ماركس: فصول من حياته و أعماله


محمد دوير
2022 / 5 / 4 - 21:08     

1-

ولد كارل ماركس لأبوين يهوديين، كان والده هيرشل موردخاي ماركس ليفي محامي من اليهود الاشكناز ولد في 1777, وتعلم تعليما علمانيا، فدرس القانون في ستراسبورج على خلاف أخيه صموئيل الذي صار حاخاما. وهنرش رجل مستنير اهتم بكانط وفولتير وأعجب إلى حد كبير بالثورة الفرنسية وتشبع عقله بالروح الثورية، فترك تأثيرا طاغيا على كارل. وهو أول محامٍ يهودي في ترييف Trier التابعة لولاية بروسيا الألمانية، حيث تخصص في قانون نابليون Code Napoléon على وجه الخصوص.
تزوج هيرشل في عام 1814 من سيدة يهودية ذات أصول هولندية تدعى هنرييتا برسبورج Henriette Pressburg، والدها تاجر وجدها حاخام وكانت أختها متزوجة من مؤسس شركة فيليبس.وهنرييتا سيدة منزل نصف متعلمة لم تنشغل في حياتها سوى بشيئين تربية أولادها التسعة وبث روح وتعاليم الديانة اليهودية في نفوسهم.

وفي منطقة الراين التي عادت بروسية بعد هزيمة نابليون في واترلو 1815، منع اليهود من شراء الأراضي، ومن الزواج بحرية، ومن اختيار مكان إقامتهم، وممارسة المهنة التي يختارونها، ويجب على اليهود النادرين الذين عينوا أثناء النظام الفرنسي في وظائف رسمية، التخلي عن خدمة الدولة، وفي تريفز بالخصوص، ثلاثة يهود شملهم هذا الإجراء منهم هيرشل ماركس ليفي، فكان عليه أن يختار بين مهنته أو ديانته، فيغير الديانة في 1815، أي قبيل مولد "كارل" بثلاث سنوات، حتى لا يسري عليه قانون منع اليهود من ممارسة المحاماة، ويغير اسمه من هيرشل إلى هنرش، ولكنه لم يختار الكاثوليكية كما كانت تدين مدينة ترييف واختار اللوثرية كمذهب جديد له.

2-

في الخامس من مايو عام 1818 ولد الطفل الثالث للأسرة التي تكونت من أحد عشر فردا، تسعة أبناء منهم أربعة ذكور وخمس بنات، وأبوين. وهو كارل هنرش ماركس، ذو البشرة السمراء لذلك وصف وهو شاب "بالمغربي" أو "الزنجي" نظرا لملامحه التي لم تكن أبدا قريبة من ملامح اليهود. وتلقى تعليمه الأساسي في ترييف، ثم انتقل إلى مدرسة ترييف العليا في عام 1830" 12 سنة". وفي أكتوبر من العام 1835" 17 سنة" سافر إلى بون في بداية رحلته مع المعرفة الإنسانية ودراسة القانون نزولا على رغبة أبيه، وعلى غير رغبة كارل الذي انشغل كثيرا بالبحث الفلسفي والأدبي.هناك انضم لـ"نادي الشعراء" الذي ضم عددا لا بأس به من السياسيين الراديكاليين. وخلال عدة أشهر أصبح رئيسا له، ولكنه تعثر في دراسته للقانون وترك الكلية بعد عام.
كانت تلك السنة التي قضاها في بون فرصة لكي يكتشف العالم من حوله حيث انغمس في جماعة أبناء ترييف، واكتشف قدرته على الحوار واستفاد من ثقافته السابقة وحوارات أبيه في نادي"الكازينو"الذي أسسه كصالون فكري وسياسي، وظل هكذا حتى قرأ كتاب هيجل"فينومنولوجياالروح"، فهم منه أن الحياة الحقيقية هي حياة الفكر،فيدرك أهمية الفكر وأولويته في نشاط الإنسان، وفي تلك الفترة ظل هيجل هو منارته التي يدور حولها فترة شبابه المبكرة.

في صيف 1836 تعرف على والد زوجة المستقبل"جيني"، وهو البارون "فون ويستفالينvon Westphalen "، وشاطره حوارات مستمرة وصداقة مبكرة رغم فارق السن، وأحاديث مطولة حول الأدب والفن والاهتمام بجوته وسرفانتيس وشكسبير. ثم التحق في أكتوبر من نفس العام "18 سنة" بجامعة برلين لدراسة القانون، ولكنه كان شغوفا بدراسة الفلسفة التي رأى فيها المدخل الأساسي لكل معرفة معتقدا أنه بدون الفلسفة لا يمكن انجاز شيء حقيقي ذا قيمة، مما دفعه لدمج الفلسفة بالقانون في دراسته. وفي نفس العام أيضا -1836- الذي يُعد عاما محوريا في تاريخ تطور ماركس، اهتم أكثر بدراسة هيجل الذي كان يمثل حينئذ منارة الفكر الفلسفي، وصارت أفكاره العقيدة الرسمية للمهتمين بالفلسفة في أوربا عامة وألمانيا بصفة خاصة، وكانت جامعة برلين بؤرة هذا الأثر الهيجلي وأفكاره حول دور الدولة وقيمتها في التصور الفلسفي عموما، وأن العقلانية تكمن في الدولة البروسية التي رآها هيجل تعبيرًا عن علاقة الفكر بالمجتمع.

في "نادي الدكتور Doktor Klub" الذي تكون من مجموعة مثقفين شبان تناقش فلسفة هيجل، تعرف كارل على "الهيجليين الشبان Young Hegelians" في 1837 بقيادة فيورباخ ومن حوله برونو باور Bruno Bauerوأدولف روتنبرج وآخرين، وقوام أفكار هذه المجموعة نقد الأفكار الغيبية في فلسفة هيجل. ولكن بعد فترة بدأ ماركس ينظر بمنظور آخر أدى به في النهاية إلىالانقلاب على فلسفة هيجل والسير عكسها تماما، معتقدا أنها لا توحي له بشيء نافع ومفيد باستثناء تقديره لدور الفكر في التاريخ، فهيجل كشف بالفعل عن دور العقل في الواقع الفعلي، ولكنه أيضا باسم الفكر سمح لهذا العقل بأن ينسحب من الحياة، جاعلا من الحتمية أساس الوجود دون تدخل لإرادة البشر في تغيير واقعهم.

لم يكن هيجل فحسب هو الذي انسحب من عقل كارل، فقد توفى في العام 1838 والده هنرش مما ترك أثرا نفسيا وماديا قاسيا عليه لم يعادله أثر أخر في حياته رغم امتلاء حياة كارل بالمآسي، علاوة على أنه كان مصدرًا لتمويله بنفقات الدراسة والمعيشة، وكان تأثيره الفكري عليه مما لا يمكن تجاهله، فعن طريقه استوعب قضايا الحرية والدين والأخلاق والثورة. لقد كان كارل مقربا من والده بدرجة كبيرة، وبعيدا– إلى حد ما- عن أمه التي رآها لا تهتم سوى بتعليمه العبرية وصلوات اليهود.
يستمر كارل في برلين لخمس سنوات"1836-1841" تنتهي بحصوله على الدكتوراه في 15 أبريل1841، في موضوع "الفرق بين ديمقريطس وأبيقور في الفلسفة الطبيعيةThe Difference Between the Democritean and Epicurean Philosophy of Nature" إنه بحث حول علاقة الفلسفة بالعالم. وما دفعه لهذا البحث في الفلسفة المادية لدى الإغريق هو دراسة أصول الفكر المادي، ونظرته إلى فكرة أن مصير الفلسفة هو نفسه مصير سقراط، حينما تجرع السم طوعا.

3-

انشغل ماركس في سنواته الفكرية الأولى بالتأسيس الفلسفي، وحينما تخصص في الاقتصاد السياسي بعد ذلك كان لهذا التأسيس أثره الواضح على فرضياته العلمية بحيث يمكن القول بأنه أقام نظرياته الاقتصادية على قاعدة فلسفية مادية واضحة وصريحة. فمنذ أن كتب مقالا عن "ما الملكية؟" على أثر إصدار قانونا في البرلمان البروسي يجرم كل من يقطع أشجار من حدائق الأغنياء، منذ ذلك الحين وماركس يبحث عن طريق يكشف من خلاله حقيقة الأشياء. هنا تعرف على اثنين كانا لهما أكبر الأثر عليه، بعد والده ووالد زوجته، هما أرنولد روج Arnold Ruge" 1802-1880" أستاذ الفلسفة في جامعة هال والمشرف على"حوليات هال" التي يصدرها الهيجليون الشبان، تلك التي كان ينشر فيها فيورباخ، والثاني هو ولهلم ويتلنج وهو خياط ألماني لأجيء ينتسب إلى جمعية سرية تدعو إلى المساواة وإلغاء الاستغلال.

كان عام 1840 هو عام الانغماس بجدية في الحياة العامة حيث التصق ببرونو بوير، وهو لاهوتي بروتستانتي يؤمن بالأفكار الليبرالية، والأكثر وعيا من بين الهيجليين الشبان، ونشرا معا مجلة بعنوان"أرشيفات إلحاديةAtheistic Archives" لم يصدر منها سوى عدد واحد وتوقفت. وفي عام 1841 أصدر فيورباخ كتابه المهم "جوهر المسيحية"، حيث أشار فيه إلى أن منتجي الفكر والسلع، أي "المثقفين والعمال" هم المنوط بهم تغيير الدولة والمجتمع والتحرر الشامل، فالدولة ليست كما يقول هيجل فوق الطبقات. التقط كارل تلك الفكرة من فيورباخ فشجعته على مواصلة طريقه وأكدت انفصاله عن هيمنة هيجل. كان انجلز هو الآخر قد قرأ جوهر المسيحية ـ ويقول في هذا الصدد: "منذ ذلك الوقت أصبحنا ماركس وأنا فيورباخين "،كان كتاب جوهر المسيحية من المؤلفات التي أسهمت في تحول ماركس وإنجلز من الفلسفة إلى السياسة بكل ما تتضمن الكلمة من أبحاث وممارسات.

بدأ ماركس حياته المهنية في الجريدة الرينانية في كولونيا 1842، وكتب ستة مقالات من أهمها مقال عن "رقابة الصحف" ومقال عن "الزواج المدني" وأخر عن "الملكية" وكان من المواظبة والوعي والقدرة على الكتابة أن وصفه "موزس هس Moses Hess1812-1875" صاحب الجريدة بكلمات موجزة ومعبرة، حيث قال: إنك ستجد روسو وفولتير ودولباخ وليسنج وهيجل مجتمعين في شخص واحد...ولكن سرعان ما تخضع الجريدة للرقابة الشديدة لضمان عدم مهاجمتها للحياة السياسة العامة أو لحكام الدول المجاورة والصديقة. في تلك الأثناء تخلي أستاذه بوير عن العمل السياسي بعدما يأس من العودة للجامعة التي فصل منها لاعتناقه أفكارا ليبرالية متطرفة.

وجدير بالذكر أن ماركس في تلك الفترة كان قد أشار في مقال له في 16 أكتوبر 1842 إلى الشيوعية حيث وصفها بأنها "حركة ترجع أصولها إلى أفلاطون وإلى الطوائف اليهودية والى الأديرة المسيحية الأولي، وأنها تتقدم في فرنسا وفي بريطانيا العظمى وألمانيا".وبعد شهر من هذا المقال، أي في نوفمبر 1842، بدأ في رسم ملامح مشروعه الفكري الذي سيستمر معه بقية حياته بمقال عن"الملكية" -الذي أشرنا له- كان هو الدافع لاتجاهه إلى الاقتصاد السياسي. بعد هذا المقال المحوري بدأ في رحلة القراءة في الاقتصاد السياسي فقرأ لسيسموندي وتعرف منه على القيمة المضافة وتركز رأس المال، وتعرف على جيمس مل، وروبرت أوين وسان سيمون ولويس بلان وشارل فورييه ...الخ. وفي تقديري أنه في تلك اللحظة التاريخية اتضح لماركس ماذا يجب عليه أن يفعل؟ وكيف يسير خطواته الأولى فلسفيا وسياسيا وثوريا.
4-

في يونيو 1843 تزوج من جينيJenny، واستمر في التدفق النظري باتجاه الواقع في الفلسفة والاقتصاد السياسي، بيد أنه كان مشغولا بقطع روابط الصلة مع الفلسفة الألمانية تحديدا، قبل أن يستقل قطار التأصيل النظري في الاقتصاد السياسي. كتب في 1843، "نقد فلسفة الحقوق عند هيجل" و"في المسألة اليهودية". في الكتاب الأول كشف للمرة الأولى عن الدور التاريخي للطبقة العاملة وتحدث عن حتمية الثورة الاجتماعية، والنظرة العلمية للعالم.وفي الكتيب الثاني تناول المسألة اليهودية من منظور مدني وأشار إلى أن اليهود إذا أرادوا أن يعيشوا في العالم حياة طبيعية فلابد لهم من العيش كمواطنين يؤمنون بحقوق المواطنة المتساوية ويدافعون عنها ويندمجون في المجتمع الأوربيمع ضرورة التخلي عن فكرة الجيتو أو الحياة وفقا لتعاليم التوراة.

لم تكن الحياة في بروسيا قادرة على تحمل ضربات ماركس السياسية أو الثورية، فكانت باريس هي محطة انتقاله الأولى، حيث وطأت قدماه مدينة الأنوار باريس في 13أكتوبر 1843، حيث كانت تعج بكل أصناف الفكر والحراك الثوري كمسرح للعمليات التي تدار عليه آخر معارك البرجوازية الفتية مع بقايا الإقطاع المدعومة بقوى عسكرية. ويبدو أن المشهد كان مربكا ومعقدا بصورة تليق بعقل ماركس ورغبته في تحليل ظواهر تصلح لبناء تصورات مركزية في بناءه الفلسفي.في فرنسا كانت الصحف منتشرة بصورة لافتة للنظر، والتنظيمات والحركات السرية والعلنية تملأ كل مكان، من بينها "عصبة المنفيين" التي ستكون أولى اختيارات العمل السري لماركس، ويبدو أنه بدأ يشعر بأن فرنسا ستكون ذات أهمية خصوصا في ضميره ووجدانه فلطالما تذكر حواراته مع والده عن الثورة الفرنسية وعن نابليون وحلمه الإمبراطوري، ولطالما تذكر والد زوجته ويستفالين وهو يحدثه عن قيم المساواة والعدل والحرية، ولطالما حلم هو شخصيا بمجال يسمح له بأن يعبر بحرية عن أفكاره التي ستغير العالم بعد سنوات قليلة. شعر ماركس أنه أبن باريس أكثر من شعوره بالانتساب لأي مدينة أخرى، وأن فرنسا هي المجال الأكثر خصوبة وثراء بحيث تصلح كمجال تطبيقي أو تجريبي لفرضياته النظرية، باختصار كانت فرنسا هي المعمل التجريبي لأحد أهم علماء الاجتماع في التاريخ وواحد من صناع علم الثورة في العصر الحديث، فماذا قدم معمل التجريب له؟ وماذا أنتج المجرب هنا؟

كان أمام ماركس برنامج عمل كبير شامل في باريس، في البداية كان يجب أن يبحث عن هؤلاء الذين سمع عنهم وقرأ لهم منهم علي سبيل المثال الكاتب الاشتراكي برودون Proudhon"1809-1865"، الذي أسست أفكاره للأناركية وصاحب كتاب "ما الملكية؟..إنها السرقة" ويلخص فيه أزمة الإنسان في أسباب ثلاثة هي؛ النظام الرأسمالي من خلال استغلال الإنسان للإنسان، وجود الدولة، ويدعو هنا إلى اختفائها كرمز سلطوي يجب التخلص منه، وأخيرا يكمن السبب الثالث في الدين وما يلعبه من تزييف لوعي الإنسان.

ثم العمل المشترك مع أستاذه أرنولد روج في إصدار "حوليات ألمانية – فرنسية German-French Annals" تعني بقضايا الفكر والسياسة في فرنسا وألمانيا، ولكن ظل الخلاف بينهما حول طبيعة السياسة التحريرية للمجلة قائما حتى فشل المشروع، حيث يريدها روج مجلة ليبرالية، فيما يراها ماركس مجلة ثورية تحريضية تنتقد الحكم المستبد في كل أوربا.

وبينما هو منشغل بموضوعات المجلة والبحث في كل مكان بباريس عن القوى الثورية والعمل داخل العصبة؛ يقدم له صديقه القديم موزس هس مسودة لكتاب عن جوهر المال يشير فيه إلى مفهوم الاغتراب الهيجلي والعلاقة بين القيمة الاجتماعية والاقتصادية، ثم يطلع على مقال أرسل للمجلة بعنوان "تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" لشاب ألماني أسمه فريدريك إنجلز Friedrich Engels"1820-1895" يكشف فيه عن العلاقة بين تكاليف الإنتاج والمنفعة كما تتبدي في المنافسة، ويتضمن نقدا للاقتصاديين البرجوازيين وخصوصا نظرية مالتس Malthus في السكان ،حيث كشف تهافتها، وأكد على أن التقدم العلمي قادر على تجاوز تلك الزيادة بمراحل نظرا لقدرته على تراكم الإنتاج بصورة سريعة. من هنا بدأ يتأكد لديه الجسر الواصل بين الفلسفة والاقتصاد كما في كتاب هس، والعلاقة بين الملكية والتراكم كما ذكر في مقاله عن "ما الملكية؟".

5-

يبدو أننا هنا نقترب من جوهر المشروع الماركسي، ويبدو أيضا أن وعي ماركس بطريقه، بغض النظر عن إدراكه له تماما، بدأ يتبلور في محددات معرفية تقترب من الوضوح. فبينما كان ماركس منشغلا بالقضايا الفلسفية حدثت حادثتان؛ ظهور أول تلغراف، وهو ما يعبر عن طفرة كبيرة في ثورة الاتصالات وانعكاس ذلك على نمو المعرفة والرأسمالية بالضرورة، في المقابل مجزرة لحركة العمال حدثت للنساجين السيليزيين 1844. هنا توقف ماركس قليلا أمام هذين الحدثين، وبدأ يدرك أن هذه هي لحظة العمل الجاد فقرأبكثافة ربما أعمق من المرة الأولى التي كانت منذ عام تقريبا في الاقتصاد السياسي بدأ بفرانسوا كيناي الذي قسم المجتمع إلى طبقات ثلاث "ملاك – عقيم– مزارعين"، فيما عرف بمذهب الفيزيوقراط، الذي يعتبر أول إدراك منهجي للإنتاج الرأسمالي.إن ممثل الرأسمال الصناعي– طبقة المزارعين– يقود مجمل الحركة الاقتصادية، والزراعة تجري علىأساس رأسمالي.

بعد ذلك قرأ ماركس لأوراي وحديثه عن الربح الصناعي كجزء من القيمة المسروقة من العمال، وتأكيده على أن العمل هو أساس الملكية الوحيد أو بمعنى أخر هو المفسر لطبيعة الملكية. بينما وجد عند جون ستيوارت مل تفسيرا لسؤال عن سر التفاوت الاجتماعي والطبقي، فيما كان ريكاردو أهم عناصر التأثير في فهم ماركس للاقتصاد السياسي لا سيما في تأكيده على أن العمل المأجور هو المصدر الحقيقي للثروة، وكذلك في إشارته لمفهوم القيمة، وهي على كل حال أفكار تدين إلي آدم سميث في التأسيسي النظري. أما سان سيمون فقد تحدث عن صراع الطبقات ودور الأنوار العقلية في التقدم، ولا شك أن تأثير سان سيمون على ماركس كان مهما إلى درجة أن تطرف البعض في القول بأن ماركس لم يأت بجديد على ما ذكره، رغم عدم إقرار ماركس بهذا مباشرة. فيما قرأ أيضا لسيسموندي ورؤيته أن الرأسمالية تتسم بخصوصية مميزة بخلاف أنظمة الملكية الخاصة الأخرى التي لم تكن بحاجة كبيرة لتصريف الإنتاج في الأسواق، وهو ما ينتج في نهاية المطاف حالة الصراع والتنافس التي يترتب عليها تصورات مختلفة عما سبق.

لقد كانت كل هذه المؤلفات وغيرها مطروحة على عقل ماركس في أواخر عام 1843 وأوائل عام 1844. بيد أن ماركس لم يكن متلقيا سلبيا لكل ما هو مطروح عليه، بل سنجده دائما منطلقًا من عقلية ناقدة.
هنا بدأت تتجمع خيوط نظريته في المعرفة، وأعني رؤية جديدة في جدليتها ومكوناتها وتاريخيتها وطرحها حلولا لمشكلات الواقع وتصورا عاما للمستقبل، تنوعت مساحات العمق فيه. ولكن في النهاية لا نشك أنه قدم تصورا جديدا في علاقة الوعي بالواقع، وفي دور الثورة كلحظة تغيير جذري بكل ما تعني كلمة الجذرية من معنى. فوضع تصورا عاما لما يجب عليه أن يكتب فيه، برنامج النضال والبحث العلمي فيما عرف بمخطوطات باريس أو "المخطوطات الاقتصادية- الفلسفية" التي وضعها عام 1844 وكشف جورج لوكاتش عنها النقاب للمرة الأولى عام 1932.

لقد وجد ماركس ضالته أخيرا في هذا العام الذي كتب فيه مخطوطات باريس، وفي نفس العام التقي برفيق الدرب فريدريك إنجلز في أغسطس 1844 في فرنسا عندما كان إنجلز في زيارة لها لتسليم مقالة له عن تطور الرأسمالية في أوربا من المرحلة المركنتلية إلى الصناعية، وفي لقاء مطول بين ماركس وانجلز دارت فيه مناقشات مستفيضة حول مشروعهما الفكري، تناقش ماركس مع إنجلز حول كل شيء بما في ذلك الفلسفة الألمانية ذاتها، فأشار ماركس إلى أنه يريد تجاوزها والخروج من أسرها ومن عباءة الفكر الهيجلي بعامة، لأنها فلسفة تهمل علاقات القوة الاجتماعية في تحليل المفهومات، ويبين له كيف ينوي تفسير تاريخ بني الإنسان، وتاريخ الدول من خلال علاقتها مع الاقتصاد ومع الملكية ، وقد أثمر هذا اللقاء صداقة مستديمة ومراسلات كاشفة لعقل قادة الحركة الثورية في العالم.

ينتقل ماركس إلى بروكسيل في فبراير 1845 لتعرضه لمضايقات أمنية في باريس، وهناك يلتقي بإنجلز مرة أخرى ويفكران سويا في رسم استراتيجية المستقبل،فيكتبان سويا مخططا عاما سمي فيما بعد بأطروحات حول فيورباخ وهو عبارة عن إحدى عشرة مقولة ، وكانا يقصدان من هذه الأطروحات وكتابي"العائلة المقدسة"و"الايديولوجيا الألمانية"تصفية حساباتهما مع القديم أي مع نسق هيجل ورؤية فيورباخ وآخرين ممن لمع نجمهم في سماء الفكر الأوربي في ذلك الحين. ففي العائلة المقدسة– الذي كان نقدا موجها ضد برونو باور- وضع ماركس وإنجلز أفكارهما عن الدور التاريخي للبروليتاريا، وقدما تعليلا اجتماعيا اقتصاديا لدورها هذا. فعلى نقيض الاشتراكيين الطوباويين الذين لا يرون في البروليتاريا سوى جماعة مظلومة عاجزة. فإن ماركس وإنجلز يبرهنان على أن الطبقة العاملة، بحكم وضعها في المجتمع الرأسمالي، يمكنها ويجب عليها أن تقوم بتحويل العالم تحويلا ثوريا.

6-

وفي رحلة استمرت ستة أسابيع اصطحبه إنجلز إلى إنجلترا، حيث وطأت قدم ماركس للمرة الأولى، فيتعرف عن قرب بالمدن الإنجليزية التي تحقق فيها الصناعة تقدما كبيرا، وتوجد بها طبقة عاملة مؤهلة لأن تصبح معمل التجريب"الثاني" الذي يبني عليه ماركس كل نظرياته في علم الاقتصاد السياسي بعد ذلك، فقد وجد بها المصانع والعمال والنقابات والنقابيين القادرين على فهم قضايا عمالهم ومصانعهم، وربما أوحى لهما هذا الزخم بفكرة إنشاء تنظيم دولي لكل العمال الثوريين لبناء مؤسسة سياسية ثورية تلعب دور التناقض مع الرأسماليين. وهذا ما حدث بالفعل حيث شكلا لجنة المراسلات الشيوعية في ابريل 1846 في بروكسيل، وهي ما ستكون نواة العصبة الشيوعية بعد ذلك. وبعد العودة تبدلت قليلا الحالة المزاجية لماركس جراء ضيق العيش خصوصا وأن الحوليات قد أغلقت بعد رفض الناشر طباعتها، ففكر في الهجرة إلى أمريكا، ولكن طلبه قوبل بالرفض من حكومة ترييف التي ردت عليه بأنه مطلوب للعدالة، فرد على هذا الرد بالتنازل عن جنسيته في 10 نوفمبر 1845. ومنذ ذلك الحين حتى وفاته لم يذكر أنه استعادها مرة أخرى وظل هو المواطن الأممي رقم واحد في العالم آنذاك.

لم تتبدل تلك الحالة حتى انتهى مع رفيقه إنجلز من تأليف "الايديولوجيا الألمانية في أغسطس 1846 للرد علي أفكار فيورباخ وستيرنر، وفيه طرحا فكرة أن كل حديث عن الواقع سيكون مجردا ما لم تدرس الظروف الاجتماعية جيدا وبيان كيف تشابكت لإنتاج هذا الواقع، وهذه مشكلة كل حديث سابق عن الاشتراكية أوالشيوعية،حيث جاءت كلها أحاديث مجردة من التحليل الاجتماعي العميق وفهم بنية المجتمعات. وأن الطبقات الحاكمة تهيمن بأيديولوجيتها على المجتمع، ولكي يتم التخلص من تلك الهيمنة فلابد من تسليح الطبقة العاملة بوعي مضاد، هذا الوعي هو الكفيل بإنتاج حالة ثورية قادرة على تجاوز الرأسمالية التي كانت ضرورة تاريخية في مرحلة من مراحل تطور المجتمعات.

أما عن العصبة الشيوعية أو الرابطة الشيوعية" فقد عقدت مؤتمرها الثاني في 29 نوفمبر 1847 وكلف المؤتمر ماركس وإنجلز بكتابة برنامج الرابطة ورؤيتها للشيوعية العلمية، وتم الانتهاء منه– استكمل ماركس الكتابة فيه بعد سفر إنجلز إلى بروكسيل- في أواخر يناير 1848، وأرسل إلى مقر الرابطة في لندن، ومنذ ذلك الحين أصبحت الماركسية هي النظرية العلمية لتنظيم العالم بطريقة ثورية، وأصبح البيان هو التعبير الملهم عن المبادئ الأساسية للنظرية الثورية البروليتارية .
في 29 أغسطس 1849 عاد ماركس إلى إنجلترا من جديد لتكون محطته الأخيرة التي يستقر بها ويدفن فيها. ولكن ثمة صعوبات واجهته هناك حيث لم يكن يجيد الإنجليزية بطريقة تسمح له بالكتابة بها، ولم يكن بها حركة اشتراكية ثورية علي غرار فرنسا، وأن النضال العمالي في إنجلترا كان نضالا إصلاحيا حيث يقود النقابيون مفاوضات دائمة لإصلاح أحوال العمال بمصانعهم. ورغم ذلك فقد قدمت إنجلترا لماركس "الباحث" ما لم تقدمه أي بلد أخر.

7-

من جهة أخري، لم تزل فرنسا في قلب ماركس، فهي المجال الخصب لتطبيق نظرياته وتحليلاته في الصراع الطبقي، فكتب فيها أربعة مقالات جمعت بعد ذلك في 1850 تحت عنوان "الصراعات الطبقية في فرنسا 48- 1850" شرح فيها رؤيته النظرية وتحليله الطبقي. وقد أشار في المقالة الثانية إلى مصطلح"ديكتاتورية البروليتاريا" ربما للمرة الأولى، وأشار إلى فكرة الثورة الدائمة بوصفها صراعا لا هوادة فيه للطبقة العاملة لكي تظفر بحقوقها. ولكن ضغوط الحياة تزداد عليه وفرديناند أخو جيني زوجته وعدوه اللدود يصبح وزيرا لداخلية بروسيا في مارس 1850، وهو ما يعني مزيدا من المضايقات الأمنية عليه فيترك غرفته ويباع عفشه في المزاد، ولكنه يستمر فيتابع تطور العلم والانتقال الكامل من مرحلة البخار إلى الطاقة الكهربائية، ويرصد حركات العمال، ويرى كيف تلعب التكنولوجيا دورا مهما في تسارع عجلة الإنتاج...الخ. ولكن عجلة الحياة تسير به في تضاد درامي، إنه تطور فكري مطرد وبؤس متواصل، وحركة عمالية تتقدم ببطء ونمط إنتاج رأسمالي ينمو بسرعة فائقة.
هنا أدرك ماركس أهمية أن يبقى متماسكا حتى ينضج مشروعه ويضعه على عتبات التاريخ. "لابد أن يستمر.." قالها إنجلز مبررا عودته إلى مانشستر لمتابعة أعماله الصناعية ويوفر المال لماركس لكي يستكمل مشروعهما المشترك، وقالها إنجلز مرة أخرى حينما توفى ابن ماركس المقرب إلى قلبه "غيدو" وهو ابن الخامسة وكادت وفاته أن تذهب بعقل ماركس.

تحت ضغوط هذه الظروف الإنسانية والاجتماعية يرقب ماركس معرضا لأحدث المنتجات التكنولوجية حيث تظهر فيه المكابس الهيدروليكية والمطابع القادرة على طباعة 5000 نسخة من كتاب في ساعة واحدة، إضافة إلى تنامي حركة القطارات بمعدلات سرعة فائقة، هنا يدرك ماركس أن النظام البرجوازي يتقدم بسرعة تفوق كل توقع، وربما يوحي هذا بانهيار يفوق المتوقع أيضا فعليه أن يسارع بإنتاج ما يريد أن يقوله حتى تصبح النظرية في يد الطبقة العاملة. ولكنه يكتب مرة أخري عن فرنسا معلقا على انقلاب 1851 في كتاب "18 من برومير" مفسرا فيه لماذا فشلت الثورة، وما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ ومدى استفادة البروليتاريا منها. وأشار فيه أيضا إلي دور الصراع الطبقي في حتمية انتصار البروليتاريا في معركتها الأخيرة مع قوي الاستغلال.
ويبدو أن ضيق الحياة جعله في 1852 يقبل عرضا أمريكيا– بعد أن فشل في السفر بنفسه إليها– للكتابة لجريدة "نيويورك ديلي تريبيونNew-York Daily Tribune" لمدة عشر سنوات، مقابل جنيه استرليني واحد أسبوعيا كمراسل لها من لندن ولاسيما بعد حل العصبة. وبدأ في الكتابة بانتظام للجريدة وعاد من جديد للتفكير في مواصلة مشواره النظري والتفرغ لمشروع"رأس المال" الذي تحددت ملامحه عبر المقالات والمؤلفات السابقة، كانت الأسئلة المطروحة في ذهنه في حاجة إلى مزيد من القراءات والتمحيص والمراجعة، ولكنه كان قد وصل إلى أكثر من كشف علمي في سياق بحثه في الاقتصاد السياسي والفلسفة، كان الكشف الأول هو عملية الانتقال من الاغتراب الفلسفي– بمفهومه لدى هيجل أو تفسيره عند فيورباخ– إلى الاستلاب الاقتصادي، فقوة العمل حتما تنشأ في صورة سلعة تفصل بين العامل كإنسان والعامل كقوة عمل، كلاهما في موضع مختلف ومغترب عن الآخر كما يغترب الطفل عن أمه، ووجدنا هذا المعني واردا بصورة واضحة لأول مرة في مخطوطات 1844. بينما كان الكشف الثاني عن الصراع الطبقي والاجتماعي في إطاره التاريخي أو التفسير المادي للتاريخ، وعلاقة تغير نمط الإنتاج بتغيير المجتمعات بناء علي تناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وقد ظهر ذلك التحليل في كتابه سالف الذكر"الصراع الطبقي في فرنسا".

أما الكشف الثالث فقد تبلور بصورة واضحة في العام 1855 وكان قد أشار إليه بصور مختلفة في كتابات سابقة ولا سيما العمل المأجور ورأس المال في محاضرة ألقاها 1847 على اجتماع عمالي، وهو قانون فائض القيمة أو القيمة الزائدة. وانطلاقا من هذه التصورات النظرية بدأ في وضع خطة العمل لرأس المال كالتالي: أن لديه تصورات مسبقة عن تناقض الرأسمال والعمل المأجور، ولكن ما قرأه في الاقتصاد السياسي ليس بالعمق الواجب، نعم لديه انتقادات كبيرة على مفكري الاقتصاد السياسي البرجوازيين لكنها لم ترق بعد إلى مرحلة النقد الجذري المستفيض، لديه تقارير حديثة عن أعمال اللجان البرلمانية في إنجلترا وبلجيكا وبعض البلدان الغربية الأخرى، لديه دراية كافية بالحركة العمالية في أوربا سواء في شقها الإصلاحي في إنجلترا أو الثوري في فرنسا، يمتلك قدرا من التواصل مع ثوار أوربا بمختلف انتماءاتهم الأيديولوجية. انتهى ذلك كله بإخراج كتابه الأول"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" عام 1859، وطبع منه ألف نسخة في برلين بالألمانية، وهو نفس العام الذي صدر فيه"أصل الأنواع" لداروين.بعد إصدار هذا الكتاب المفتتح لرأس المال توقفت الحياة الفكرية قليلا بسبب مرض زوجته بالجدري وضيق العيش.

8-

كانت سنوات ما بعد"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" ثقيلة ومرهقة في حياة ماركس، رغم أنها كانت فترة انكباب على القراءة المتواصلة. ولم يخرجه منها سوى الدور الثوري الذي ظل يراود ماركس طوال حياته، رغم نصائح إنجلز له بأن يتفرغ للكتابة. كانت الأممية أو الدولية الأولى 1864 هي التي أعادته من جديد إلى ساحة النضال، حيث دعاه السياسي الفرنسي لوبيز في صيف 1864 لحضور اجتماع للعمال الأوربيين لمناقشة إنشاء منظمة جديدة كانت قد عقدت اجتماعها الأول في العام الماضي، ولم يكن من السهل عليهم تجاهل صاحب البيان الشيوعي، وبعد طول تردد بين استكمال البحث في مشروعه الفكري والنضال المباشر بين صفوف العمال من أجل نقل الوعي إليهم والمساهمة في تنظيم صفوفهم؛ وقف ماركس حائرا بين رغبة بعض تلاميذه وخاصة في ظل هيمنة باكونين ورجاله على المنظمة الوليدة ووجود كتلة لا يستهان بها من النقابين الإنجليز أصحاب التوجه الإصلاحي أصلا، وبين رغبة إنجلز وقليلين في أن يبقى ماركس على حال ابتعاده عن العمل العام، فمن السهل جدا قيام آخرين بهذا الدور الثوري ولكن من الصعب أن يستكمل غيره هذا الجهد النظري الذي تنتظره البروليتاريا في العالم.وحسم ماركس الأمر وخاض التجربة- بدون إنجلز- فحضر الاجتماع التأسيسي بصفته مراقب وحل محله كممثل لألمانيا رفيقه وتلميذه إيكاريوس في الاجتماع الذي عقد بقاعة القديس مارتن في لندن في 29 سبتمبر 1864، وبذلك يعود ماركس للعمل الثوري المنظم بعد 12 سنة من الانقطاع.ولكنه يواجه مقاومة شديدة من قبل الاتجاهات المختلفة داخل الأممية، لم تكن مجموعة باكونين فحسب، بل سنجد اتجاها يقدم تحليلا خطيرا وهو أن النضال من أجل رفع أجور العمال سوف يؤدي إلى زيادة أسعار السلع، كان صاحب هذا الرأي "ويستون" وهو من تلاميذ "أوين"، مما دفع ماركس لتقديم تقرير ألقاه في جلسة يونيو 1865 أشار فيه إلى أن زيادة الأجور لا تؤثر على أسعار البضائع بل تؤدي إلى تقليص أرباح الرأسماليين، وبينما يسعي الرأسماليون لتقليص الأجور إلى حدها الأدنى وإطالة يوم العمل إلى حدوده القصوى، فإن العمال يسيرون في الاتجاه المناقض لذلك.

تستمر الأممية في العمل المتعثر، وتتراكم المشكلات العمالية، ولكن الوعي ينمو ببطء، والحركة العمالية تكتسب كل يوم موقعا جديدا في بلد أو مدينة، ومع كميونة باريس 1871 انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، وبدت أحلام اليقظة وكأنها قابله للتحقق، أصبح بإمكان المنظرين الحديث بجدية عن دور حقيقي للبروليتاريا في التاريخ، ومنذ تلك اللحظة الفارقة بدأ نجم ماركس أكثر وضوحا للناظرين، وتحولت مقولاته وأفكاره إلى برنامج عمل للطبقة العاملة ولكل دعاة التغير. لقد قدمت تجربة الكميونة درسا تاريخيا لا يمكن تجاهله، وكان هناك من الأسباب الكثير في تحليل هزيمة الكميونة، من أهمها أن تلك الهزيمة سمحت بأن تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الحركة العمالية تتميز بطابع تطورها السلمي نسبيا، وبانعدام نضالات الكادحين الثورية الحازمة. ومرد ذلك إلى أن مهمات التحويلات البرجوازية الديمقراطية في بلدان أوربا الغربية كانت قد تحققت أساسا.

9-

بعد إصدار الجزء الأول من رأس المال 1867، الذي كان بمثابة التشريع النظري الذي يؤصل للنزعة النقدية للنظام الرأسمالي، حيث وضعه على منوال أساتذة علم الاقتصاد السياسي السابقين عليه "شكلا"، وعلى طريقة الجدل الهيجلي"منهجا". لذلك فقد اهتزت الأوساط العلمية لهذا التصور الجديد في تناول موضوعات الاقتصاد السياسي، ثم بعد كميونة باريس1871 اهتزت الأوساط البرجوازية والعمالية لهذا الحدث الثوري العظيم الذي نسب في بعض مساعيه إلى أفكار ماركس، بعد هذين الحدثين، وكتابات أخرى كثيرة بالطبع، صرنا أمام مفكر من طراز رفيع يدعو إلى الثورة على النظام الرأسمالي وتجاوزه وبناء مجتمع جديد، مجتمع أقل ما يوصف أنه مابعد حداثي، ولكنه "ما بعد" بالمعنى الجذري، أي تجاوز النظام الرأسمالي نفسه الذي أسس دعائم الحداثة.
وظلت السنوات الباقية من حياة ماركس تتراوح بين المرض والتأليف، السعي إلى رسم ملامح لعالم جديد وتجذير فلسفة مختلفة حتى لحق الموت بكارل ماركس في 14 مارس 1883. وفي مراسم دفن ماركس التي حضرها القليل من الأصدقاء يقول إنجلز: في14مارس، الساعة الثالثة إلا ربع بعد الظهر، توقف أعظم المفكرين الأحياء عن التفكير، لم يكن وحيدا إلا دقيقتين، وعندما عدنا وجدناه نائما نومه الأخير في مقعده.وهي خسارة فادحة للبروليتاريا المناضلة في أوربا وأمريكا، وللعلم التاريخي، موت هذا الرجل، سيشعر الجميع قريبا بالفراغ الذي تركه رحيل هذا العقل العظيم.

..هذا المقال جزء من كتابي" ماركس ضد نيتشه، الطريق الي ما بعد الحداثة"..لذا يرجي العودة إليه لتوثيق مراجع هذا المقال