اللغة العربية و الفوات الحضاري .. برؤية ماركسية


عمر الماوي
2022 / 5 / 7 - 18:10     



اللغة العربية و الفوات الحضاري .. برؤية ماركسية 


لطالما كانت اللغة كجهاز للتواصل مرتبطة بالواقع الإجتماعي، و هناك علاقة و إرتباط موضوعي وثيق بين تطور أي لغة و واقع الإنتاج الإجتماعي ، الإنتاج المادي و الفكري جنبًا الى جنب، و بأسبقية للإنتاج المادي بلا أدنى شك. 

لا يمكن لأي لغة أن توجد و تتطور بالتالي بمعزل عن الواقع ، لأن اللغة من قلب الواقع و ليست من خارجه. 


و بدون أدوات الفهم و التحليل الماركسي يستعصي فهم أليات و ديناميات وقوانين تطور اللغة ،  اللغة ليست بنية فوقية خاصة بنمط الإنتاج ، فهذا تصور برجوازي صغير و شعبوي يدعو  الى ثورة شكلية من قبيل الدعوة الى لغة "متحررة" ، "كلمات تحررية" ، وما إلى ذلك.


و هنا نجد أنفسنا أمام راهنية ما طرحه  ستالين   في "الماركسية وعلم اللغة" من ملاحظات دقيقة و متسقة ، حين قال :


"كل قاعدة لها بنيتها الفوقية الخاصة بها ، والتي تتوافق معها. يقوم أساس النظام الإقطاعي على بنيته الفوقية ، وآرائه السياسية والقانونية وغيرها ، مع المؤسسات التي تتوافق معه ؛ للقاعدة الرأسمالية بنيتها الفوقية والقاعدة الاشتراكية لها بنيتها.



عندما يتم تعديل القاعدة أو تصفيتها ، يتم تعديل أو تصفية بنيتها الفوقية ؛ وعندما تولد قاعدة جديدة تولد بعد ذلك بنية فوقية تتوافق معها (...).


تختلف اللغة في هذا الصدد اختلافًا جذريًا عن البنية الفوقية.


لا تتولد اللغة من خلال هذه القاعدة أو تلك ، القديمة أو الجديدة ، داخل مجتمع معين ، بل من خلال مجمل تاريخ المجتمع وتاريخ القواعد على مر القرون. إنه  ليس عمل طبقة واحدة ، بل عمل المجتمع بأسره ، لجميع طبقات المجتمع ، وجهود الأجيال.


لقد تم إنشاؤها لا لتلبية احتياجات  طبقة بعينها ، بل احتياجات المجتمع بأسره ، وجميع طبقات المجتمع. ولهذا السبب بالذات ، تم إنشاؤها كلغة للشعب بأسره ، لجميع أفراد المجتمع ومشتركة بين الجميع. "


إنتهى الإقتباس


وهكذا فإن اللغة التي اتخذت شكل اللغات في كل إطار وطني أو قومي ، مرتبطة بحركة المادة ذاتها. وبهذا المعنى ، فهي حية وتتطور وتنمو. وهي تسير في خط تطور الإنسانية ، كونها وسيلة اتصال بين البشر في أنشطتهم الواعية.


لا توجد لغة بدون أنشطة،  اللغة موجودة فقط داخل الإنسانية النشطة. لذلك يقول ستالين أيضًا:


"على العكس من ذلك ، ترتبط اللغة ارتباطًا مباشرًا بالنشاط الإنتاجي للإنسان ، وليس فقط بالنشاط الإنتاجي ،  أيضًا بجميع أنشطة الإنسان الأخرى في جميع مجالات عمله ، من الإنتاج إلى القاعدة ، ومن القاعدة إلى البنية الفوقية. هذا هو السبب في أن اللغة تعكس التغييرات في الإنتاج بطريقة فورية ومباشرة ، دون انتظار التغييرات في القاعدة.


هذا هو السبب في أن مجال عمل اللسان ، الذي يشمل جميع مجالات النشاط البشري ، هو أكبر بكثير وأكثر تنوعًا من مجال عمل البنية الفوقية. علاوة على ذلك ، فهي عمليا غير محدودة.


هذا هو السبب الأساسي الذي يجعل اللغة ، وبشكل أكثر تحديدًا مفرداتها ، في حالة من التغيير المستمر تقريبًا. يتطلب التطور المستمر للصناعة والزراعة والتجارة والنقل والتكنولوجيا والعلوم أن تثري اللغة مفرداتها بكلمات جديدة وتعبيرات جديدة ضرورية لهذا التطور.


واللغة ، التي تعكس هذه الاحتياجات بشكل مباشر ، تثري بالفعل مفرداتها بكلمات جديدة وتحسن نظامها النحوي".

إنتهى الإقتباس


مما سبق نستخلص حقيقة ان اللغة الاكثر تطوراً هي بالضرورة اللغة المرتبطة اكثر بالانتاج الاجتماعي للانسانية ، فاللغة الانجليزية مثلاً  متطورة و منتشرة اكثر من غيرها كونها تلبي الاحتياجات في حقل الانتاج،  الانجليزية ملائمة لتكون لغة الالة (الهاتف او الكمبيوتر) اكثر من العربية كونها متطورة اكثر و مرنة اكثر و اكتسبت هذه المرونة من اتصالها و إرتباطها  المباشر مع الانتاج الاجتماعي للانسانية .


الامر الاخر هو انه بالتبعية و نتيجة لتطور اللغة الانجليزية بارتباطها المباشر بالانتاج المتطور هذا ادى الى انتشارها على نطاق عالمي واسع جدا خاصة مع عصر الامبريالية. 


البرجوازية الصغيرة و دعوات "تطوير" اللغة العربية "من فوق" :


نجد في بلداننا من الشعبويين الذين يدعون الى المحافظة على اللغة العربية و تطويرها، و هؤولاء نظراً الى رؤيتهم المثالية، يطرحون مسألة اللغة بمعزل عن الواقع كما لو كانت موضوعًا بذاته دونما ادراك للعلاقة الديالكتيكية بين اللغة و الواقع ، لا سيما واقع الإنتاج المادي. 


منذ فترة تابعت ندوة حول تطوير اللغة العربية، و رغم ان من كانوا يتواجدون هم من "النخب" ، لا احد من الحاضرين طرح مسألة اللغة ضمن أبعادها الحقيقية. 


البرجوازية الصغيرة ذ تتعاطى بذاتية مع  مسألة اللغة كما لو كانت من خارج الواقع و معزولة عن القاعدة الاقتصادية و الانتاج بكافة حقوله ، لا احد من الذين تواجدوا في تلك الندوة يفهم الماركسية ، رغم ان منهم من يدعي ذلك، فسمعنا البعض يطالب بقرار سياسي لتطوير اللغة العربية وهذا ينم عن نزعة مثالية و سوء فهم لمشكلة اللغة و حيثياتها فضىلاً عن الذاتية البرجوازية الصغيرة في التعاطي مع المسائل .


اللغة لا يمكن فصلها عن الانتاج المادي ، و سبب تأخر وتخلف اللغة العربية انها ليست اللغة التي تنشط في حقول الانتاج المادي و التكنولوجي على وجه التحديد،  قلنا ان لغة الألة هي اللغات الاجنبية و تعريب الالة يعطي انطباعًا بأن هذه اللغة متطفلة على التكنولوجيا لان هذه اللغة ظلت خارج التاريخ، نظراً الى أن تطورها قد تجمد منذ قرون طويلة كان يسود فيها الإنتاج الزراعي و الرعوي. 

 اللغة العربية نشأت و تطورت وتجمد تطورها في عصور قديمة ولم تتطور و تواكب العصر لانها بقيت خارج حقول الانتاج و من ينطقون باللغة العربية كانوا ضحايا للتبعية و الإستعمار الذي حرمهم من تطوير لغتهم من خلال الانتاج بحقوله المختلفة ، لا سيما في عصر االثورة الصناعية و التكنولوجية ، وظلت اللغة العربية اسيرة القرون الوسطى، و ليس من الدونية الاعتراف بتخلف اللغة العربية بسبب هذا الفوات الحضاري للشعوب التي لم تنجز ثورتها البرجوازية و التي من شأنها ان تنقل هذه الشعوب الى مرحلة تاريخية جديدة تسودها العلمانية و تغليب العلم و العقل على الخرافات القروسطية ، الحديث عن "تطوير" اللغة بمعزل عن القاعدة الإقتصادية لا يعدو عن كونه أكثر من مثالية و رومانسيات من خارج الواقع و التاريخ ، لأن اللغة لا تتطور خارج الواقع، خارج واقع انتاج العلوم و التكنولوجيا . 


ولعل ما يدل على ذلك على سبيل المثال أن العرب ارادوا تعريب كلمة فاكس FAX  و توصلوا الى تسمية "ناسوخ" و طبعًا هذا فشل تمامًا و الجميع ظل بستخدم تسمية فاكس، لان التسمية المعربة تبدو هجينة و متطفلة ، بينما حين انتج الخوارزمي خوارزميته ظلت تسمى بالخوارزمية و ما زالت حتى يومنا هذا تستخدم في المواقع و الشبكات الاجتماعية و المنظومات التكنولوجية و الامنية و تعرف بإسم الخوارزمية.

​​

و هكذا تسير الامور ، اللغة يجب ان تتطور بصورة طبيعية لانها لا تنفصم عن القاعدة الاقتصادية و الانتاجية ، و من المضحك حديث البعض عن ضرورة ان يكون هناك "قرار سياسي" و "مشروع" لتطوير اللغة العربية، تطوير هجين من فوق، وليست حركة تطور طبيعية في سيرورة مادية تبدأ من تصفية القاعدة الاقطاعية و انجاز التحرر الوطني لتسير اللغة في ديناميات التطور بتحقيق الشروط التاريخية  عبر الاندماج في الانتاج المادي و الفكري جنبًا الى جنب. 

للتطور قوانينه ودينامياته ولا يمكن ان يتحقق بصورة هجينة من فوق بقرار سياسي أو ما شاكل، هذا مضحك. 

طبعًا لا يفوتني ذكر أن بعض رفيقاتنا يأخذن على اللغة العرببة أنها لغة "ذكورية" و أرى أن رفيقاتنا لم يجانبن الصواب هنا و الأدلة عديدة ، و هذا دليل اخر على ان اللغة العربية ظلت حبيسة القرون الوسطى الاقطاعية ولم تخرج بعد من تلك الحقبة لمواكبة العصر و الانسجام مع متغيراته، ليس غريبًا ان اللغات الاكثر تطوراً هي لغات الامم و البلدان التي انجزت الثورة الديمقراطية البرجوازية ودخلت عصر الثورة الصناعية ومال  ميزان القوى فيها للبرجوازية على الاقطاع الذي زال نهائيًا و واصلت تطورها حتى تحولت الى بلدان امبريالية و هذا اعطى المزيد من الزخم و خلق مساحة لتطور لغاتها كونها صدرت علومها و صناعاتها و رأسمالها و ثقافتها


هكذا تتطور اللغة ، لا بقرار سياسي ولا بمشروع فكري و أكاديمي، نذكر انه في سوريا ارادوا تطوير اللغة العربية من فوق و كان هناك "قرار سياسي" يقضي بتعريب التخصصات العلمية في الجامعات، و فعلا صاروا يدرسون الطب و الصيدلة و الهندسة بالعربي، لكن لا شيء تغير ، بل على العكس من ذلك كانت لهذا التعريب عواقب و سلبيات اكثر و بما لا يقاس من الإيجابيات التي لا تكاد تذكر، وهذا غير مستغرب بالنسبة لنا، قلت بدون الماركسية و ادوات الفهم و التحليل التي تقدمها يستعصي فهم و ادراك اشكاليات اللغة و قوانين تطورها ، التعريب يعني التهجين، طالما انك لم تنتج هذه العلوم فلا فائدة من تعريبها، عندما تنتج العلوم و الصناعات ستتطور اللغة بصورة تلقائية و طبيعية في هذه السيرورة المادية ، لا بد من فهم ديناميات تطور اللغة ، اللغة بحد ذاتها لا يمكن ان توجد و تتطور  خارج واقع الانسانية المنتجة كما قال ستالين ، تطورها لا يمكن ان يكون من فوق او من الخارج بمعزل عن القاعدة الانتاجية هذا هو الجانب الرئيسي في فهم مسألة اللغة ، و بدون إدراك هذه الوشيجة يستحيل إدراك وفهم طبيعة مشكلة اللغة و قوانين تطورها.



لغة عالمية واحدة :


و على أي حال ، نومن نحن الشيوعيون بالمستقبل الشيوعي للبشرية جمعاء، و نؤمن بالتالي ان جميع الفوارق و التمايزات الطبقية و القومية ستزول حتمًا ، و سيتكلم جميع البشر لغة عالمية واحدة ، قد تكون هي اللغة الأكثر تطوراً و إنتشاراً على مستوى العالم ، و هنا تبرز اهمية اللغة الإنجليزية كلغة عالمية متطورة صارت تحظى بأهمية كبرى كمتطلب أساسي في عالم ما بعد الحداثة ، فلا يمكن الإنخراط في التجارب العلمية و الإنتاج بمختلف حقوله  بدون الالمام باللغة الانجليزية ولو كان ذلك بالحد الأدنى. 

وغني عن القول أن الكثير ممن ينادون بتطوير اللغة العربية لا تعجبهم هذه الحقيقة، فهؤولاء كما قلت يرون بوعي او بدون وعي أن اللغة تشكل عنصراً من عناصر البنية الفوقية ، ولا يدركون أن الحقيقة هي عكس ذلك تمامًا فاللغة مرتبطة بالقاعدة وهي تعبير عن البنية التحتية ، و بالتالي بالنسبة لهم اللغة الانجليزية هي لغة الإستعمار التي ينبغي  الانفصال عنها قدر الإمكان لصالح اللغة العربية "لغة القرآن" والى ما ذلك من الديماغوجيا ، هذا جانب من الحقيقة و ينطوي على الجانب الأهم الذي جعلها اللغة الأكثر تطوراً ، ولعل هذا أيضًا من تمظهرات المعاداة الرومانسية للرأسمالية ،و التي من خلالها نرى من يحاول أن يدفع عجلة التاريخ الى الوراء و يرفض الواقع.