محمد خضير في مثابات شاخصة بعالم السرد والكتابة


شكيب كاظم
2022 / 5 / 9 - 09:41     

في كتابه (السرد والكتاب) الذي أصدرته مجلة (دبي الثقافية)، يقدم المفكر محمد خضير لقرائه مقالات يصفها بـ(السردية)، أما لماذا هذا النعت؟ فلأنها تقوم على أساس فكرتين متمازجتين: الفكرة النظرية، والفكرة السردية، تغلف إحداهما الأخرى، أو تنبثق إحداهما من الأخرى، إنها مقالات كتبت في أويقات مختلفة، وكانت قبل إباحتها همهمات محبوسة في تلافيف عقل كاتب السرد، نقرات أفراخ تريد الخروج من شرنقة القشر؛ قشر البيضة، إنها ترانيم فياضة كتبت في العقد الختامي من القرن العشرين، والعراق يحيا ضباب مرحلة التطويق والمحاصرة، فلا تصل إلينا نأمة الأشقاء، ولا تكاد تصل إليهم صرخاتنا، والقاص محمد خضير يتوق إلى إيصال صرخته إلى الأشقاء العرب في وطننا، إذ لم يسمع-بسبب ذلك- من جانبي البحر خبراً يستحسن رحلة هذه المقالات الفكرية السردية، يوم نشرها أول مرة في الصحف والمجلات، لذا قرر إعادة نشرها في كتاب كي لا تبقى حبيسة مشغلها، ويحفظها من عاديات الزمان الذي لا يرحم، وأن لا تدفن بيوضها في الرمال طويلاً، ومن ثم تظل الفراخ حبيسة القشر.
روائيو العالم والروائي العراقي
في هذا السفر المعرفي النقدي الثر والثري (السرد والكتاب)؛ مقالات في السرد والكتابة، ففي مقال عنوانه (استعمال الرواية) يحدثنا الناقد محمد خضير، عن الإعداد الزمني الطويل لكتابة الروايات لدى كتاب العالم المتمدن، فلقد احتاج غابرييل غارسيا ماركيز؛ الروائي الكولومبي الأكثر شهرة من البلد الذي أنجبه! إلى آلاف الوثائق وإلى فريق من المساعدين، للبدء بكتابة روايته (الجنرال في متاهته) عن حياة الجنرال سيمون بوليفار، واحتاج الروائي جان ماري غوستاف لوكليزيو، للارتحال نحو المغرب والعيش في صحرائها ومع سكانها، والسفر إلى المكسيك لدراسة حضارة المايا المنقرضة، وسبر غور حياة الهنود الحمر في جزيرة بنما، كي يجود علينا بروايته (صحراء) والأمر ينسحب على دان براون وهو يكتب سفره المعرفي الضخم (شفرة دافنشي) ودرس باتريك زوسكيند جغرافية فرنسة في القرن الثامن عشر، وقرأ الكثير الكثير عن عوالم العطور كي يكتب روايته (العطر. قصة قاتل) ويعتمد اللبناني أمين المعلوف على خزين واسع من المعلومات مبرمج في حاسوبه الشخصي، أتوجد مثل هذه التسهيلات والإمكانات لدى الروائي العراقي؛ الذي عاش شرنقة الحصار والعزلة عن العالم أكثر من عقد من الزمان؟
إنه أقل الروائيين إنتاجا في العالم- كما يقول المتألق محمد خضير- يعمل داخل نطاق مفخخ بالهواجس المميتة، تحوم حول رأسه الطائرات الحربية، أجل إنه مؤلف سيىء الحظ لكن الرواية التي يكتبها ستكون أوفر حظا من روايات الماضي، إن روايته وحدها ستنتصر. تنظر ص٥٠.
يستدعي الباحث محمد خضير نصيحة الراوية؛ الراوي (حماد عجرد) لأبي نواس بحفظ ألف بيت من الشعر، ومن ثم نسيانها قبل مزاولة فن الشعر، يستحضر هذه النصيحة ليؤكد ضرورة أن يقرأ الروائي العراقي مئة رواية قبل أن يغمس قلمه في حبر كتابة رواية، مؤكداً أن نجيب محفوظ لا بد أن قرأ مثل هذا العدد قبل أن يكتب روايته الأولى، والأمر نفسه ينطبق على غائب طعمة فرمان الذي كتب (النخلة والجيران)، فقراءة الروائي تختلف عن قراءة القارىء الاعتيادي، قراءة الروائي قراءة محترف مختص، كي يهضم ما تضمنت من مضامين، إن ذائقة الروائي المخلص لفنه والمحترم لقرائه تشبه ذواقة الأنبذة المعتقة، أو صانع العطور المنعشة أما أولئك الذين لم يفلحوا في قراءة عشرين عملاً عظيماً - كما فاه الشاهق محمد خضير- فالأرجح أن أحدهم لن يكون قادراً على إنتاج عمل روائي واحد ذي قيمة، لذا ظلت رواياتنا تتوسد التلال، في حين احتلت الروايات العالمية قمم جبال الأنديز والهملايا.

التناص؟
في مقاله (أكثر من تناص) يرى المبدع محمد خضير وهو يدرس مصطلح (التناص)، الذي أطلقته أول مرة إلى دنيا الدراسات النقدية، الناقدة البلغارية الأصل؛ الفرنسية الجنسية (جوليا كرستيفا) يرى أن أفضل الإستذكارات القديمة عن هذا المفهوم قد لا نجده في كتاب (الموازنة) للآمدي مثلا، لكننا نجده في كتاب (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي؛ إذ تعني المقابسة، أو يعني الاقتباس، ما يشبه الأخذ والتأثر، وإن هذا المصطلح قد اتخذ في نقدنا القديم هيئة سرقة أو اقتباس، وكتب في هذا المجال الكثير ومنها (الإبانة عن سرقات المتنبي) وقد قاد حملة التشهير هذه (الصاحب بن عباد) لأنه لم يمدحه، لابل كان وراء مقتلة المتنبي المأساوية في دير العاقول؛ قرب مدينة النعمانية الحالية.
لكني أرى أن الذي قاله أبو الطيب اللغوي (وقوع الحافر على الحافر)، أو (وقوع الخاطر على الخاطر) وثمة من ينسب القول النقدي الرصين لأبي الطيب المتنبي، في موضع الدفاع عن نفسه (إن الشعر جادة فلربما وقع الحافر على الحافر)، ولربما كان تشابه كنيتي الرجلين سببا في هذا الخلط، وأرى أن هذه المقولة تغنينا عن مصطلح السرقة أو الاقتباس والأخذ.
يدأب عديد الكتاب والكاتبات على كتابة اليوميات، التي تكاد تقترب من المذكرات الشخصية، إنها شحنة مضيئة للذاكرة تستخدم في الكتابة الإبداعية، حتى أن قصص (رؤيا خريف) إنما تألقت من يوميات الشامخ محمد خضير لسنة ١٩٨٥، كما إنها مستودع للقلق، الذي ينغص العيش، لذا ما كان الأمر بِدَعا أن يقول فرانز كافكا في إحدى يومياته:" أود اليوم أن أنزع من نفسي بالكتابة كل حياة القلق، فأنقلها من أعماقي إلى أعماق الورق.". ص٨٥.
ومن أشهر من كتب اليوميات الأديبة الفرنسية (أناييس نن)، التي واصلت كتابتها على مدى أربعة عقود من القرن العشرين، إنها تؤكد:" إن لم تتنفس عبر الكتابة، إن لم تصرخ في الكتابة، أو تغني في الكتابة، إذن لا تكتب، لأن ثقافتنا ليست بحاجة إلى كتابة كهذه" ص٧ من كتاب (دلتا فينوس) إصدار دار المدى سنة٢٠٠٧ ونقلها للعربية المترجم العراقي المتضلع علي عبد الأمير صالح، واحتوى الكتاب على خمس عشرة قصة إيروسيىة.
إن هذه اليوميات تكاد تشبه بوجه من الوجوه، كتابة الرسائل الشخصية، ففيها بوح وكشف الخوالج واللواعج، قريبة من النفس والعفوية في الكتابة، واحتدام المزاج الراهن ، إذ لا يدور في خلد أحدهم أن هذه اليوميات الخاصة قد تنشر يوما، لكن الكثير من هذه اليوميات نشرت ومنها يوميات أناييس نن في سبعة مجلدات طبعت أثناء المدة ١٩٦٦١٩٨١، كما نُشِرَت بعض الرسائل الخاصة مثل رسائل غسان كنفاني، ورسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان، ورسائل فدوى طوقان إلى الناقد المصري أنور المعداوي، لكن ثمة من يطعم النار يومياته هذه، حفاظا على الأسرار الذاتية:" إني أفهم رغبة الكتّاب في التخلص من ( الملكيات) العزيزة المسجلة في دفاترهم، فهم لا يحبون أن تقرأ أعمالهم بين أطلال الأمس (..)لا تسجل المذكرات إلا لحظات العمل العسيرة، وليالي التنقيح الطويلة، ليالي الخريف ذات الأغشية البيض، (..) إلى النار بالمذكرات، وما أصعب القرار".ص٩١.
نعم وما أصعب القرار، وقد عشته أكثر من مرة.
محمد خضير وكتابه الأول
حدثنا السامق محمد خضير عن شغفه بالكتاب، باحثا عنه لدى الباعة في سوق البصرة القديمة، ناقلا بعضها نحو دكان المجلد منبهرا بعمله، إنه الآن (حامل كتاب) قارىء للكتاب، متنقل، عارف للكتب وبالكتب التي يحملها في يده، لكن ثمة في الجانب الآخر (صاحب كتاب) إنه مؤلف كتاب، منتجه، يا لهذه المزية، لذا ينقل لنا حامل الكتاب وصاحبه محمد خضير، في مقالته (حامل الكتاب) حبوره الغامر، وهو يقتني أول مرة نسخته الأولى من مجموعته القصصية الأولى (المملكة السوداء) من بائع صحف افترش رواق شارع الرشيد من جهة باب المعظم، وكان قد قدم إلى بغداد لتسلم النسخ الأولى من كتابه البِكْر: "أسرعت بكتابي اختلس الخطو بين ظهور السائرين القلائل، مبهوراً بحملي المباغت (..) ينقلني فوق الرؤوس والعيون والآذان، على متن حافلة حمراء ذات طابقين، من ذلك الأسطول الذي يشق شارع الرشيد بمحاذاة دجلة، خارجا من باب العاصمة الشمالي باتجاه بابه‍ا الجنوبي، ارتقيت سلم الحافلة إلى طابقها الثاني، واتخذت مقعدي في مقدمة الطابق (..) حاملا كتابي (..) حلمت ببشائر هذه الرحلة (..) في الليلة الماضية، على سرير فوق سطح الفندق الذي نزلته بمنطقة سيد سلطان علي، (..) امتلأت الحافلة بالكائنات الصغيرة وأحسست أحدها يجلس إلى جانبي، على المقعد الملاصق لزجاجة الحافلة الأمامية المطلة على شارع الرشيد.
أنت الآن صاحب كتاب (..) بل أريد أن أكون حامل كتاب وحسب، وهذا غاية ما أتمناه حقا، (..) أتمنى أن أظهر بصحبة كتاب محمول في صورتي الأخيرة قبل أن يحين أجلي". ص١١٥١١٧