ما بعد الحداثة (خريطة مبسطة )3-3


محمد دوير
2022 / 4 / 28 - 16:55     

تحدثنا في المقالتين السابقتين عن مقدمات ما بعد الحداثة، والمناخ العام الذي هيأ المسرح الدولي لتلك الرؤية العامة ..
والأن نختتم حديثنا عن ما بعد الحداثة، وسنناقش عدة نقاط نستطيع بموجبها الإحاطة بالتصورات الكلية لها، دون الدخول في تفصيلات دقيقة..

السؤال الأول: متي ظهر مصطلح ما بعد الحداثة؟؟

اختلفت الدراسات حول زمانية ظهور المصطلح..
1- أشار مايكل كولر Koehler في مقاله له بعنوان "ما بعد الحداثة" عام 1976 إلى أن كثيرا من المؤرخين والمفكرين استخدموا المصطلح في أكثر من مناسبة ... منهم على سبيل المثال فيديريكو دي أونيس عام 1934 ودادلي فيتيس عام 1942 وأرنولد توينبي عام 1947، وأولون وإيرفنج هاو في ستينيات القرن الماضي وإيهاب حسن في 1971 ورالف كوهين في نفس العام، مما يعني أن استخدام المصطلح في النصف الأول من القرن العشرين كان دارجا بما يوحي بإرهاصات ما تنحو باتجاه أن ثمة روحا جديدة تدب في جسد الفكر المعاصر.
2- المؤرخ أرنولد توينبي يشير إلى أن ما بعد الحداثة ظهرت في سبعينيات القرن التاسع عشر، أي مع داروين وماركس تقريبا، وهي ملاحظة مهمة للغاية. ولكن فرجينيا وولف لا تتفق مع توينبي، حيث تؤرخ لها اعتبارا من العام "1910"، وقتما أقيم أول معرض لما بعد الانطباعية.
3- تشارلز أولسن يقول أنه يمكن التأريخ لها اعتبارا من خمسينيات القرن العشرين، ويتفق معه الناقد الماركسي فردريك جيمسون، ففي كتابه التحول الثقافي The Cultural Turn نجده يصف النصف الأول من القرن العشرين بمرحلة الحداثة العليا فيما يصادق على أن ما بعد الحداثة ظهرت بعد ذلك، أي أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فيقول: الأرجح أن ظهور ما بعد الحداثة مرتبط ارتباطا وثيقا بظهور تلك اللحظة الجديدة من الرأسمالية المتأخرة للمستهلك أو متعددة الجنسيات، كما أن ملامحها تعبر عن المنطق العميق لهذا النظام الاجتماعي.
4- يقول تشارلز جينك إن ما بعد الحداثة يؤرخ لها اعتبارا من 1972، وهو التاريخ الذي حدده المهندس المعماري تشالز جنكس في الحديث عن ما بعد الحداثة في كتابه "لغة الهندسة المعمارية ما بعد الحديثة The Languageof Post_modern Architecture" في عام 1990، وفيه قدم تاريخا ووقتا معينا لبداية هذه الفترة الجديدة. وبالتالي فهناك من يري انها ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين في فن العمارة، ضد الأبنية الفخمة والعتيقة المستلهمة من عصر النهضة.. فالمواطن الأوربي والامريكي لم يعد بحاجة لهذا لهذا الفضاء المكاني بقدر ما هو في حاجة الي فضاء من نوع اخر، هو فضاء التحرر من القيود وطرق التفكير القديمة وتعاليم النظم الاجتماعية .. ثم انتقلت الي نظريات الادب والنقد الادبي والفكر
5- أما مصطلح ما بعد الحداثة كتصور فلسفي ورؤية شاملة، فقد عبر عنها فرانسوا ليوتار في عام 1979 في كتابه الوضع ما بعد الحداثي..
وهناك نوع أخر من التقدير الزمني لمصطلح ما بعد الحداثة...
6- يري فريق من الباحثين أن ما بعد الحداثة هي تعبير مرحلة ثالثة من مراحل تطور المشروع الثقافي الرأسمالي ( علي اعتبار المرحلة الاولي هي عصر النهضة / المرحلة المركنتلية – والثانية هي عصر التنوير/ مرحلة الصناعة- والثالثة هي عصر الحداثة المتأخرة أو الحداثة السائلة كما يصفها زيجمونت باومان/ مرحلة ما بعد الصناعة ) حيث تحولت مقولات الفكر والثقافة مع كل تحول تم داخل النسق الاقتصادي/ الاجتماعي الغربي.
7- فيما تناول ن. رزبرج ما بعد الحداثة بصورة مختلفة، فلم ينشغل كثيرا بالتحديد الزمني، بل جاءت رؤيته فنية أكثر من كونها زمنية، إذ يقول: تظهر لنا ما بعد الحداثة في مناطق زمنية متتابعة، أولها: تتضمن مرحلة بدء أولى تتسم بأحاسيس الفزع والتشاؤم تتلوها أو تصاحبها مرحلة من الإبداع التهكمي. وثانيتها: تتضمن مرحلة من التجريب الجوهري أو الجذري الواسع، وثالثتها: مرحلة من الفزع والسوداوية، أو تصاحبها ثقة تنبؤية في حالات الإبداع التأليفي الجديدة.

السؤال الثاني: ما هي تعريف ما بعد الحداثة، أي ماذا نعني بها ؟؟؟

التعريفات الداعمة:
1- نفي التعريف: يقول إيهاب حسن لا يوجد تعريف لما بعد الحداثة، لأنه لا يجب أن يوجد تعريفات.. ليه ؟؟.. لأن التعريف إرث حداثي.. ويرجع للفلسفة اليونانية وخاصة عند ارسطو.. فالتعريفات معاني مقابلة لمعاني موجودة لدينا، ونظرا لتعدد المعاني بصورة مهولة.. فالتعريفات الحاسمة غير ورادة.. ذلك لأن التعريف المحدد الدائم يوحي بالثبات، وبالتالي بالجمود، ونحن يجب ان ندعم فكرة السيولة المعرفة لأن العالم سائل بصورة هائلة..( وردا علي سؤال أن التطور الرأسمالي المعاصر لا يعني ما بعد حداثة .. يجيب أنه التمييز بينما بعد الحداثة وما بعد التحديث.. فما بعد التحديث يشترط تطورا صناعيا.. ولكن ما بعد الحداثة لا يشترط انقلابا ايديولوجيا على الصعيد نفي الرأسمالية)..
2- تعريف سلبي: ليوتار في تعريفه لما بعد الحداثة يشير إلى أنها التشكك إزاء الميتا-حكايات.. وتعريف سلبي آخر يقول بأن التفكيك هو الذي لا يؤمن بالأفكار الشمولية المانعة لأي خروج عما قررته، وعندما تضطرب التعريفات يقول بارت انهم مازالوا في مرحلة نحت طريق جديد في المعرفة، ومن الطبيعي ان تتعرض بعض مفاهيمهم البديلة لبعض الغموض.أو أن تأتي ذات سمة سلبية.
3- جان بودريار يراها دورة.. لا نهاية لها، وعلامات.. سقط منها أي معني، عالم.. لا توجد فيه غير المحاكاة ولا شيء غير المحاكاة.
4- رأيي الشخصي التعريف النهائي: أنها اتجاه ضد مشروع الحداثة.. ومصطلح ما بعد.. يعني النفي أو التجاوز للمقولات وليس للواقع المادي..

التعريفات غير الداعمة:
5- هابرماس ماس: تصورها تعبير عن عجزنا عن فهم العالم المعاصر.
6- دانيال آدمز: محاولات تسعي لتقديم إجابات على تساؤلات طرحتها رأسمالية نهاية القرن العشرين.
7- آلان تورين: يري أنها محاولة منهم لفصل البناء الفوقي عن التحتي للهروب من بشاعة وآثار الرأسمالية على العالم.. أي أنها حل.. للهروب من الإدانة للنظام الرأسمالي القائم، واحالة التهم الي نظام العلامات.
8- امبرتو ايكو قال بأن المصطلح صار بلا معني تقريبا لأنه صار العوبة في يد كل من يريد ام يكتب شيئا مختلفا.. وقدم تعريفا او مصطلحا جديدا وهو تعدد اللغات المعمم لزمننا..
9- رأيي الشخصي: انها محاولة لجعل الاغتراب أمرا طبيعيا، وليس أمرا يجب تجاوزه.. ذلك أن عدم وجود معاني ثابتة للأشياء، يعني أن يغترب المعني عن الشيء، ويصبح الشيء مدلول على دال يبحث عنه دائما.. وأستطيع أن ارصد ثلاثة مصادر كبري انطلق منها المشروع ما بعد الحداثي وهي ( التطورات التي لحقت بفن العمارة في 1972 – مظاهرات 68 التي عبرت عن رفضها للسلطة السياسية والثقافية – نقد الفكر الفلسفي والشمولي..) وقد عبر ليوتار عن مخرجات تلك المصادر الثلاثة في وصفه للوضع ما بعد الحداثي، حيث وضع في كتابه الهام هذا الخصائص المشتركة لأسلوب التفكير الجديد الذي ينقلب على الحداثة.. ولكن هذا الموقف لم يكن الوحيد في تقييم الحداثة.. فقد انقسم الفكر الغربي الي ثلاث رؤي في الموقف منها:

الرؤية الأولي: قال بها هابرماس بأن الحداثة لم يزل لديها ما تقدمه، في صورتها الحالية وتقاليدها العريقة التي أنتجت مقومات العقل المعاصر

الرؤية الثانية: قال به الماركسيون مثل تيري ايجلتون وفريدريك جيمسون وديفيد هارفي .. بأن الحداثة الغربية يمكن تطويرها في إطار اجتماعي وسياسي وثقافي.وهناك تمييز بين هذين التصورين علي ما يبدو لنا أنهما يتفقان علي دعم الحداثة، والتمييز يقر بأننا لم نزل نحيا في مرحلة الحداثة، وأن تغيرت ملامحها الي حد بعيد بسبب تغير الشروط الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، ولكنه علي أية حال تغيرا لم يكن ثوريا علي الاطلاق، بل جاء تشويها لقيم الرأسمالية التقلدية، ومن ثم جاءت التصورات الثقافية متوافقة مع هذا التشوه الذي يصيب العالم الآن.

الثالثة: يقودها مجموعة مفكرين كثيرين بأن الحداثة انتهت بلا رجعة.. وحجتهم في ذلك تقول الآتي: أن الحداثة كانت مسيرة من التقاليد الفكرية والثقافية في سياق الحضارة الغربية والإنسانية تمت في إطار تاريخي تصاعدي عبرت عن الإنسان والطبيعة والحياة بشكل عام، وانتهى دورها بحكم أنها وصلت إلى طريق مسدود بعدما فشلت في كشف الأقنعة عن الكثير من المفاهيم كالعقل والحقيقة والميتافيزيقا والكاتب والمؤلف والنص والمعني... إلخ. تلك المفاهيم المسئولة عن إعاقة التقدم البشري عبر إصرارها على إعادة إنتاج الصيغ الأرسطية في صور متشابهة ومتكررة. ولذلك.. فالخروج عنها يحتاج وقت طويل حتي تستقر تصورات ما بعد الحداثة.. إذ ليس من السهل أن تتجاوز أو تدعو إلى تجاوز أفكار ظلت راسخة لقرون عديدة مثل العقل والصدق والمعرفة والأخلاق والحقيقة...بسهولة، بل ستظل أسيرة منطلقاتها لفترة طويلة، ولن يصبح الخروج من محدداتها المعرفية بالأمر السهل... وهذا ما اكد عليه إن الحداثة تمر بأزمة لا فكاك منها، ومن ثم وجب تجاوزها، وهذا ما أشار إليه ياسين بن علي، حينما أكد على أنها كشفت عن فشلها ثقافيا ومنهجيا ومعرفيا، وهو ما تمثل في عدم قدرتها على التعبير عن واقع الإنسان ومشكلاته، ولكن ما غاب عن "بن علي" أنه لم يدرك أن أزمة الحداثة هي نفسها أزمة الرأسمالية بل وأزمة كل الأنماط الإنتاجية السابقة عليها التي استندت إلى شرعنة الاستغلال والاغتراب والاستلاب، ومن ثم فمعالجة الحداثة بعقاقير ما بعد الحداثة لن يجدي نفعا طالما بقي نمط الإنتاج الحاضن لهاتين المنظومتين لم يتغير.

السؤال الثالث: ما هو تصنيف رؤي ما بعد الحداثة:

.. دعونا نترك الرؤي الثلاثة التي ذكرتها، ونركز هنا فقط على الرؤية الثالثة التي تقول بأننا في عصر ما بعد الحداثة، وأنصار تلك الرؤية ينقسمون فيما بينهم الي فئات، وسنلاحظ سهولة التصنيف هنا، بعكس التعريف الذي لم نصل منه الي معني محدد لما بعد الحداثة..

1- إذ يصنفهم "ليمرت" إلى ثلاث فئات،

الفئة الأولى: الراديكاليون: ليوتار وبودريار وإيهاب حسن، وهؤلاء يذهبون إلى أن الحداثة صارت كالإقطاع القديم، جزءا من التاريخ، لا مكان لها في المستقبل، وبحسب إيهاب حسن، انتشرت الأفكار بعد الحداثية في كل بقعة من العالم وفي كل أنشطة الإنسان المعاصر حتى أنه صار هناك ما يسمى بالمطبخ ما بعد الحداثي.( والغريب أن إيهاب حسن يري أن فكرة الانتشار كافية للحكم علي الشيء بالموضوعية.. وليس بالواقعية.. نعم انتشار ما بعد الحداثة هي حقيقة واقعية..ولكن ليست بالضرورة تكون حقيقة عقلانية..والا فهو هنا هيجلي يقول بأن كل واقعي معقول )
الفئة الثانية: الاستراتيجيون: أمثال ميشيل فوكو ودريدا ودولوز، ( عملوا علي تأسيس منطق جديد للمعرفة يضع الخطاب محل الأيديولوجيا ) فينطلقون من أن اللغة أو الخطاب هو أداة الفهم الوحيدة للأشياء، ولا يرون من ضرورة لاتباع منهج معين في الحياة ( ايدلوجيا ) أو تبني نظرية ما ( الماركسية تحديدا ) يسير من خلالها الإنسان تجاه مستقبله.
الفئة الثالثة، اللاشموليون أي الذين يرفضون الأنساق الشمولية التي أفرزتها الحداثة ولكنهم لا يتخذون موقفا شاملا منها، فيقبلون بنقدها وليس نفيها بالكلية، ومثال لذلك ما طرحه هابرماس، وفي تقديري أن هذا الاتجاه الثالث ليس من بينهم... وهنا أختلف مع ليمرت

2- وثمة تصنيف آخر ينظر لما بعد الحداثة بمنظور زمني.. تعاقبي، كتعاقب الأجيال، كان الجيل الأول "رولان بارت وفوكو وجاك دريدا وجاك لاكان" بينما يمثل الجيل الثاني اللاحق لهم مباشرة وربما المتداخل أيضا، كل من "دولوز وليوتار وإيهاب حسن وجان بودريار وسكوت لاش S. Lash".

3- ولكن الحقيقة عايز أقف شوية عند ليوتار، وكنت أتمني أن نقف أيضا عند إيهاب حسن، ودريدا، ولكن الوقت ليس في صالحنا... جان فرانسوا ليوتار "1924-1989"Jean-François Lyotar " فقد استند في موقفه الفلسفي ورؤيته، التي كانت أوضح ما يكون في كتابيه: "الخطاب والشخصية" عام 1971، "الوضع ما بعد الحداثي" 1979؛ إلى رؤية نيتشه في موقفه من الحقيقة أيضا، إذ أنكر الحقيقة لأنها تكشف عن نفسها من خلال لغة، اكتشفنا أنها عقيمة وغير قادرة على نقل كل خبرات البشر ومشاعرهم وانفعالاتهم ولاوعيهم الشعوري، فاللغة مجرد ألاعيب ارتبطت بسياقات تاريخية وليست مستمدة من اللحظة الراهنة، ولا يمكنها الإمساك بلحظة الحقيقة أبدا. كذلك انتقد المنطق ورأى أنه أدى في النهاية إلى الوثوق المبالغ فيه في العلم والمعرفة العلمية المستمدة من قوانين الفكر والقياس والاستنباط والاستنتاج.. الخ، واتخذ موقفا متشككا في التنوير وقيمه وأفكاره ورأى أنه لم يحرر الإنسان قط، بل دفعه نحو مزيد من الجمود الفكري حينما استبدل الإيديولوجيات بالأفكار اللاهوتية في العصور الوسطى. استمد ليوتار أيضا من فوكو موقفه من العقلانية وانتقاده لهيمنة العقل وسيطرته على الوعي الثقافي المعاصر. واستلهم من رؤية رولان بارت عن النقد الأدبي موقفه الناقد لنظريات النقدية المهيمنة على تقييم الأدب والفن لأنها محض قواعد ومذاهب وضعت للحد من انفتاح آفاق النص الأدبي وإجراءات تعسفية تجاه تجارب المبدعين.

وموقف ليوتار من الماركسية، حيث بدأ حياته ماركسيا، ولكنه خرج عن عباءة ماركس انطلاقا من رفضه لفكرة الإطار النظري والنسقية.. أي أنه لم يكن معاديا بالكلية للماركسية بقدر ما جاء موقفه محاولة منه لتطويرها – كما يعتقد– ولكنه كان يرى ضرورة المراجعة النظرية والعملية للشيوعيين في العالم وخاصة في الاتحاد السوفييتي وفرنسا.... وذهب إلى أبعد من ذلك إذ اعتقد في علاقة اللاوعي بالاقتصاد السياسي، وتصور أن هذه العلاقة ظلت غائبة عن الماركسيين ويجب الانتباه لها، فأصدر كتاب "اقتصاد الليبيدووو Libidal Economy" عام 1974، فأشار فيه إلى أن اقتصاد الرغبة أو دوافع اللاوعي هي نمط آخر في الاقتصاد السياسي، ولابد من ربط الإنتاج باللاوعي. ومن هذا المنطلق عمل على إعادة إنتاج القراءة الماركسية لماركس، وتطويعها لتناسب رؤى ما بعد الحداثة. يسعى ليوتار في كتاباته عن ماركس، إلى أن يجعل ماركس لبيديا، وليس بمعنى الإلحاح على وجود الأحاسيس والرغبات ضمن النظرية الماركسية فحسب، بل بمعنى أن تلك الرغبات والأحاسيس قد اتضح أنها تنتمي إلى أجزاء أخرى من الاقتصاد اللبيدي.


السؤال الرابع: ما هي أهم اتجاهات ورؤي ما بعد الحداثة ؟

أما عن رؤى ونظريات ما بعد الحداثة التي اشتهرت مؤخرا فمنها على سبيل المثال: التلقي، والتفكيك، والنظرية النقدية وفقا لأفكار مدرسة فرانكفورت، ونظرية النقد الثقافي، والتاريخانية الجديدة، والجنوسة، والنظرية الجنسية والنظرية العرقية، والنسوية، والجمالية الجديدة، وما بعد الكولونيالية، ونظرية المقاربة والتناص، والمقاربة الاثنوسينولوجية، والمقاربة متعددة الاختصاصات، والفينو مينولوجيا، والنقد البيئي، والنقد الحواري، وسيميوطيقا التأويل..الخ، وأهم ما يلفت الانتباه إلى تلك النظريات والتصورات أنها فتحت آفاق النقد على أوسع مدى وهي سمة مهمة ومطلوبة دائما، وجعلت هدفها النقدي هو فلسفات المركز التي تهيمين وتسيطر على الثقافة العالمية والاهتمام بالهامش والثقافة الشعبية والحياة اليومية وحاربوا التكلف والمذهبية والتنظيم والقواعد.


السؤال الخامس: ما هي القواعد الحاكمة لما بعد الحداثة:

1- ونقطة البداية التي منها استلهمت نظريات ما بعد الحداثة رؤاها وفلسفاتها هي أن العقل غير قادر بمفرده على بلوغ الحقيقة، وهذه المقولة تستند على نقد موقف أفلاطون ونظريته، وفطرية العقل عند ديكارت ومدى قدرته على إرشادنا لليقين، فالكوجيتو الديكارتي يكشف بوضوح عن مكانة العقل في التاريخ، وفي الوعي الإنساني، وفي الفكر الفلسفي السابق على نيتشه، حيث اعتبرت الفلسفة ما قبل نيتشه أن العقل هو مصدر معرفة الحقيقة، ومع وصول نيتشه بدأ ضرب سلطة العقل وسلطان الحقيقة الناجمة عنه، ليقول بعكس ذلك تماما، فالغريزة واللاشعور والشك العقلي هي المصادر الموثوقة للوصول إلى الحقيقة، وكما يقول جاك جرديا في كتابه الكتابة والاختلاف: إن حقبة اللوغوس تحط من الكتابة، المنظور إليها باعتبارها وساطة للوساطة وسقوطا في برانية المعنى وخارجيته.

2- التمييز أو التفريق بين الدال والمدلول، وربما جاء هذا الفصل مدينا للميتافيزيقا التي ميزت أيضا وفصلت بين السماء والأرض، المثالي والواقعي، المحسوس والمعقول، وتلك الجذور الميتافيزيقية اللاهوتية كما يقول دريدا، أيضا في نفس الكتاب أن العلامة والألوهية ليتمتعان بنفس مكان الولادة وزمنها، إن حقبة العلامة هي، جوهريا، لاهوتانية، وهي ربما لن تختتم أبدا، ومع هذا، فإن حدودها التاريخية مرسومة... ترتب علي ذلك أيضا التفريق بين ثنائية قوة العمل ورأس المال..

3- إن الفلسفات الكبرى والشمولية أصبحت عاجزة عن تفسير الواقع المتغير خاصة في عصر التكنولوجيا وثقافة الصورة والتطورات المتلاحقة، وبالتالي صارت تلك الفلسفات عبئا على التاريخ البشري، لكونها أنتجت مجتمعات مغلقة ومقدسات تهيمن على سلوكيات الإنسان، ورسخت لفكرة أن العالم عبارة عن وحدة متماسكة تسعى إلى هدف غائي محدد( فلسفة هيجل مثال علي ذلك ) وهو قول ثبت بطلانه، فالتجربة ليست حاسمة ومقنعة بالضرورة، وحياة الناس لا تسير على شاكلة بعضهم البعض ( فلسفة ماركس مثال علي ذلك ) ، ولا يمكن إصدار قانون عام يحكم تصرفات البشر ويعكس حقيقة مشاعرهم وأحاسيسهم وانطباعاتهم.

4- نقد فكرة النظام، والدور المركزي للتاريخ: إن هذا الموقف السلبي من فكرة النظام ورسم صورة ميكانيكية للتاريخ– وفقا لما بعد الحداثة- يعني الرتابة، والانتظام، والتكرار، والقدرة على التنبؤ، فليس بإمكاننا أن نطلق على ظرف ما صفة "منتظم" إلا إذا توقعنا وقوع بعض الأحداث على نحو يفوق بدائلها، وأن أحداثا أخرى لن تقع على الأرجح، أو أنها خارج حساب الاحتمالات تماما. وعليه فلابد لكائن ما في مكان ما "كائن عظيم يتجسد في شخص أو قوة غير شخصية تمثل علة الوجود" من أن يتدخل في الاحتمالات ويغيرها ويبدلها، ويلقي بالنرد ويتحكم في الاحتمالات ، وهذه الطريقة لا تتوافق مع الواقع المعيش، ومن ثم فإن التراتبية وفكرة النسق والانتظام غير ملائمة لطريقتهم في التفكير ومن ثم غير ملائمة للحياة المعاصرة في المجالات المختلفة

5- اقتصاديا كيف نفهم ذلك ؟؟ في حالة الأسواق التقليدية، تكون فكرة الهرمية نموذجية، والعلاقة بين البائع والمشتري تعبر عن ثنائية نفعية الي حد كبير، فكلاهما يتسفيد من الآخر.. ولكن السوق العالمي المحلي أصبح مشوها الي حد كبير، فالسلع تنوعت بقدر مذهل، ولم تقم جميعها نتيجة احتياجات البشر المادية والروحية، بل لعبت الطموحات الرأسمالية دورا مهما فيها، حيث تم احاطة مثلا مشروب الكولا بهالة كبيرة جعلتها في المركز الأول من حيث المشروبات في العالم علي حساب مشروبات محلية كثيرة.. والقضية هنا لم يحكمها القيمة الغذائية بل حكمتها القدرة علي الدعاية والترويج والشعور بالحداثة والمعاصرة والشياكة البرجوازية..ونستطيع القياس علي ذلك ألاف السلع الأخرى في كافة المناحي.. هنا اصبح الفرد يستخدم عشرات وربما مئات الأشياء في حياته الخاصة، ليس بهف الارتقاء بنفسه، ولكن استجابة لتغذية نوازع قام رجال التجارة والصناعة بتغذيتها باخلها وخلقها خلقا.. الأمر الذي جعل الذات كالمرأة العارية في سوق النخاسين.. الكل ينظر اليها، والكل يطمع فيها، والكل يحاول النيل منها..

6- وحقيقة الأمر، لقد أُطلقت المدافع من كل اتجاه للقضاء على مدينة الحداثة القابعة على شاطئ اليقين، حيث اعتبر البعض أنها دعمت نظما سياسية مستبدة وكانت أساسا فلسفيا لها لأن جوانبها التقديسية "تقديس العقل والمؤلف والإله والنظام والنسق..الخ"، رسخت ومنحت مفهوم السلطة شرعية مطلقة، بل ومسئولة أيضا عن تضخم المركزية الغربية، فانتقدت ما بعد الحداثة الدور المشوه الذي لعبته الرأسمالية الاحتكارية في العالم المعاصر، ولكن هذا لا يعني أبدا أنها تدفع باتجاه تبني رؤية أخرى مخالفة لنمط الإنتاج الرأسمالي، فلم يحدث أن كتب أحدهم عن تبني مشروع متجاوز للرأسمالية تجاوزا ضديا، أي تجاوز يحدث نقلة نوعية في شكل وفلسفة علاقات الإنتاج بحيث يتم من خلاله ضرب سلطة المالك والأجير، بل نجدهم يدفعون ويدافعون عن التغيير الذي ينطلق مما أحدثته ثورة الاتصالات من تغير شكلي لحياة الناس، إنه نقد صوري للرأسمالية لا ينفك أن يؤدي في النهاية إلى دعمها، بل ودعم أسوأ صورها استغلالا.

7- إن ما بعد الحداثيين يرفضون الحداثة ليس بمنطق أنها ربيبة الرأسمالية التي سادت في القرون السابقة، ولكن بوصفها إغلاقا للعقل على مفاهيم ثابتة، ورغم مصداقية أو مشروعية هذا النقد إلا أنهم لم يطلقوا سهم التحرر إلى أقصى مداه، وما يدافعون عنه هو مزيد من إطلاق السهام أو طلقات الرصاص باتجاه الفراغ اللا محدود والمعنى المراوغ والقراءات متعددة.

السؤال السادس: ما هي المعايير التي بموجبها تتأسس عليها رؤي ما بعد الحداثة

1- نقد الخطاب الرسمي والمركزي للثقافة الغربية بدءا من مرحلة التشكل المعرفي المنهجي عند أفلاطون وحتى ماركس وهيجل.
2- الإعلاء من قيمة النقد والشك، ذلك أن نقد المعارف التقليدية السابقة لا يتم دون وضعها تحت منظار التشكك في قيمتها وصحتها وقيمها الإنسانية ومستقبلها. هذا النقد لا يتوقف عند حدود الأنساق المعرفية فحسب، بل ورموزها أيضا، فلا سلطة ولا قداسة لأي منهم.
3- النزعة العدمية: إن تعمد تغييب المعنى وضبابية التأويل وانفتاح الدلالة يعني في أحد أهم صوره دحض علم المنطق ورفض فكرة النظام كمبدأ عام تتحرك بداخله الأشياء في هذا الكون، ويعني أيضا سيادة الروح البرجماتية والذاتية وإذكاء الفردية في التعامل مع الخطاب وفهمه وتأويله، مما يفضي إلى خلق نزعة عدمية تدير ظهرها لكل شيء سابق.
4- تفكيك البنية: وكانت هذه الخاصية نتاجا مباشرا لانتشار فلسفات البنيوية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فرفضت ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة فكرة أن ثمة بنية تكمن خلف ظواهر الأشياء، و كذلك رفضت فكرة أن مهمة الباحث هي الكشف عن تلك البنية حتى يمكن تفسير الظاهرة تفسيرا صحيحا.
5- هيمنة الصورة في عصر الثورة التكنولوجية: تكاد تكون الصورة هي اللغة التي يتواصل بها الناس مع بعضهم البعض، حتى الكلمات نفسها هي نوع من رسم الحروف، فمنذ القدماء كانت الصور هي أسلوب الكتابة، ولكن في العصر الحالي صارت الصورة أكثر انتشارا ونفوذا وتأثيرا من ذي قبل حتى أنها تفوقت على الكتابة والكلام، لأنها الأسرع في التعبير والأوسع في تعدد الدلالات.
6- خلق نص موازي، ووعي موازي عن طريق إعادة الاعتبار للقارئ والمتلقي والهامش والتفكيك والفوضي والغياب والإحالة والتأويل والتعددية والحرية المطلقة في الفهم، بما أدى إلى العمل على تحطيم القيود والقواعد النحوية والنقدية واعتبارها سجون أو معتقلات تسجن التجربة الإنسانية الحرة الطليقة، ومن ثم كان سعيهم لتحطيم قواعد التجنيس الأدبي أمر ضروري ولازم، وفتح أفق النصوص على دلالات مفتوحة وعائمة ولا قيود عليها أيضا أمر ضروري ولازم. وربما من هذا المنطلق انتقد ميشيل فوكو من يتبعون قواعد معينة صارمة في تقييم الأعمال، وكذا رفض دريدا دائما أي إمكانية لتصنيف عمله أو كتاباته.
7- الحقيقة ليست سوى وهما، هكذا أشار نيتشه واعتبر هذا الوهم نابع من تضليل اللغة والمعاني الثابتة، فيما اتبعه في ذلك جان بودريار أحد أنصار ما بعد الحداثة حينما أشار إلا أنه لا يوجد شيء اسمه الحقيقة.

أخيرا ...

نخلص من المقالات الثلاثة التي عرضنا لها عن الطريق الي ما بعد الحداثة ما يلي :

1- أن الحداثة الأوربية ارتبطت عضويا بالرأسمالية، وجودا وعدما.

2- كما يمكن دراسة النظام الرأسمالي في تحولاته الداخلية من مجتمع تجاري الي صناعي الي ما بعد صناعي، يحمل كل منهما سمات خاصة، بالإضافة الي سماته العامة التي يحددها قانون حركة رأس المال، وكذلك يمكن تقييم الحداثة وفق لتلك الثلاثية أيضا، النهضة الحداثية، والتنوير الحداثي، والحداثة السائلة أو المتأخرة..كل منهما أيضا تحمل سمات خاصة، ولكنها تشترك في السمات العامة للحداثة وأهمها المركزية الأوربية، وفكرة الخطاب،

3- لا يمكن القول بما بعد حداثة دون احداث تغير هيكلي وبنيوي في النظام الرأسمالي نفسه، حتي يكاد أن يتلاشي.

4- علي حين دعت ما بعد الحداثة الي تعظيم قيمة اللاوعي ونقد مقولة الوعي، انشغلت الماركسية بالتمييز بين الوعي الحقيقي والوعي الزائف، وعلي حين انكرت ما بعد الحداثة الاوربية مقولة الحقيقة، انشغلت الماركسية بإعادة انتاج الحقيقة من قلب واقع جديد، فالمشكلة من وجهة نظر الماركسية لن تحل بموت مقولة الحقيقة، بل بقتل ذلك الوهم الذي صدر لنا المفاهيم لكي تتوافق مع التشوه في البنية التحيتية..فالحقيقة مشوة ليس لأن اللغة مراوغة فقط، بل لأن نمط الإنتاج نفسه يشترط وجود لغة زائفة ووعي زائف يستطيع أن يقنع البشر أنهم استلابهم هو تعبير عن منطق الأشياء، بالضبط كما فعل أرسطو من قبل وقال بأن العبودية هي قمة الحرية.

5- أن رؤي ما بعد الحداثة هي تعبير صادق عن الحضارة الاوربية الحديثة التي ورثت الامبراطوريات الكبرى وظلت تتدرج بالمجتمعات من الكليات الي الجزئيات، من الامبراطورية الي الدولة القومية الي الشركات الكبرى، الي الشركات متعددة الجنسيات ومتخطية الحدود، الي القرية العالمية، وأخيرا الي الذات الإنسانية المتفردة والمستقلة عن كل شيء ، للتحول الذات الي موضوع مستقل قائم بذاته..هذه التحولات ليست سوي استجابة صارخة الوضوح لمسيرة التحولات الاقتصادية.. كما أوضحنا.

6- ان الانشطار المتلاحق وشبه اليومي لمدراس ما بعد الحداثة، يشبه الي حد كبير ذلك الانشطار الاقتصادي المعاصر، فالعالم يدخل منذ التسعينيات مرحلة سيولة، لا يمكن انكارها، وفي تقديري ان الماركسية هي الاتجاه الوحي تقريبا في العالم المعاصر الذي يمتلك مقومات المواجهة، مواجهة الروح الاقطاعية الماثلة في الخطاب الديني العالمي، والروح السيولة الماثلة في خطاب ما بعد الحداثة المعاصر، لذلك ففي اعتقادي أن الصعوبات التي تواجه الماركسية اليوم ربما هي الأخطر في تاريخها على الاطلاق.