ماركس والقانون:مقاربات


حازم كويي
2022 / 5 / 4 - 16:13     

هيرمان كلينر*
ترجمة:حازم كويي
كارل ماركس، الذي ولد في 5 مايو 1818 في ترير وتوفي في 14 مارس 1883 في لندن،من عائلة تنحدرمن حاخامات اليهود، أعتنقت المسيحية فيما بعد، والده كان محامياً ومن رجال عصر النهضة الذي تأثر بكانط وفولتير.
درس ماركس القانون في بون،وبالكاد عُرِف عنه كونهُ قانوني،ودرس الفلسفة في جامعة (ينا)بدرجة دكتوراه. كان مُحرراً بارعاً في جريدة(راينشه تسايتونغ) في مجال السياسة والإقتصاد.
- كرئيس مُؤسِس لعصبة الشيوعيين، حيث كتب مع رفيقه إنجلز(البيان الشيوعي) المكون من 23 صفحة، والذي نُشر في لندن فبراير عام 1848، بتكليف من عصبة الشيوعيين، التي كان فيها لاجئاً سياسياً وفي ظرف معيشي إقتصادي خاص،عاشها في فقر وبؤس في منطقة سوهو،هناك كان يراجع المتحف البريطاني بكنوز كتبها يومياً.
- كمؤلف للعمل الأساسي المتعدد المجلدات،رأس المال Das Kapital))، والذي ظل بالطبع غير مكتمل، أدعى فيها أنه أثبت، أن الصراع الطبقي الذي يميز المجتمع البرجوازي سيؤدي بالضرورة إلى "دكتاتورية البروليتاريا"
لا يعتبر ماركس عادة محامياً، على الرغم من أنه كان في الأصل محامياً (مثل لينين وليبكنخت) حيث درس المحاماة في جامعات بون ثم برلين.
كما نعلم من تبادل الرسائل بين ماركس البالغ تسعة عشر عاماً وأبيه،حيث قام بترجمة كتاب ((Pandect الى الألمانية. كتب والدهُ الذي رآه بالفعل أستاذاً قانونياً في بون "آرائك في القانون لا تخلو من الحقيقة، لكنها مناسبة جداً لأن يتم إدخالها في نظام لإثارة العواصف." حتى لو كانت العواصف التي أثارها ماركس في العقود القادمة أقل من مجال القانون "أرضنا ليست أرض قانونية،أرضنا هي أرض ثورية".
ولكن بشكل مباشر في المجال العملي للسياسة وكذلك في المجال النظري للاقتصاد على وجه الخصوص والعلوم الاجتماعية بشكل عام، لا يزال من الواضح أنه كان منتجاً طوال حياته، معنياً بمكانة القانون في الماضي والحاضر، وفي هذه العملية أيضاً، أثرت بشكل كبير المعرفة البشرية في هذا المجال. بادئ ذي بدء تجدر الإشارة إلى الثروة الموضوعية لمناقشات ماركس ذات الصلة القانونية، في مئات النصوص الصغيرة والكبيرة، تمت فيها مناقشة ما يلي:
الأسباب الاجتماعية لظهور القانون وتطوره وزواله، القانون الإنجليزي، الفرنسي، البروسي والروماني،النظم القانونية والتشريعات، القانون المتساوي وغير المتكافئ، القانون كوسيلة ومقياس للسلطة والعنف والسيطرة، طابعه الطبقي، الملكية الخاصة والقانون، الحرية وسلطة القانون، العلاقة بين الدولة والقانون، القانون والعدالة والفقه،دور القانون في الثورات كما في الثورات المضادة، القانون فيما يتعلق بالفلسفة والعقيدة والأخلاق والدين، القانون كجزء من البنية الفوقية الاجتماعية، العلاقات القانونية كعلاقات إرادة وعلاقات وهم، القانون في نظام علاقات الملكية والإنتاج والتداول،القانون العام والخاص، الحق في العمل. الظلم بامتياز. العدالة وحقوق الإنسان. قلما علق ماركس على معايير الشرعية لقواعد السلوك الملزمة، أوغير الملزمة في "دولة ما بعد الرأسمالية، في مجتمع شيوعي"
للوصول منذ البداية الى النقطة الصحيحة مباشرة، طور ماركس كمحام متدرب مفهوماً للقانون بإعتباره مدونة سلوك ملزمة داخل مجتمعات منقسمة الى طبقات نتيجة لعملية من ثلاث خطوات من النقد الديني إلى القانوني، إلى النقد الاقتصادي.
تتميز مدونة السلوك هذه بما يلي:
أ) انعكاساتها (انعكاس علاقات الملكية).
ب) وظيفتها (وسائل سلطة الطبقات الاجتماعية الحاكمة).
ج) معياريتها (مقياس لسلوك الناس من حيث حقوقهم وواجباتهم).
تركز النقاط الثلاث السابقة في تسلسل أفكار ماركس نفسه: القانون كادعاء ملزم للشرعية، أي "طاعة القانون" لايمكن أن ينشأ "من نفسه " ولا "من التطور العام من الروح البشرية" للإنسان العقل" بل الفهم، إنه متجذر في "الظروف المعيشية المادية،البنية الإقتصادية للمجتمع" باعتبارها "الأساس الحقيقي"
حيث ينطبق على النظام القانوني ككل، والذي يفترض مسبقاً فهم"الظروف المعيشية المادية للعصر المعني"، والتي تحدد محتوى "النظم القانونية".
متطلبات شرعية سلوك المواطنين والمقيمين في الدولة لاتهدف فقط الى التطابق الإنتقائي بين الإجراءات الفعلية والمحددة للأشخاص والمؤسسات، ولكنها تعني حالة اتفاق قابلة للتطبيق بشكل عام.
تبادل السلع التي ينتجُها المالكين الخاصين، مجبرون على الاعتراف المتبادل ببعضهم البعض وبعلاقة ملزمة للدخول في شكل العقد، سواء تم تطويره بشكل قانوني أم لا .
يتم تحديد محتوى هذه العلاقة القانونية أو الطوعية من خلال العلاقة الاقتصادية نفسها،هؤلاء الأشخاص موجودون مع بعضهم البعض كممثلين ومالكي السلع، وهم بأقنعتهم الشخصية الاقتصادية يجسدون الظروف الإقتصادية مع بعضهم البعض.
ومع ذلك،فإن القانون ليس مجرد إنعكاس سلبي لعلاقات الإنتاج،لإن الأخيرة،وفقاً لفريدريك إنجلز هي فقط"في الحالة الأخيرة اللحظة الحاسمة(أو العامل المحدد)في تاريخ إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الواقعية"
العلاقات بين لحظات البنية التحتية والفوقية هي تفاعل لقوى غير متكافئة،تعمل في إستقلال نسبي،أنه قادم أيضاً من"علاقة غير متكافئة بين الإنتاج المادي وغير المادي،على سبيل المثال عندما تتطور علاقات الإنتاج كعلاقات قانونية بشكل غير متساوٍ.
من هذا المفهوم الماركسي (أي الماركسي الحقيقي) للانعكاسية والوظيفية والمعيارية للقانون، ونفيه لمفهوم القانون
أ. باعتباره هنا، نظاماً دنيوياً له أصل في الآخرة ينتج عنه قوة إكراه منطقية.
ب. تعسف مؤسسي للأوامر المعممة .
ج. كنظام معياري مستقل تماماً، ولكن أيضاً
د. باعتباره مجرد إنعكاس سلبي للقوة الاقتصادية.
إن التركيز على المفاهيم الأربعة أعلاه التي أنكرها ماركس في مساره الفكري يعني، التعاقب الواعي لمفكري التنوير القدامى و الأوربيين،مهاجماً فيها وجهة نظر البروفيسور سافيني الخاصة والمؤثرة سياسياً، ووفقاً لذلك يجب على المرء أن يطيع قانون الشعب كما يطيع لغته التي تم تناقلها منذ ذلك الحين، تحمل "علامة الشرعية" كشيء أصبح تاريخياً ولكنها، وفقاً لماركس هي "دناءة شرعية اليوم من دناءة الأمس" وأنتقد تبرير القانون من السلطة التعسفية للدولة، ضد الطلب المعروف في الكتاب المقدس (رسالة بولس إلى تيتوس الثالث)، "إلى المرؤوسين " حيث يجب على المرء أن يطيع السلطات التي تمسك سلطة الدولة في قبضتها، لتمكين إضفاء الشرعية الذاتية على هذا الحق.
لاحظ ماركس بسخرية أن الشخص الذي يعتبر تملكه للسلطة وقوته التعسفية هو قانون،قد أثبت فيها الإنسان أنه يمكنه أيضاً كسر آخر عبودية والخلاص منها، كونه كائن عقلاني.
قد يفسر الامتلاك الفعلي لسلطة الدولة ظهور قواعد السلوك القانونية، ولكن لا يبرر محتواها. علاوة على ذلك، وقف ماركس في معارضة حازمة مع محاولات ذلك الوقت لتقديم القانون كنظام تكوين ذاتي(وبالتالي لتمكين إضفاء الشرعية الذاتية للقانون)وأكد على مفهوم القانون كشئ عضوي ومجموعة من القواعد القانونية المعتمدة على بعضها البعض والمشتقة بشكل متبادل،واحدة في ذاتها، ولاننسى،أنه ليس للقانون من تأريخه الخاص سوى القليل مثل الدين. إذا كان من الممكن إشتقاق القاعدة القانونية الفردية (منطقياً أو تاريخياً)فقط من قاعدة قانونية أخرى،فإن مسألة شرعية النظام القانوني ككل لاتظهر إلابقدر مايعلن بعد ذلك أنه غير شرعي،إذا كانت متطلباته السلوكية غير مُتسقة، نظراً لأن العلاقات القانونية لايمكن فهمها بمفردها،فلا يمكن إضفاء الشرعية عليها بمفردها.
وأخيراً،كنتيجة لمفهوم مادي،يرفض ماركس أيضاً مفاهيم القانون الطبيعي الميتافيزيقي لوجود كاتلوك(فهرس) للمعايير ما قبل الإجتماعية أو مبادئ مسبقة صالحة بدون زمان ومكان، التي فيها أنظمة قانونية صالحة أو تدعي صحتها،تم بموجبها أضفاء الشرعية عليها أو نزع الشرعية عنها.على وجه الخصوص،الوهم السائد في المجتمع البرجوازي والمنتشر في الحركة العمالية أيضاً،بأن إعلانات حقوق الإنسان في أواخر القرن الثامن عشر مع الحقوق الأبدية المزعومة في الحرية والمساواة والأخوة، متأصلة في كل إنسان.
لقد احتوت الحقوق الأبدية في الحرية والمساواة والأخوة بالفعل على البرنامج الحقيقي للاشتراكية، وأقر ماركس في رده، أنه من المستحيل تماماً "الرغبة في إعادة بناء المجتمع على أساس أنه في حد ذاته ليس سوى الظل المنمق لهذا المجتمع، تحت حماية الشرعية وتحجبها الأيديولوجية القانونية، يوجد في "نمط الإنتاج البرجوازي مشروطا موضوعيا "بتراكم الثروة في قطب واحد" وفي نفس الوقت "تراكم البؤس،العذاب في العمل، والعبودية، والجهل، والوحشية، والانحلال الأخلاقي على القطب المقابل " ، بغض النظر عما إذا كانت الدساتير المعنية مسبوقة بكتالوكات حقوق الإنسان أم لا.
لو لم يكن لدى كارل ماركس نظام فكري قانوني فلسفي، فإن لديه منهجاً فلسفياً قانونياً. في الواقع بادئ ذي بدء، إنتقاله إلى الموقف القانوني الفلسفي الأساسي لهيغل، والذي حدث في الفترة من عام1837 وأستمر حتى عام 1843، ثم واصل الصراع بين عامي 1841 و 1845، مع عالم هيغل وفلسفته القانونية، ونتيجة لذلك طور أخيراً نظريته الخاصة، أي نظرية المجتمع الماركسية في الأصل، التي تتحرك فيها مفاهيمه عن القانون. بالمناسبة لوحظ القليل حتى يومنا هذا، أن تطور ماركس نفسه من المثالية إلى المادية حدث بشكل أقل في المجال الإقتصادي،ولكن في المقام الأول المشاكل القانونية،مثل الديمقراطية،حرية الصحافة،قانون سرقة الأخشاب،الطلاق،وكذلك حقوق الإنسان،الحرية الدينية والمساواة.
في سياق تمرينه الفكري الأول، تحت تأثير هيغل، تخلى عن الإزدواجية الدائمة بين القانون الوضعي والقانون الطبيعي على أساس مبادئ مسبقة،بين القانون المُكتسب والفطري،بين الممارسة القانونية التجريبية والنظام القانوني الميتافيزيقي. وكما هو معروف عن هيغل جيداً،بإعلانه للهوية العقلانية والتأريخية،حيث تغلب فيها على تناقضين بين العقل والتأريخ متضادين وهما:
أ.إعلان أيمانوئيل كانط عن حتمية التأريخ (بما أن"إمتلاك القوة لامحالة يفسد الحكم الحر للعقل")
ب.محاولة فريدريش كارل فون سافيني، لحماية القانون التأريخي للملكية الإقطاعية الألمانية من مقترحات تغيير العقل وفقاً لتشريعات الثورة الفرنسية،والتي سماها (لعنة)الضرر.
ومع ذلك،لم يكن هناك غموض حول القبول الماركسي لنظرية هيغل سيئة السمعة حول معقولية الواقع وواقعية المعقول، الذي يتعلق بالنطاق السياسي للتفسير.
في مناقشات ماركس،التي خصصها في المقام الأول مع الهيغليين الشباب في مايسمى(نادي الأطباء)،حيث قاموا ومن منظور يساري بتحرير فلسفة هيغل من آلهة الحكم المطلق،وتحديث مفهومه للتقدم في التنمية البشرية.
وبالتالي يمكن للفرد الذي يدرك المسار الموضوعي للتاريخ. "أنا متمسك بحقيقة أن الروح العالمية في ذلك الوقت أعطت كلمة القيادة للتقدم. مثل هذا الأمر يتم تفاديه"،كما يقول هيغل، من المسافة الحرجة للفرد إلى القانون الوضعي في عصره، يمكن أن تنمو الإرادة لممارسة ضغط العقل على ما هو موجود كمقاومة، تصل إلى نقطة الثورة:"إنها دائماً ثورة"لأن "ماهو معقول يجب ان يحدث"
مع جهده الفكري الثاني،الذي أنتهى حوالي عام 1845،اكمل ماركس الإنتقال من نقد الواقع، من خلال المثالية الى نقدها، من خلال واقعه،أي الإنتقال من المثالية الى المادية.
يجب فهم العلاقات القانونية والنظم القانونية من الظروف المعيشية المادية للعصر المعني، وقد كانت هذه هي الأطروحة المنهجية المركزية لفلسفته القانونية ذلك الحين. وفي نهاية عام 1842 كان لا يزال يندد ب "المادية الفاسدة" لملاك الأراضي البروسيين، الذين جعلوا الدولة جهازاً خاصاً بهم،كما طالب هيغل، باعتبارها إنبثاقاً للحرية والعقل، ومنذ منتصف عام 1843 بدأ يندد بمثالية هيغل،لإنها قلبت سياقات التحديد الأجتماعي رأساً على عقب.
بدأ ماركس الشاب، البالغ من العمر خمسة وعشرين عاماً في إنتقاد فلسفة هيغل للقانون في شكل تعليق على الفقرة 260-312 من الكتاب المدرسي لفلسفة القانون، والذي نشره هيغل في أكتوبر 1820 في محاضراته الخاصة في برلين. أنه أكثر النصوص المنشورة شمولاً التي خصصها ماركس حصرياً لفلسفة القانون، نُشر لأول مرة في عام 1927 وينتهي بعبارة "يا جيروم!"
في مناقشة أكثر تفصيلاً لهذين النهجين القانونيين الفلسفيين من قبل ماركس،تظهر فرصة لفت الإنتباه الى أربعة جوانب ماركسية مهمة لطبيعة القانون في الماركسية،التي تتوج تنمية الفكر الإجتماعي والعلمي.
أ.في بداية عصر التنوير الأوروبي، كانت فكرة الأنسان لدى توماس هوبز وبسمات طبيعته المميزة، حرب الكل ضد الكل،ليحولها الى عقد بين الجميع (عهد كل أنسان مع أنسان)في المجتمع .
ثم أدعى جون لوك،أن المجتمع المدني يضمن الحرية الطبيعية لكل إنسان،سواءاً كان غنياً أم فقيراً،بنفس الطريقة "حتى يتمكن الجميع من العيش بشكل مريح، بهدوء وسلام معاً ويتمتع كل منهم براحة البال" وعلى ممتلكاتهم دون قلق.
مع قرب نهاية عصر التنوير الأوروبي، صرح هيغل بشكل واقعي، وفي تناقض دقيق مع وعود أسلافه، أن "رفاهية جميع الناس هي تجريد فارغ"، لأن هذا "المجتمع البرجوازي" كان ولا يزال " ساحة معركة المصالح الفردية الخاصة للجميع ضد الجميع ". من خلال الديالكتيك الملازم لها، أي" فائض الثروة "من ناحية و" فائض الفقر "من ناحية أخرى "
قارن توصيف ماركس للمجتمع البرجوازي على أنه"الحرب الشاملة ضد الكل" وتحليله للطابع العدائي للتراكم الرأسمالي،الذي هو "تراكم الثروة" في قطب واحد وفي نفس الوقت "تراكم البؤس والعذاب في العمل والعبودية والجهل والانحلال الأخلاقي على القطب المقابل". لا عجب أن ماركس أيضاً في رأس المال "أعترف علانية بأنه تلميذ" لهيغل، "ذلك المفكر العظيم".
في وقت مبكر، وصف فريدريك إنجلز الشيوعية بأنها "نتيجة ضرورية" لتطور الأفكار من قبل كانط وهيغل، وفي النهاية قال بشكل عام " بالطبع بدون هيغل لا تنجح".

ب) بعد تعيينه أستاذاً في الجامعة الملكية في برلين(مكان كرسي فيشته الشاغر) في هيئة التدريس الفلسفية، حيث قدم هيغل عام 1818/19خمسة محاضرات في الأسبوع عن "القانون الطبيعي والعلوم السياسية أو فلسفة القانون" في قسم الفلسفة مبدئياً حسب توجيهاته القادمة. (العنوان الفرعي: القانون الطبيعي والعلوم السياسية)وتمكن من إلقاء المحاضرة التي أعلن عنها للفصل الشتوي 1831/32 وفقاً لكتابه"الخطوط الأساسية لفلسفة القانون"إلا انه توفي في 14 نوفمبر 1831.
مع ذلك، في نفس العقد، بين عامي 1828 و 1838، عقدت 12 محاضرة على أساس مبادئ هيغل لفلسفة القانون في كلية الحقوق في نفس الجامعة الملكية في برلين. تم توثيق هذه المحاضرات من خلال ملاحظات ستة طلاب مختلفين (بما في ذلك ابن هيغل!)، والتي تم نشرها منذ ذلك الحين.
هذه المحاضرات ألقاها إدوارد غانز، وهو ألماني من أصل يهودي، وهي من أهم المحاضرات، كعالم قانوني ألماني من القرن التاسع عشر، ومن المُسلم به أنه أقل شهرة من لودفيغ فيورباخ أو موسزهيس على سبيل المثال. غانس كان مثل هيغل معارضاً قوياً لسافيني، بالأخص محاولته لمنع اليهودي،الحاصل على درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف، من تعيينه أستاذاً وبمساعدة ولي العهد والتدخل الملكي.
بينما أولى هيغل أهمية لا حصر لها، لفكرة أن "الإنسان مهم كونه إنسان، وليس لأنه يهودي، كاثوليكي، بروتستانتي، ألماني، إيطالي ، إلخ"،عكس سافيني، رغم المساواة السياسية بين المسيحيين واليهود،ووفقاً لرأيه أنهم يبقون في الجوهرغرباء.
كان غانس لفترة من الوقت رئيساً لجمعية الثقافة والعلوم لليهود (الذي صمم قوانينها) وبعد تحوله إلى المسيحية (التي لم يؤمن بها)،بعد إبتزاز سافيني والملك البروسي له، حيث أصبح منذ عام 1826 أستاذاً في كلية الحقوق في برلين، كان من بين طلابه هاينريش هاينه وكارل ماركس. وفي العام نفسه، أصبح أميناً عاماً لجمعية النقد العلمي، التي تأسست في منزل هيغل كأكاديمية بديلة للعلوم، ونشر كتبها السنوية أيضاً. كما قام غانز بتحرير فلسفة هيغل للقانون في طبعة جمعية الأصدقاء الأسطورية لأعمال هيغل(مع حوالي مائتي إضافة وكتابات طلابه من خلال محاضراته)، أستحوذت "محاضراته عن التاريخ الحديث" بحضور مئات المستمعين، بما في ذلك المسؤولون والعسكريون والتجار والمصرفيون والفنانون والكتاب والحرفيون المرموقون. فقد كان غانس خطيباً جامعياً موهوباً متميزاً عن الآخرين.
محاضرات ومنشورات غانس أحدثت تغييرات نوعية لمفهوم هيغل:
أولاً، فيما يُعرف باسم "قانون الدولة الداخلي"، لم يتورط في تبرير وضعي مموه للنظام الملكي، ولكنه أعلن أن يكون الشعب المؤسس الأخير للدولة. مع الثورة الفرنسية بدأت الدولة في تلك الفترة كدولة منظمة بشكل معقول، وكانت السلطة الجمهورية هي الوحيدة المناسبة للتغلب الكامل على العصور الوسطى. فيما يتعلق بالحق الإلهي المزعوم للملوك، أشار غانس بسخرية إلى أن الدولة البابوية كانت الدولة الأكثر إلهية، ولكنها أيضاً الأسوأ، على عكس هيغل، أعلن غانس أن المعارضة القانونية،التي تتعارض مع الحكومة وتنفيها،هي جزء ضروري من دولة سياسية طبيعية ومتحضرة، وإلا فإنه ينحدرإلى الركود. وأخيراً تسلل غانس إلى نظام هيغل للفلسفة القانونية، حيث قال البند 246 عن المجتمع المدني أنها كانت مدفوعة بما هو أبعد من نفسها من خلال التناقض الجوهري بين الثروة والفقر، أفكار من مخزون فكر سان سيمون.
بالضبط في عام 1836، أنتقل ماركس من بون الى جامعة برلين، حيث أرتبط حديثاً في علاقة حُب مع جيني، نشر إدوارد غانس تقييماً للأحداث الثورية الفرنسية لعام 1830 والأدب الطوباوي الاشتراكي هناك في دار نشر في برلين،بإستخدامه مفردات تُذكِر بالبيان الشيوعي اللاحق،عن التناقض بين أصحاب المصانع والبروليتاريين،عن الأشتراكية!
في محاضراته حول فلسفة التأريخ،أصبح غانس أكثر وضوحاً. نضال البشرية لم ينته بعد، الطبقة الدنيا ستدخل وتتدخل أكثر فأكثر في الدولة، ويختفي الفرق بين الحاكم والمحكوم وستأتي ثورة الرعاع، كل جماهير المحرومين والمُعدمين سيجعلون العالم يرتجف. كما يتضح من المادة 3 ذات الصلة بالنظام الأساسي "لعصبة الخارجين عن القانون" من عام 1834/35 و"عصبة العادلين"من عام 1838،كانت هذه المنظمات السابقة ل"عصبة الشيوعيين" اللاحقة، الرأي القائل بأن أعلانات حقوق الإنسان البرجوازية لعام 1789/93 ستحتوي بالفعل على البرنامج الحقيقي للإشتراكية/الشيوعية.ولايمكن للمادة 34من إعلان اليعاقبة لحقوق الإنسان،التي تنص على ان المجتمع ككل يُعتبر مُضطهداً حتى لو تعرض أحد أعضاءه للإضطهاد.
تُقرأ كتوقع للجملة التي يُستشهد بها كثيراً من البيان الشيوعي،بان المجتمع البرجوازي القديم سوف يدخل في إتحاد "يكون فيها التطور الحر لكل فرد شرطاً للتطور الحر للجميع"
وعارض ماركس ذلك ورأى فيه سوء توجيه بإدراكه أنه من المستحيل إعادة بناء المجتمع في "التطور الكامل والحر لكل فرد"حيث يتطلب التحرر الشامل بدلاً من التحرر الجزئي،تحرراً بشرياً حقيقياً. بدون إضفاء الطابع الإجتماعي على ملكية وسائل الإنتاج والدولة،لايمكن أن تكون هناك حرية متساوية حقاً لجميع الناس.
لم يكن ماركس يريد إنكار تأريخية الإعلانات البرجوازية لحقوق الإنسان من الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، حتى لو قام بالتقليل منها أو خفضها الى(حقوق الإنسان المزعومة).حيث تنزع عنها مصداقيتها أحياناً، الطابع الطبقي للحرية وحقوق المساواة المعلن عنها، على أنها"مُثل برجوازية مُحطمة" أو مصالح برجوازية ملفوفة ب "عبارات أخوية".
لقد أدرك فقط "الحتمية القاطعة للإطاحة بجميع الظروف التي يكون فيها الإنسان كائناً منحطاً، ومستعبدأً، ومهجورأً، ومُقيتاً.
ما كان يهمه لم يكن التحرر السياسي، أو التحرر الجزئي فحسب، بل التحرر الإنساني الشامل. ومن هذا المنطلق كان يعتقد أن ذلك في المانيا،هو من ضمن جدول العمل التاريخي،في فرنسا كان التحرر الجزئي هو سبب التحرر العالمي.في ألمانيا التحررالشامل هو الشرط الذي لاغنى عنه لأي تحرر جزئي،الى الحرية الكاملة" وكسر كل نوع من أشكال العبودية.
أن تحرر الألمان هو تحرر الإنسان،وهناك الكلمات الكثيرة التي نٌقلت،عن كون الفلسفة هي رأس التحرر والبروليتاريا قلبها.
لكن إذا كان ماركس،مع عدم رغبته في الإنخراط في أي ثورة برجوازية،وأكتفى فقط بإضفاء الشرعية على الثورة البروليتارية في ألمانيا (كُتبت عام1843)،فهل أخطأ في الحكم على إمكانيات التأريخ،وخاصة التأريخ الألماني؟
هل حقوق الإنسان والحقوق المدنية، المناسبة للمجتمع البرجوازي، لأولئك الذين يعيشون ويعملون داخل هذا المجتمع، باعتبارها أيضاًحقوقاً ذاتية، ليس لديهم وجود حقيقي، بل مجرد وهم؟قد يبدو الأمر غير معقول. كان ماركس في الواقع من هذا الرأي في ذلك الوقت، في إشارة صريحة إلى الظروف الألمانية.
تخلى ماركس عن سوء تقديره لقرب ثورة أشتراكية وشيكة في ألمانيا بعد ذلك بقليل. وبالتالي، فإن "أسئلة الاستراتيجية السياسية للبروليتاريا في نضوج الثورة البرجوازية" التي كتب عنها في سياقات أخرى كانت تنتمي أيضاً لذلك الوقت.
بالنسبة له،لم تكن هذه مجرد"مُثل برجوازية مُحطمة" لكنها بَدت له كأسلحة للشعب أنشأتها الطبقة الرأسمالية الحاكمة تحت تأثير الصراع الطبقي،والسلاح الذي أُنشأ من الأسفل ولاسيما الحركة العمالية والناس،والتي تنقلب في ظل ظروف معينة ضد أولئك المتمسكين بالسلطة والعنف.
لم يكن ماركس بأي حال من الأحوال من أولئك العدميين القانونيين (مثل ماكس شتيرنر،على سبيل المثال) كون هؤلاء إلى جانب الضرورة التاريخية، يميلون إلى إنكار حقيقة القانون الموضوعي،بما في ذلك الحقوق الذاتية المرتبطة به في أوقات الإصلاح وكذلك في أوقات الثورة. لم يُحدد ماركس أيضاً حقوق المجتمع(مثل فرديناند لاسال،على سبيل المثال) مع توازن القوى الفعلي. لقد كانت بالنسبه له بالتأكيد إرادة طبقية، وليس التعسف الطبقي، وكانت الوسيلة المعيارية ومقياساً للسلطة ومن أجلها.
د. تابع ماركس الأنتقال الفكري من المثالية الى المادية بإعتباره تطوراً ضرورياً لتعميق النقد.أمتد من نقد اللاهوت والدين الى نقد السياسة والقانون،وتوسيعه الى نقد الأقتصاد السياسي.
لايمكن التغاضي عن أن ماركس ببرنامجه النقدي المتدرج،يجد نفسه في تقليد الفلسفة النقدية التي بدأها بشدة كانط وزاد من تطرفها هيغل،حيث كشف الدوغما العقائدية،غير المعقولة للتفكير البشري من أجل أن تكون قادرة على إلغائها. بينما ركز ماركس نقده للدين والقانون والاقتصاد في المقام الأول على البنية الاقتصادية للمجتمع، فقد تعامل مع المشكلات القانونية والفلسفية بشكل عرضي،كمشكلات مُشتقة. من خلال "وجهة نظره القانونية ـ الفلسفية"، حاول فيها قبل كل شيء درء تدخل الدين في القانون.في تحليلاته النقدية لنمط إنتاج الحياة المادية لم ينكر تأثيرعملية الحياة الروحية(بما في ذلك القانوني)على التنمية البشرية، والتي غالباً مايجري تهميشها، وهذا ما شجع العدمية اليمينية في النظر الى الأشياء والتصرفات،والتي كان لها بعد ذلك عواقب مدمرة سواء من الناحية النظرية بالنسبة للدوغمائيين أو في الممارسة العملية بالنسبة للديكتاتوريين.
لطالما أرتبطت أفكار ماركس القانونية، مثل أفكار إنجلزعن العدالة، فإن المطالبة في الوقت الحاضربدولة الرفاهية والممارسة القانونية السابقة للاشتراكية يتم أستنتاجها أحياناً من ضرورات العدالة القائمة المزعومة. إذا كلف المرء عناء قراءة ملاحظات ماركس حول موضوع العدالة، الذي أكمله إنجلزفي عمل ضخم، يجد المرء نفسه تحت رحمة صرح معقد للأفكار.
من ناحية أخرى جرى تقييم كل مبدأ من مبادئ العدالة بإدعاء مطلق الصلاحية (كونها فطرية أو مفروضة إلهياً)على أنها أيديولوجية خالصة،أي "وعي زائف"فالحديث عن العدالة الطبيعية هو هراء.
إن عدالة المعاملات التي تتم بين وكلاء الإنتاج تقوم على حقيقة أن هذه المعاملات تنشأ من علاقات الإنتاج كنتيجة طبيعية، وبالتالي فإن أي شخص يعمل في الدراسات العلمية مع "العدالة" ليست في كثير من الأحيان سوى "شخصية فارغة من الكلام" ، "شخصية مثالية في الكلام تثيرالارتباك اليائس، لأن "العدالة الاجتماعية والظلم يقررهما علم واحد، علم الاقتصاد السياسي"
إن تحرير الطبقة العاملة "ليست مسألة عدالة مجردة أو شعور إنساني، بل هو الشرط الأول لتحررهم الاجتماعي" لا يمكن لأحد أن يأتي إلى ماركس أو إنجلز بعدالة أبدية، الذي بدا غير متوافق مع هذا، المتمثل في رفع التفسير التاريخي لظهور دولة قانونية كمعيار لتبرير صلاحياتها المستقبلية،رفضهُ عالم الديالكتيك ماركس، من ناحية أخرى أقر بالمحتوى التقدمي جزئياً والمحافظ جزئياً لمفاهيم العدالة التي ظهرت في مجرى التاريخ البشري كتعبير مثالي عن المصالح المادية للطبقات الاجتماعية المختلفة. كان العدل مجرد " تعبير ممجد أيديولوجياً عن الظروف الاقتصادية، أحياناً قريباً من جهة المحافظين، وأحياناً من جهة الثوريين ". مَيزهُ ماركس وإنجلز بشكل منفصل بين :
أ.العدالة القانونية،أي الإمتثال لمعيار قانوني وحكم قضائي مع النظام القانوني المعمول به.
ب. العدالة الاجتماعية، أي اتفاق بين القانون ونمط الإنتاج.
ج. العدالة التاريخية، أي اتفاق بين القانون ومتطلبات التقدم للمجتمع.
وبهذا المعنى، فقد ميزوا "ما هو عادل أخلاقياً، وما هو عادل في القانون" وما هو "عادل اجتماعياً"، بمعنى "عادل في القانون" سلوكاً، أو علاقة تتفق مع قانون الولاية المعمول به أو يتوافق مع القانون العرفي، أي عادلة من الناحية القانونية، في حين فهموا "العدل الاجتماعي" على أنه يعني السلوك أو العلاقات التي تنصف نمط الإنتاج المعني. هذه هي الطريقة الوحيدة لفهم ما إذا كان إنجلز يتحدث عن "العدالة التاريخية" أو "التبرير التاريخي"، أو عندما يكتب ماركس عن "التبرير التاريخي لرأس المال" أو "التبرير التاريخي لنمط الإنتاج البرجوازي الرأسمالي"، أو أيضاً عن حقيقة التوزيع الرأسمالي بين العمال والبرجوازية هو التوزيع "العادل" الوحيد القائم على علاقات الملكية الرأسمالية. يربح الرأسمالي "بكامل الحقوق، أي الحق المقابل لهذا النمط من الإنتاج ". ومع ذلك، فإن العقد بين رأس المال والعمل نفسه لا يمكن أبداً أن يقوم على شروط عادلة ،كون أجر العامل لايُحسب بمقياس العدالة بأي حال من الأحوال. لأن "العامل ليس لديه نقطة مخرج لإجر عادل" ، بأي حال من الأحوال أن تحسب له أجرة من العدالة.
وهكذا تعامل ماركس وإنجلز بكل من المفهوم الأيديولوجي النقدي والمفهوم المعياري للعدالة. وقد فضلوا الانعكاسية على الخصائص التأسيسية للعدالة، وانعكاسات الأحداث التاريخية في أفكار العدالة على مسار التاريخ. وقد ركزوا قبل كل شيء على ما يعتقدون أنه ثورة بروليتارية وشيكة، حيث "ستُسلخ" ظروف الإنتاج الرأسمالي إلى ظروف أشتراكية، لكنهم قللوا من شأن الإمكانات الإصلاحية لمطالب العدالة ضمن التكوين الاجتماعي القائم.
إن مفهوم ماركس عن القانون جزء لا يتجزأ من تطور الفقه الأوروبي في القرون الماضية وكما هو في الحاضر،عملية تأثيرها دولية، لم تكتمل. لا يوجد مسار علمي مبرر يقود إلى الماضي أو وراء رؤى ماركس الأساسية في القانون.

*هيرمان كلينر: محام وفيلسوف قانون ألماني،عضو في مجلس شيوخ حزب اليسار الألماني.