الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 1


مالك ابوعليا
2022 / 5 / 3 - 02:20     

المؤلفة: سيلفيا فيديريتشي Silvia Federici*

ترجمة مالك أبوعليا

الاشارات المرجعية بعد الحروف الأبجدية (أ، ب، جـ...) تعود الى المُترجم.

مُقدّمة
هذه المقالة هي الجزء الأول من الفصل الثالث من كتاب قادم بعنوان (الكاليبان والساحرة: المرأة والجسد والتراكم البدائي Caliban and the Witch: Women, The Body and Primitive Accumulation)(أ) والذي يُعيد قراءة البُنية التاريخية لاضطهاد الساحرات والتغيرات التي طرأت على "الجسد" في الفترة الانتقالية من الاقطاع الى الرأسمالية. انه يدرس الهجوم على الجسد في السياسة الاجتماعية للقرن السابع عشر، ويدرس تطور الباراديغم الميكانيكي في الفلسفة الأوروبية المُعاصرة، ويضع هذه التطورات في سياق الدافع الرأسمالي لمُراكمة قوة العمل وسحق مُقاومة العمال الذين يرفضون نظام العمل المأجور. سيظهر باقي الفصل، في العدد القادم من هذه المجلة (والذي سنُترجمة لاحقاً-مالك أبوعليا). ان الفصل الرابع من الكتاب المذكور يوسّع هذا التحليل الى صيد الساحرات، مُحاججاً أن ابادة الساحرات كانت مُتجذرة في مُحاولة الدولة إقامة سيطرتها على الوظيفة الانجابية للمرأة، وتحويل جسد المرأة الى أداة من أجل إعادة انتاج قوة العمل.

"وبما أننا نرى أن الحياة ليست الا حركة للأطراف... اذ ما هو القلب، ان لم يكن زنبركاً، وما هي الأعصاب ان لم تكن أوتاراً مُتعددة، وما هي المفاصل ان لم تكن عجلاتٍ كثيرة، تُحرّك الجسم كله، تماماً كما أرادها الصانع؟" 1650
الليفياثان-الأصول الطبيعية والسياسية لسُلطة الدولة، توماس هوبز، ترجمة ديانا حرب وبُشرى صعب، دار الفارابي 2011، ص17

"ومع ذلك، سأكون مخلوقاً أكثر نُبلاً، وفي الوقت الذي ستدفعني فيه حاجاتي الطبيعية الى حالة الوحش، سترتفع روحي وتطير نحو توظيف الملائكة"
كوتن ميذر 1680-1708 Cotton Mather, Diary

"أشفقوا عليّ قليلاً... لأن أصدقائي مساكين جداً، وأُمي مريضة جداً، وسأموت صباح الأربعاء القادم، لذلك آمَلُ ان تكونوا طيبين معي بحيث أن تمنحوا أصدقائي مبلغاً صغيراً من المال لدفع ثمن التابوت لكي يأخذوا جسدي بعيداً عن الشجرة التي سأموت عليها... ولا تجزعوا... لذلك آملُ أن تأخذوا جسدي المسكين بعين الاعتبار، ولو كان هذا الجسد من عِرقَك، فستكون على استعداد لإنقاذ جسدك من الجراحين".
رسالة ريتشارد توبين* Richard Tobin المحكوم عليه بالاعدام في لندن عام 1739.

نُلاحظ، في القرن السادس عشر، في مناطق أوروبا الأكثر تأثراً بالاصلاح البروتستانتي وصعود البرجوازية التجارية الى السلطة، نُلاحظ مفهوماً جديداً عن الشخص والفرد في كل مجال-المسرح، التبشير، الخيال السياسي والفلسفي. يتجسد هذا بوضوح عند شخصية بروسبيرو (الدوق الشرعي لميلانو) في مسرحية (العاصفة) لشكسبير، والذي هو مزيج من الروحانية السماوية لآرييل (وهي روح وخادمة لبروسبيرو) ومادية كاليبان الوحشية، ومع ذلك فهو يُظهر قلقاً خفياً بشأن هذا التوازن المُحقق بين (الروحي والوحشي)، هذا التوازن الذي يستبعد أي اعتزاز بالمكانة الفريدة لـ"الانسان" في هذا العالم العظيم(1). وبإيقاعة الهزيمة بكاليبان، يعترف بروسبيرو بأن الكاليبان، "هذا الشيء المُظلِم هو مُلكيتي" وبالتالي يُذكّر جُمهوره بأن بشريتنا التي تتكون من وحشٍ وملاك هي إشكالية بالفعل.
في القرن السابع عشر، تم تشكيل ما تبقّى من شؤم لاشعوري عند بروسبيرو كصراع بين عقل وعاطفة الجسد، حيث تمت اعادة صياغة الموضوعات المسيحية-اليهودية الكلاسيكية في بارديم انثروبولوجي جديد. والنتيجة، توحي بصراعات الملائكة والشياطين لتملّك الروح في القرون الوسطى. لكن الصراع يتم الآن داخل الانسان الذي أُعيدت صياغته كميدان صراع، حيث تتصادم العناصر المُتناقضة من أجل الهيمنة. من جهة، هناك "قُوى العقل": التقنين والبُخل، الحصافة، حس المسؤولية وضبط النفس. من ناحيةٍ أُخرى، غرائز الجسد المُنحطة: الخلاعة، الكسل، التبديد المنهجي لطاقات الفرد الحيوية. تندلع المعركة على جبهاتٍ عديدة لأن العقل يجب أن يكون مُتقيظاً ضد هجمات الذات الجسدية، ويضع حداً لـ"حكمة الجسد" (على حد تعبير لوثر) لكي لا تقوم هذه الأخيرة بإفساد قُوى العقل. يُصبح الشخص، في الحالات المُتطرفة، أرضيةً لحرب الكُل ضد الكُل: "فلأكون عدماً ان لم أجد في ذاتي معركة ليبانت(جـ): العاطفة ضد العقل، والعقل ضد الايمان، والايمان ضد الشيطان، وضميري ضدها الجميع"(2).
في سياق هذه العملية، يحدث تغيير في المجال الاستعاري، بقدر ما يستعير استعراض سيكولوجيا الفرد الصور من سياسة الدولة فيما يتعلق بالجسد، تكشف عن مشهد يسكنه "الحُكّام" والرعايا المُتمردين" و"الحشود" و"المُحرضين" و"القادة المُستبدين" وحتى الجلادين (في حالة توماس براون)(3). كما سنرى، لا يُمكن لهذا الصراع بين العقل والجسد، الذي وصفه الفلاسفة بأنه مواجهة بين ما هو "خيّر" وما هو "دنيء" أن يُعزى ببساطة الى الذوق الباروكي الرمزي، والذي تم هجره لاحقاً لصالح لُغة "أكثر ذكورية"(4). ان ظهور المقولات السياسية والسيكولوجية التي تُميّز خطاب القرن السابع عشر عن الانسان له أساس في الواقع الاجتماعي لذلك العصر. ان المعركة التي خِيضَت في المجال المايكروي للفرد هي جانب من جوانب عملية أوسع للاصلاح الاجتماعي، حيث حاولت البرجوازية الصاعدة في "عصر العقل" إعادة تشكيل الطبقات التابعة بما يتوافق مع احتياجات الاقتصاد الرأسمالي الصاعد.
انخرطت البرجوازية في تلك المعركة ضد الجسد الذي أصبح علامتها التاريخية، في مُحاولة لصياغة نمط جديد من الأفراد. وفقاً لما قاله ماكس فيبر، فإن إصلاح الجسد هو جوهر الأخلاق البرجوازية لأن الرأسمالية تجعل "الكسب هو الغاية التي يُحددها الانسان لنفسه، ولم يعد بالنسبة اليه وسيلة اشباع حاجاته المادية"، وبالتالي، فهي تطلب منا "الإحتراس دوماً من الملذات العفوية في الحياة"(5). تُحاول الرأسمالية أيضاً التغلّب على "حالتنا الطبيعية" من خلال كسر حواجز الطبيعة وإطالة يوم العمل الى ما وراء الحدود التي تطلع عليها الشمس والدورات الموسمية والجسد نفسه.
يرى ماركس أيضاً أن الاغتراب عن الجسد هو سمة مُميزة لعلاقة العمل الرأسمالية. تدفع الرأسمالية العُمال، من خلال تحويل العمل الى سلعة، الى اخضاع نشاطهم لنظام خارجي لا سيطرة لهم عليه. وهكذا، تُصبح عملية العمل أرضيةً لاغتراب الذات: "فإن العامل انما يشعر بنفسه خارج العمل، وهو في العمل يشعر بأنه خارج نفسه، انه يشعر أنه في منزله حين لا يعمل، وحين يعمل فانه لا يشعر أنه في منزله"(6). علاوةً على ذلك، يُصبح العامل، مع تطور النظام الرأسمالي، "مالكاً حُراً" لعمله الخاص به (على الرغم من أن هذا شكلي فقط)، والذي يُمكنه، على عكس العبد وضعها تحت تصرف المُشتري لفترةٍ محدودة من الزمن، هذا يعني أنه "ينبغي عليه الاحتفاظ دوماً بعلاقة تجاه قوة عمله بوصفها مُلكاً له، وبالتالي، بوصفها بضاعته الخاصة"(7). يؤدي هذا أيضاً الى الشعور بالانفصال عن الجسد، والذي يُشيّء ويُختزل الى عُنصر جزئي لا يُمكن التعرف على الشخص من خلاله.
ومع ذلك، لا يُمكن تطبيق تفسير ماركس للاغتراب على ما يُسمى بشكلٍ مُلطّف "الانتقال الى الرأسمالية) لأن صورة العامل الذي يعرض عمله للاغتراب بحريّة، أو يعرض جسده كرأسمال لمن يدفع سعراً أعلى، تُشير الى الطبقة العاملة التي تشكلت بالفعل من قِبَل نظام العمل الرأسمالي. فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يُمكننا أن نتحدث عن هذا النوع من العامل- الحصيف والمسؤول والفخور بامتلاك ساعة يد، والذي قد ينظر الى ظروف نمط الانتاج الرأسمالي على أنها "قوانين طبيعية بديهية"-الذي يُجسّد اليوتوبيا الرأسمالية، وهي النقطة المرجعية لماركس".
كان الوضع مُختلفاً اختلافاً جذرياً في فترة التراكم الرأسمالي البدائي عندما اكتشفت البرجوازية الصاعدة أن "تحرير العمل"، أي مُصادرة الأراضي من الفلاحين، لم يكن كافياً لإجبار البروليتاريين المحرومين على قبول العمل المأجور.
على عكس آدم في رواية (الفردوس المفقود) للكاتب الانجليزي جون ميلتون، والذي انطلق بمرح الى آفاق حياةٍ يكرسها من أجل العمل(9)، لم يوافق الفلاحون والحِرَفيون الذين تمت مُصادرة أملاكهم على العمل مُقابل الأجر، أصبحوا، في كثيرٍ من الأحيان، متسولين أو مُشردين أو مجرمين. سوف يكون الأمر بحاجة الى عملية طويلة لإنتاج نظام عمل جديد. كانت الكراهية للعمل المأجور في القرنين السادس عشر والسابع عشر شديدة لدرجة أن العديد من البروليتاريين فضّلوا المُخاطرة بالمشنقة بدلاً من الخضوع لشروط العمل الجديدة(10).
كانت هذه أول أزمة رأسمالية، وهي أزمة أخطر بكثير من جميع الأزمات التجارية التي كانت ستُهدد أُسس النظام الاقتصادي الجديد في المرحلة الأولى من تطوره(11). كما هو معروف، كان جواب البرجوازية هو تأسيس نظام ارهابي حقيقي، تم تطبيقه من خلال تشديد العقوبات-ولا سيما تلك التي تُعاقب على الجرائم ضد المُلكية-واستدخال "قوانين دموية" ضد المشرّدين، بهدف الزام البروليتاريا على العمل، بالضبط كما كان الأقنان مربوطين بالأرض، وتمت مُضاعفة عمليات الإعدام. في انجلترا، تم شنق 72000 شخص في عهد هنري الثامن، واستمرت المجزرة حتى أواخر القرن السادس عشر، عندما كان يُعَلّق على المشنقة من 300-400 "مُشرّد". في ديفون Devon وحدها تم شنق 74 شخصاً عام 1598(12).
لكن عنف الطبقة السائدة لم يقتصر على قمع التجاوزات. لقد كانت تهدُف أيضاً الى تحويل الشخص بشكلٍ جذري، وكانت تميل الى القضاء على أي شكل من أشكال السلوك الذي لا يُساعد على فرض نظام عمل أكثر صرامة عند البروليتاريا.
تتضح أبعاد هذا الهجوم في التشريع الاجتماعي الذي تم طرحه في انجلترا وفرنسا بحلول مُنتصف القرن السادس عشر. تم حظر الألعاب، وخاصةً العاب الحظ، التي، الى جانب كونها عديمة الفائدة، تُقوَض إحساس الفرد بالمسؤولية و"أخلاقيات العمل". تم إغلاق الحانات والحمامات العامة. تمت مُعاقبة التعرّي، وكذلك العديد من أشكال الجنس والنشاط الاجتماعي "غير المُنتجة". كان من غير المسموح الشرب والحلفان والشتم(13). في سياق عملية الهندسة الاجتماعية الواسعة هذه، بدأ يتبلور سياسة تجاه الجسد ومفهوم جديد عنه. ما استجد هو أن الجسد قد تعرّض للهجوم باعتباره مصدر كل الشرور، ومع ذلك تمت دراسته بنفس الشغف الذي دُرِسَت فيه في نفس السنوات الأجسام السماوية.
لماذا كان الجسد مركزياً جداً في سياسات رأس المال؟ يُمكن للمرء أن يُجيب بأن هذا الهَوَس بالجسد يعكس الخوف الذي اشعلته البروليتاريا في الطبقة الحاكمة(14). انه الخوف الذي شعر به البرجوازيين والنبلاء على حدٍ سواء من الحشود الذين كان من المُمكن أن يُحاصروهم أو يتسولون منهم أو يستعدوا لسرقتهم أينما ذهبوا في الشوارع أو في أسفارهم. كان هذا أيضاً الخوف الذي شعر به اولئك الذين ترأسوا ادارة الدولة التي كان رسوخها يتقوّض من خلال تهديدات أعمال الشَغَب والاضطرابات الاجتماعية باستمرار.
ولكن الأمر لم ينتهي. يجب أن لا ننسى، في الواقع، أن البروليتاريا المتسولة والمُشاكسة التي أجبرت الأثرياء على السفر في عربات للهروب من اعتداءاتهم أو يذهبون الى فراشهم بمسدسين تحت وسائدهم، نقول، كانت هذه البروليتاريا نفس الموضوع الاجتماعي الذي ظَهَرَ بشكلٍ مُتزايدٍ كمصدرٍ لكل ثروة. انهم البروليتاريا الذين على الرغم من أن المركنتاليون ، وهم أوائل اقتصاديي الرأسمالية، لم يملّوا من ترداد "أنه "كلما كان ذلك أكثر كلما كان أفضل"-أي شنق البروليتاريين-الا أنهم كانوا يأسفون لأن الكثير من العمال كانوا يُهدَرون على حَبل المشنقة(15).
مرت عقود عديدة قبل أن تدخل قيمة العمل في بانثيون النظرية الاقتصادية. ولكن كان حقيقةً مفهومةً أن هذا العمل ("الصناعة")، بدلاً من الأرض أو أي "ثروة طبيعية"، هو المصدر الأساسي للتراكم، في وقتٍ جَعَلَ فيه المستوى المُنخفض للتطور التكنولوجي البشر أهم مصدر انتاجي. كما يُشير توماس مون Thomas Mun إبن تاجر لندن ونصير الموقع الميركنتالي): "نحن نعلم أن بضائعنا الطبيعية لا تُدر علينا الكثير من الأرباح مثل صناعتنا... لأن الحديد في المناجم ليس له قيمة كبيرة، عند مقارنته بالتوظيف والمزايا التي ينتُج عنها التنقيب عنه ونقله... وصبه على شكل عتاد وبنادق... وشغله كمراسي وبراغي وحِراب ومسامير وما الى ذلك من أجل السُفُن والمنازل والعربات والمحاريث وغيرها من أدوات الزراعة(16).
حتى بروسبيرو يُشدد على هذه الحقيقة الاقتصادية الحاسمة في خطاب قصير حول قيمة العمل، والذي قاله لميراندا بعد أن أبدت اشمئزازها من كاليبان: "لكننا بحاجةٍ اليه، فهو يُضرم النار في موقدنا ويحتطب لنا ويخدمنا بقَدر المُستطاع"(17).
اذاً، جاء الجسد الى واجهة السياسات الاجتماعية لأنه ظهر ليس فقط كوحش خامل بالنسبة لمُحفزات العمل، ولكن أيضاً كمخزن لقوة العمل ووسيلة للانتاج وآلة عمل أساسية. هذا هو السبب في أننا نجد في الاستراتيجيات المُعتمدة تجاهه الكثير من العُنف ولكن أيضاً الكثير من الاهتمام لدرجة أن دراسة حركاته وخصائصه أصبحت نُقطة الانطلاق لمُعظم التأملات النظرية في ذلك الوقت، سواءاً كانت تهدف عند ديكارت خلود الروح، أو عند هوبز دراسة مُقدمات الحُكم الاجتماعي.
في الواقع، كان أحد الاهتمامات المركزية للفلسفة الميكانيكية هو ميكانيكيا الجسد، حيث تم تفكيك عناصره المُكونة من دوران الدم الى ديناميات الكلام ومن تأثيرات الأحاسيس الى الحركات الارادية واللاارادية وتصنيفها من حيث مكوناتها وامكانياتها. ان كتاب ديكارت "رسالة عن الانسان" Treatise of Man (17) والذي نُشِرَ عام 1664 هو كتاب تشريحي بامتياز، على الرغم من أن التشريح الذي يؤديه سيكولوجي أكثر منه فيسيولوجي، ومهمته هو اقامة فجوة انطولوجية بين الذهني الصرف والجسدي الصرف. وهكذا، يتم رسم حدود كل طريقة وموقف واحساس وتعيين امكانياتها بحيث يتملك المرء انطباعاً بأن "كتاب الطبيعة البشرية" قد فُتِحَ أمامه لأول مرة، أو أنه تم اكتشاف أرض جديدة وعلى الغزاة أن ينطلقوا لرسم حدودها وتجميع قائمة مواردها الطبيعية وتقييم مزاياها وعيوبها.
كان هوبز وديكارت، في هذا، مُمثلين لعصرهم. سيظهر الاهتمام الذي يُبدونه في استكشاف تفاصيل الواقع الجسدي والنفسي لاحقاً في التحليل البيوريتاني للميول والمواهب الفردية(19) والذي كان بداية علم النفس البرجوازي، حيث يدرس بشكلٍ واضح، في هذه الحالة، جميع المَلَكات الانسانية من وجهة نظر امكاناتها بالنسبة الى العمل والمساهمة في الانضباط. علامة أُخرى حول اهتمام جديد بصدد الجسد "وتغيّر العادات والتقاليد من الأزمنة السابقة حيث يُمكن استكشاف الجسد" (على حد تعبير طبيب القرن السابع عشر) كان التطور المُعاصر لعلم التشريح كتخصص علمي بعد نفيها طويلاً في قبو العصور الوسطى الفكري. لكن في حين ظهر الجسد باعتباره بطل الرواية الرئيسي في المسرح الفلسفي والطبي، فإن السمة اللافتة للنظر لهذه الأبحاث هي التصور المُنحط الذي شكلوه عنه. يكشف مسرح التشريح(20) للجمهور عن جسد دنس يُمكن اعتباره من حيث المبدأ فقط مكاناً للروح، ولكنه في الواقع يُعامَل على أنه واقع مُنفصل(21). الجسد، بالنسبة الى مُشرّح هو مصنع، كما يتضح من العنوان الذي أطلقه أندرياس فيزاليوس Andreas Vesalius على عمله العصري (صناعة التشريح) De humani corporis fabrica 1543. في الفلسفة الميكانيكية لا يوضع الجسد بالقياس مع الآلة وحسب، مع التركيز على خموله غالباً، بل يُنظر اليه على أنه مادة جامدة مفصول تماماً عن أي ميزات عقلانية. انه شيء لا يعرف ولا يُريد ولا يشعر. الجسد عبارة عن "مجموعة من الأعضاء" كما يزعُم نيكولاس ماليبرانش Nicholas Malebranche مُتبعاً في ذلك ديكارت والذي أثار سؤال "هل يستطيع الجسد أن يُفكر؟" في كتاب (حوار حول الميتافيزيقيا والدين) 1688، ويُجيب على الفور: "لا، بدون أي شك لأن جميع التعديلات على هذا الامتداد (الجسد) تتكون فقط من علاقات المسافة، ومن الواضح تماماً ان هذه العلاقات ليست تصوراتٍ أو تعقلاتٍ أو ملذات أو رغبات أو مشاعر، أي بكلمة أُخرى، أفكار". بالنسبة لهوبز، فإن الجسد أيضاً عبارة عن مجموعة من الحركات الميكانيكية التي تفتقر الى القوة المُستقلة، وتعمل على أساس مُسبب خارجي، في حركةٍ من الجذب والطرد حيث يتنظم كل شيء بوصفه الإنسان الآلة(22).
ومع ذلك، فإن ما يُشير اليه فوكو فيما يتعلق بالتخصصات الاجتماعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر يُعتَبَر صحيحاً فيما يتعلق بالفلسفة الميكانيكية. هنا أيضاً نجد منظوراً مُختلفاً عن منظور الزُهد في العصور الوسطى، حيث كان لانحلال الجسد وظيفة سلبية بحتة تهدف الى القول بالطبيعة المؤقتة والواهمة للملذات الأرضية وبالتالي ضرورة التخلي عن الجسد. نحن نرى، في الفلسفة الميكانيكية، روحاً برجوازية تحسب وتُصنّف وتُقارن وتُهين الجسد فقط من أجل عقلنة قُدراته، لا تهدف فقط الى تكثيف خضوعه ولكن الى تعظيم منفعته الاجتماعية أيضاً(23). يسعى المنظرون، ليس الى التخلي عن الجسد، بل الى تصوره بطريقة تجعل من عملياته معقولة ويُمكن التحكم فيها. وهكذا، فان الشعور بالفخر (وليس بالرثاء) الذي يُصر به ديكارت على أن هذه الآلة (كما يُسمى ذلك الجسد في رسالته حول الانسان) هي مجرّد انسان آلي، وموتها لا يدعو الى الحُزن عليها كما يحدث عند تعطّل أي آلة(24).
بالتأكيد لم يكتب هوبز ولا ديكارت الكثير حول المسائل الاقتصادية، وسيكون من العبث البحث عن المصالح اليومية للتجار الانجليز والهولنديين في فلسفاتهم. ولكن، لا يُمكننا الا أن نرى المساهمة المُهمة التي قدمتها تأملاتهم حول الطبيعة الانسانية للعلم الرأسمالي حول العمل. ان تقديم الجسد على أنه مادة ميكانيكية، خالية من أي غائية-"الفضائل الخفية" التي نسبها اليه السحر الطبيعي والخرافات الشعبية لذلك العصر- يعني جعله من المُمكن أن يخضع لعملية العمل التي تعتمد بشكلٍ متزايد على أشكال سلوك متوقعة وموحّدة.
بمجرد تفكيك أعضائه واختزاله الى جهاز، يُمكن فتح الجسد لتطويع غير محدود لقدراته وامكانياته. يُمكن للمرء أن يبحث عن رذائل وحدود الخيال وفضائل العادة واستخدامات المخاوف وكيف يُمكن تجنّب أو تحييد بعض العواطف وكيف يُمكن استخدامها بشكلٍ أكثر عقلانية. بهذا المعنى، ساهمت الفلسفة الميكانيكية في زيادة سيطرة الطبقة الحاكمة على العالم الطبيعي والسيطرة على الطبيعة الانسانية هي الخطوة الأولى التي لا غِنىً عنها. تماماً مثلما يُمكن اختزال الطبيعة الى "آلة عظيمة"، وحسب بيكون احتلالها و"التغلغل الى كل أسرارها، يُمكن للجسد كذلك، بعد أن يتم افراغه من كل القوى الغامضة، أن "يوضع في نظامٍ من الاخضاع"، حيث يُمكن قياس وتنظيم سلوكه واستغلاله في علاقات السُلطة"(25).
الجسد والطبيعة، عند ديكارت، مُحددان، لأن كلاهما مصنوعٌ من نفس الجسيمات ويعملان وفقاً لقوانين فيزيائية موحدة تتحرك بإرادة الرب. وهكذا، فالجسد الديكارتي ليس فقط مُجرداً من أي فضيلة سحرية. في الفجوة الانطولوجية الكبيرة التي أسسها ديكارت بين جوهر الانسانية وحالاتها العَرَضية، ينفصل الجسد عن الشخص، وهو منزوع مما هو انساني حرفياً. ويُصرّ ديكارت في جميع تأملاته على الفكرة القائلة بأنه "أنا لا أتحدد بهذا الجسد". وبالفعل، ينضم الجسد في فلسفته الى سلسلة مُتصلة من المادة الشبيهة بالساعة لأن الجسد شبيه بالكائنات الطبيعية القاصرة والعاطلة عن التفكير والاختيار، فهي مفعول بها على الدوام.
كما سنرى، يُعبّر ديكارت وهوبز عن مشروعين مُختلفين يتعلقان بالجسد. عند ديكارت، يسمح اختزال الجسد الى مادة ميكانيكية بتطوير آليات ادارة الذات التي تجعل الجسد خاضعاً للارادة. في المُقابل، تكون ميكنة الجسد تبريراً لخضوع الفرد الكامل لسُلطة الدولة. ومع ذلك، فإن النتيجة عند كليهما هي اعادة تعريف السمات الجسدية التي تجعل الجسد، من الناحية النمطية ideally على الأقل، مُناسباً للنظمنة والأتمتة التي يتطلبها نظام العمل الرأسمالي(26).
من الصعب في الواقع التمييز التوفيق بين الأجساد المُتمردة التي طاردت الأدب الاجتماعي لـ"القرن الحديدي"-أي القرن العاشر، مع تصوّر الجسد كأنه ساعة الذي تمثّل في أعمال هوبز وديكارت. ومع ذلك، في تأملات الفلاسفة التي تبدو أنها بعيد عن شؤون الصراع الطبقي اليومية، نجد أول مفهمة لتطور الجسد الى آلة عمل، وهي إحدى المهام الرئيسية للتراكم البدائي.
عندما يُعلن هوبز، على سبيل المثال، أن "القلب ليس الا نابضاً... والمفاصل هي عجلات كثيرة" نحن نُدرك في كلماته روحاً برجوازية، حيث العمل ليس فقط شرط ودافع لوجود الجسد وحسب، بل هو حاجة الى تحويل كل القُوى الجسدية الى قُوى عمل.
هذا مُفتاح لحل لغز فهم لماذا يوجد في التأملات الفلسفية والدينية للقرنين السادس عشر والسابع عشر الكثير من التشريح الحقيقي لجسم الانسان ويتم التقرير أي من خصائصه يجب أن تبقى وأيها يجب أن تختفي. لقد كانت كيمياء اجتماعية، والتي لم تُحوّل المعادن الى ذهب، بل القُوى الجسدية الى قوى عمل لأن العلاقة نفسها التي أدخلتها الرأسمالية بين الأرض والعمل بدأت أيضاً في التحكم بالعلاقة بين الجسد والعمل. في حين كان يُنظَر الى العمل على أنه قوة ديناميكية قادرة على التطور الى ما لا نهاية، كان الجسد الخامل والعقيم لا يتحرك الا تبعاً للارادة مُشابهة للحالة التي أنشأتها فيزياء نيوتن بين الكُتلة والحركة، حيث تميل الكُتلة الى القصور الذاتي ما لم يتم تطبيق قوة تُحركها. مثل الأرض، كان لا بد من حراثة الجسد وتفتيته قبل كل شيء، حتى يُمكن الكشف عن كل كنوزه المخفية. الجسد هو شرط وجود العمل، وهو أيضاً حدوده، كعُنصر (أي الجسد) أساسي في مُقاومة استفاذ قوته (قوة العمل). اذاً، لم يكن من الكافي تقرير أن الجسد بحد ذاته ليس له قيمة. كان على الجسد أن يموت حتى تحيا قوة العمل.
ما الذي مات بالضبط؟ ان ما مات هو مفهوم الجسد كوعاء للقوى السحرية الذي ساد في القرون الوسطى. لقد تم تدميره في الواقع. يُمكننا أن نرى، في خلفية الفلسفة الجديدة مُبادرة واسعة من الدولة، والتي وصفت ما صنفه الفلاسفة على أنه "لاعقلاني" بأنه شكل حقيقي من أشكال الجريمة. كان تدخّل الدولة هذا هو نص الفلسفة الميكانيكي المخفي. "المعرفة" يُمكنها أن تصير "سُلطةً" ان استطاعت أن تفرض وصفاتها. هذا يعني، أن الجسد الميكانيكي، الجسد الآلة، لا يُمكنه أن يُصبح نموذجاً للسلوك الاجتماعي دون تدخّل الدولة، التي سحقت مجموعةً واسعةً من المعتقدات والممارسات والموضوعات الاجتماعية التي كان وجودها يتعارض مع تنظيم السلوك الجسدي الذي طرحته الفلسفة الميكانيكية. لهذا السبب، لدينا أكبر هجومٍ على السحر والساحرات تم تسجيله في التاريخ، في عصر العقل والشك المنهجي، وهو هجوم كان مدعوماً جيداً من قِبَل الذين انخرطوا في المذهب الجديد(يتبع...).

* سيلفيا فيديريتشي 1967-... باحثة ومُعلمة وناشطة ايطالية-أمريكية تنتسب الى التراث الماركسي النسوي الراديكالي. استاذة فخرية في جامعة هوفسترا في نيويورك وأستاذة في العلوم الاجتماعية.
حصلت على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة بوفالو، وعملت استاذاً مُشاركاً للفسلفة السياسية والدراسات الدولية في كُلية جامعة هوفسترا الجديدة. شاركت في تأسيس التجمع النسوي الدولي، ومنظمة لحملة فرض الأجور على الأعمال المنزلية في الولايات المتحدة عام 1973. ولها مؤلفات نسوية راديكالية عديدة.

أ- الكاليبان هو عبد مسخ وشرس، في مسرحية شكسبير (العاصفة) التي كُتِبَت في الأعوام 1610-1611.
ان هذا الكتاب الصادر عام 2004 -والذي سنُترجم، بالإضافة الى هذه المقال من جزأين، مُقتطفاتٍ أُخرى منه في وقتٍ لاحق-هو عمل فيديريتشي الأكثر شُهرةً، وهو يُعالج أسباب صيد الساحرات في الفترة الحديثة المُبكرة من الرأسمالية. تُجادل فيديريتشي بأن التراكم الرأسمالي البدائي كان مُقدمةً ضروريةً للرأسمالية نفسها، وأن الرأسمالية تتطلب ضخاً مُستمراً لرأس المال المُصادَر. تربط فيديريتشي هذه المُصادرة بعمل المرأة غير المأجور، سواءاً المُرتبط بإعادة الانتاج أو غير ذلك، والذي تؤطره كشرط تاريخي مُسبق لصعود الاقتصاد الرأسمالي القائم على العمل المأجور. فيما يتعلق بهذا، تُحدد سَير عملية النضال التاريخي من أجل المشاعات والشيوعية البدائية. وهي تُفسّر صعود الرأسمالية على أنه تحرّك رجعي لتخريب مد الكوميونات الصاعد، بدلاً من كونه هزيمة تحررية للاقطاع. وتوضع فيديريتشي كيف صار الاغتصاب والدعارة ذات طابع مؤسسي، فضلاً عن مُحاكمة الهراطقة والسحرة والحرق والتعذيب والاستيلاء على عمل النساء.
ب- ريتشارد توبين، حُكِمَ عليه بالاعدام في مُحاكمة مَلَكية لأنه سَرَق قُبعة وباروكة وبعض المال من مايكل كوسبي Michael Crosby وهو أحد أثرياء لندن.
1- بروسبيرو هو "انسان جديد". ينسب شكسبير تعاسته الى اهتمامه المُفرط بكُتُب السحر، والتي يتخلّى عنها في النهاية من أجل حياةٍ أكثر فاعليةً في مملكته، هُناك حيث سيستمد سُلطته ليس من السحر، بل من حُكُم رعاياه. ولكن في جزيرة منفاه، تعكس نشاطاته نظاماً عالمياً جديداً، حيث لا يتم اكتساب السُلطة من خلال عصاً سحرية، ولكن من خلال استعباد الكاليبانيين في مُستعمراتٍ بعيدة. ترسم ادارة بروسبيرو الاستغلالية لكاليبان صورةً لدور أسياد المزارع المُستقبليين، والذين لن يدّخروا أي جهد في تعذيب واجبار رعاياهم على العمل.
جـ- معركة ليبانت، هي معركة بين العُصبة الكاثوليكية المُقدّسة والدولة العثمانية في البحر الأيوني، انتهت بهزيمة العثمانيين.
2- Thomas Browne, Religio Medici (London: J. M. Dent & Sons, 1928), p. 76
3- Ibid, P. 72
يكتب باسكال أيضاً في كتابه (خواطر): "الانسان حربٌ باطنةٌ بين عقله وعواطفه. لو لم يكن له الا العقل بدون أهواء... لو لم يكن له الا الأهواء بدون عقل... ولكن بما أن له هذا وتلك فلا يستطيع أن يبقى بدون حرب أو أن يُصالح جهة ما لم يُحارب الجهة الأُخرى. وهكذا فهو أبداً مُنقسمٌ ومُناقضٌ لذاته".
خواطر، بليز باسكال، ترجمة ادوارد البُستناني، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 1972، ص131
On the Passions/Reason conflict, and the “correspondences” between the human “microcosm” and the “body politic” in Elizabethan literature see E.M.W. Tillyard, The Elizabethan World Picture (New York: Vintage Books, 1961), pp. 75–79, 94–99
4- كان اصلاح اللغة، وهو موضوع رئيسي في فلسفة القرنين السادس عشر والسابع عشر من بيكون الى لوك، مصدر قلق كبير لجوزيف غلانفيل Joseph Glanvil، الذي دعا في كتابه (الغرور العقائدي) Vanity of Dogmatizing، بعد اعلان تمسكه بالنظرة الديكارتية الى العالم، دعا، الى لغة مُناسبة لوصف الكيانات الواضحة والمُتميزة.
Joseph Glanvill, The Vanity of Dogmatizing (Introduction by Stephen Medcalf) (Hove, Sussex: Harvester Press, 1970), pp. Xxvi–xxx.
كما يُلخص ميدكالف ذلك في مُقدمته، فإن اللغة المُناسبة لوصف مثل هذا العالم سوف تحمل أوجه تشابه واسعة مع الرياضيات، وستحمل كلمات ذات عمومية ووضوح كبير، وستطرح صورةً للكون وفق بُنيته المنطقية، وسوف تُميّز بشكلٍ صارم بين العقل والمادة، وبين الذات والموضوع و"ستتجنب المجازات كطريقة للوصف وتحصيل المعرفة، لأن المجاز يعتمد على افتراض أن الكون لا يتكون من كيانات مُتمايزة تماماً وبالتالي لا يُمكن وصفها بالكامل في مُصطلحات ايجابية مُميزة...".
Ibid., pp. Xxx
5- الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ماكس فيبر، ترجمة محمد علي مقلّد، مركز الإنماء القومي لبنان، ص29
6- مخطوطات كارل ماركس، ترجمة محمد مُستجير مُصطفى، دار الثقافة الجديدة، ص71
7- رأس المال، المُجلّد الأول، ماركس، دار التقدم 1985، ص243
8- Edward P. Thompson, The Making of the English Working Class (New York: Pantheon, 1964) Marx, ibid., p. 809.
9- في كتاب جون ميلتون كان رد آدم على مخاوف حوّى حول الخروج من الجنة المُباركة: ""وبالعمل أكسب خُبزي، فما الضرر؟ ان الكسل أسوأ، وعملي سوف يُعينني".
الفردوس المفقود، جون ميلتون، ترجمة حنّا عبود، الهيئة العامة السورية للكتاب 2011، ص659
10- يُشير كريستوفر هيل Christopher الى أنه قد يكون العمل المأجور قد ظَهَرَ كحُريّة مُنتزعة حتى القرن الخامس عشر، لأن الناس كانوا لا يزال لديهم امكانية تشكيل الكوميونات ولديهم أرض خاصة بهم، وبالتالي لم يكونوا مُعتمدين على الأجر حصرياً. ولكن بحلول القرن السادس عشر، تمت مُصادرة مُمتلكات اولئك الذين يعملون مُقابل أجر ولم يكن لديهم أي بديل. علاوةً على ذلك/ ادعّى أرباب العمل أن الأُجور مُجرّد أمر تكميلي فقط، وبالتالي ظلت عند أدنى مُستوىً مُمكن. وهكذا، كان العمل مُقابل أجر يعني الانحدار الى أدنى درجات السلّم الاجتماعي، وناضل الناس بشدة من أجل تجنب هذا.
Christopher Hill, “Pottage for Freeborn Englishmen: Attitudes to Wage Labor,” in Christopher Hill, Change and Continuity in Seventeenth Century England [Cambridge: Harvard University Press, 1975], pp. 219–239
ولكن في القرن السابع عشر، كان العمل المأجور لا يزال يُعتَبَر شكلاً من أشكال العبودية، وكان هذا واضحاً للغاية لدرجة أن المساواتيين استبعدوا العمال المأجورين من الحقوق الدستورية لأنهم لم يعتبروهم بشراً أحرار.
C. B. Macpherson, The Political Theory of Possessive Individualism: Hobbes to Locke (Oxford: Oxford University Press, 1962
11- في عام 1622عندما طَلَبَ جيمس الأول James I من توماس مون Thomas Mun (اقتصادي انجليزي مركنتيلي مُحافظ) البحث في أسباب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، خَلُصَ في تقريره الى أنه يجب أن نضع لائمة مشاكل الأُمة على كسل العمال الانجليز. وأشار على وجه الخصوص الى "بليّة العزف بالمزمار وشرب الخمر والفَجَع... وتضييع وقتنا في الخمول والمسرّات"، وهو، في نظره، ما وضع انجلترا في وضعٍ غير مواتٍ في منافستها التجارية مع هولندا الصناعية.
See Hill, op. Cit., p. 125
12- W.G. Hoskins, The Age of Plunder: The England of Henry the VIII, 1500–1547 (London: Longman, 1976), p. 9
13- Lawrence Wright, Clean and Decent (New York: Viking Press, 1960), pp. 80–83 Jos Von Ussel, La Repressione Sessuale (translated from the German) (Milano: Bompiani, 1971), pp. 25–92
14- يُمكن قياس الخوف من "الطبقات الدُنيا" ("المُنحطين"، الجماعات الحقيرة" بلغة ذلك الوقت) المُتغلغل في الطبقة السائدة، من خلال هذه الحكاية التي تم سردها في مجلة (انجلترا الاجتماعية المُصوّرة) Social England Illustrated. تقدّم فرانسيس هيتشكوك في كُتيّب بعنوان "هدية انجلترا في عيد رأس السنة" باقتراح لتجنيد فقراء البلاد في البحرية مُجادلاً أن "النوع الأفقر من الناس... ميّالين لمُناصرة أي تمرّد أو الانضمام الى أياً كانت لديه الجُرأة لغزو هذه الجزيرة النبيلة... ثم انهم يوجهون الجنود أو رجال الحرب ضد ثروة الأثرياء. لأنهم يستطيعوا أن يُشيروا باصبعهم "ها هو ذا"، "انها هُناك"، "انه يمتلكها"، وهكذا يستشهد العديد من الأثرياء بسبب ثرواتهم عن طريق الاجرام... ".
Social England Illustrated: A Collection of xviith Century Tracts (Westminster: Archibald Constable and Co, 1903
ومع ذلك، تم رفض اقتراح هيتشكوك لأنه إن تم تجنيد فقراء انجلترا في البحرية فسيسرقون السفُن أو سيصيروا قراصنة.
Pp. 85–88
15- يكتب هيكتشر Eli. F. Heckscher أن " السير ويليام بيتي William Petty في أهم أعماله النظرية (اطروحات حول الضرائب والمساهمات) 1662، اقترح استبدال العمل الاجباري بجميع العقوبات مما سيزيد العمل والثروة العامة. لقد تسائل لما لا نُعاقب اللصوص العوزين بالعبودية بدلاً من الموت؟ وباعتبارهم عبيداً قد يُجبَرون على بذل نفس القدر من العمل وبأُجرة رخيصة وبالتالي سنحصل على عمل رجلين بدل رجلٍ واحد.
Eli Heckscher, Mercantilism,Vol. 2 (2nd edition) (New York: The Macmillan Company, 1962), p. 297.
في فرنسا، أوصى كولبير أيضاً محكمة العدل على إدانة أكبر عدد من الخاضعين للمُحاكمة وتحويلهم الى السُفن من أجل "الحفاظ على السلك الضروري للدولة".
IBID. Pp. 298–299
16- L.D. Abbott. Masterworks of Economics (New York: Doubleday, 1946), p. 2
17- العاصفة، وليم شكسبير، تعريب أ. ر. مشاطي، دار نظير عبّود، ص24
18- يستفتح هذا الكتاب والذي سُنشَر بعد 12 سنة من موته "فتره النضج" لديه. يُحاول ديكارت هُنا، بتطبيقه فيزياء غاليليو على البحث في سمات الأجسام، تفسير جميع الوظائف الفسيولوجية كمادة في حركة. كَتَبَ في نهاية رسالته: "أنا أدعوك لتُفكّر... أن جميع الوظائف التي نسبتها الى هذه الآلة... تنبع بشكلٍ طبيعي... من دواخل الأعضاء-ليس أكثر ولا أقل من حركة لساعةى أو أي آلة، من ترتيب وزناتها ومُسنناتها".
Rene Descartes, Treatise of Man (Translated and commented by Thomas Steele Hall) (Cambridge: Harvard University Press, 1972), p. 113
19- لقد كانت قاعدة بيوريتانية (طَهَرانية) أن الله قد مَنَحَ "الانسان" نِعَمً خاصة تُناسبه لدعوةٍ مُعينة، من هنا تأتي الحاجة الى التدقيق الذاتي من أجل تلبية الدعوة التي صُممنا لأجلها.
Edmund Morgan, The Puritan Family (New York: Harper and Row, 1966), pp. 72–73 Weber, op. Cit., pp. 47ff
20- كان أحد الابتكارات الرئيسية التي أدخلتها دراسة التشريح في أوروبا القرن السادس عشر، كما أوضحت جيوفانا فيراري Giovanna Ferrari هو "مسرح التشريح"، وفيه يتم تنظيم التشريح كحدث عام يخضع لتعليمات تنظيمية مثل تلك التي تحكم العروض المسرحية. "تطورت دروس التشريح العامة في كُلٍ من ايطاليا والخارج الى أحداث طُقسية تُقام في أماكن مُخصصة لها. يتضح تشابهها مع العروض المسرحية على الفور اذا لو لاحظ المرء بعض ميزاتها: تقسيم الدروس الى مراحل مُختلفة... تنظيم التذاكر المدفوعة وأداء الموسيقى للترفيه عن الجمهور، وقواعد تنظيم سلوك الحاضرين والاهتمام والتقييم الذي يلقاه "العرض". حتى أن هيكشر يُجادل في أن العديد من تقنيات المسرح العامة قد تم تصميمها انطلاقاً من دروس التشريح العامة.
Giovanna Ferrari, “Public Anatomy Lessons and the Carnival: The Anatomy Theatre of Bologna,” Past and Present, 117, November, 1987, pp. 82–83
21- تبعاً لماريو جالزينا في La Fabbrica del Corpo.” Aut-Aut (Milano), No. I67–168, September– December, 1978 ان الثورة الابستمولوجية التي قام بها علم التشريح في القرن السادس عشر هي مهد الباراديم الميكانيكي. ان المجال التشريحي هو الذي يكسر الرابطة بين العالم الصغير Microcosm والعالم الكبير Macrocosm ويُظهر الجسد كواقع مُنفصل وكمكان للانتاج على السواء، أي كـ"مصنع" على حد تعبير فيزاليوس.
See also W.P. Wightman, Science and Renaissance Society (London: Hutchinson University Library, 1972), pp. 90–92
22- Rene Descartes Philosophical Works. Vol.1 (translated by E.S. Haldane and G.R.T. Ross (Cambridge: Cambridge University Press, 1973), p. 152 Nicolas Malebranche, “Dialogues on Metaphysics and Religion,” in Richard Popkin, The Philosophy of the 16th and 17th Centuries (New York: The Free Press, 1966), p. 280) Thomas Hobbes, Leviathan Part I, Chapter VI (New York: World Publishing Company, 1963)
23- المُراقبة والمُعاقبة-ولادة السجن، ميشيل فوكو، ترجمة علي مقلد، مركز الانماء القومي 1990، ص158-159
24- أيضاً في عواطف الروح (المقالة السادسة)-وهي مراسلات بينه وبين الأميرة إليزابيث بوهيميا- يُقلل ديكارت من "الفرق الموجود بين الجسد الحي والجسد الميّت... قد نقول بأن جسد الانسان الحي يختلف عن جسد الانسان الميت تماماً كما الساعة (الآلة التي تتحرك بنفسها) عندما يتم التخلص منها وتحتوي في حد ذاتها على المبدأ المادي لحركتها".
25- المراقبة والمُعاقبة-ولادة السجن، ميشيل فوكو، ترجمة علي مقلد، مركز الانماء القومي 1990، ص64
26- كان الهجوم على الخيال ذو أهمية خاصة في هذا السياق، والذي كان يُعتَبَر في القرنين السادس عشر والسابع عشر قوةً يُمكن للساحر من خلالها التأثير على العالم المُحيط و"إحداث" الصحة والمرض".
Brian Easlea, witch-hunting, Magic and the New Philosophy. An Introduction to the Debates of the Scientific Revolution (Brighton, Sussex: The Harvester Press, 1980), pp. 94ff.
خصص هوبز فصلاً كاملاً من كتاب (اللفياثان) لإثبات أن الخيال ليس سوى "تدهور للحس" لا يختلف عن الذاكرة، ولكنه يَضعفُ تدريجياً فقط من خلال أزالة الأشياء من ادراكنا.
اللفياثان-الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، توماس هوبز، ترجمة ديانا حرب وبُشرى صعب، دار الفارابي 2011، ص27.

ترجمة لمقالة:
Silvia Federici (2004) The Great Caliban: The struggle against the rebel body, Capitalism Nature Socialism