت للماركسية في فكرها، تمثل ذلك في التعديلات التي طالت برنامج حزب العمال البريطاني في بداية خمسنيات القرن الماضي. وطرا تغيير عميق على دور الحركة الاشتراكية الديمقراطية، فأصبحت احتياطيا صلبا للنظام الرأسمالي وإدارة ناجحة له في الأزمات وسبل الخروج منها بتضليل الحركة العمالية والجماهيرية، يأتون بها لمواقع الحكومة لتخفيف الضغط الجماهيري وحرف نضال العمال عن ان ترنو للسلطة بدفعها لتحسين شروط استغلالها فقط. وإذا عدنا للوراء سنجد أن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الحكم لا تختلف عن أحزاب الراسماليين، توتي بلير زعيم حزب العمال البريطاني لم يفرق عن بوش الجمهوري اليميني ان كان في إجراءاته الداخلية او في الحروب العدوانية، وإذا تذكرنا حرب احتلال العراق سنفهم ما أعنيه.
منذ أزمة 2008 المالية والاقتصادية في أمريكا وتمددها في العالم والتي طرقت أسس المنظومة الرأسمالية حتى اليوم وتراجع الدور الأمريكي وانكفائه على الصعيد الدولي والعالمي، وصعود دول ناهضة الى مصاف المواقع الأولى دوليا، إلى جانب أزمات الحكم المتواترة في الدول الغربية، لعل أزمة وباء كورونا والأزمة الحالية التي مسرحها اوكرانيا وتبعاتها في غرب أوروبا تبين الدرك الذي وصلت له الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وتبعيتها للمركز الأمريكي الإمبريالي وطموحه لاستمرار هيمنته الدولية، هذه الأحزاب لم تعد تجيد التمثيل على شعوبها والعالم، الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في السويد خلع ردائه وتخلى عن قيم اولف بالمه رئيس وزارء السويد الاسبق الراحل برصاص يميني والداعية من أجل السلم والعدالة الدولية، وتراجع عن حياد السويد بالالتحاق يحلف الناتو، انه كبقية الممثلين امثاله يهرع لإنقاذ النظام الرأسمالي المعولم، هذه حرب لا مجال للحياد بها أما عودة أمريكا إلى موقعها او سقوطها المدوي.