ما بعد الحداثة (خريطة مبسطة ) 2-3


محمد دوير
2022 / 4 / 27 - 21:05     

عرضنا في المقالة السابقة لعدة موضوعات أهمها الحداثة وعناصرها ومقولاتها، وتوصلنا الي دور العقل كمحور لمفهوم الحداثة.
تناولنا أيضا المفاهيم ذات الصلة مثل الدين واللغة والفردانية
ثم تناولنا أهم محطات تطورات الاقتصاد كأحد أهم الموجهات للفعل البشري
وتوقفنا علي أعتاب التغيير الذي حدث في العالم في منتصف القرن العشرين..

وفي هذا المقال نكمل المسيرة.. نحو محطة الوصول.. محطة ما بعد الحداثة.
واللحظات التي سبقت ما بعد الحداثة كانت كلها تنذر بأن ثمة تحولا أو انقلابا سوف يحدث، فالسحب الممطرة انتشرت في سماء الحداثة، والقلق الإنساني رسم قوس قزح في سماء الأفكار، وبدت القارة العجوز كإمراه منزوعة الملابس تسير في الطرقات بلا هوية.. أو كما وصفها رولان بارت بعد أحداث 68 قائلا: هذا الرجل ذو المعرفة العميقة يبدو أنه مثل فتاة شاخت مبكرا.. أي أنه يقصد أننا لم نعد بحاجة إلى معرفة عميقة.
ولكن تلك الفتاة التي شاخت مبكرا، كانت في قمة ألقها الجمالي وفتنتها في الاقتصاد العالمي، الذي وضع في إطار شبكي مترابط عن طريق اتساع حركة التجارة العالمية وتدويل رأس المال، واصبحت نظرية المستهلك عالمية الطابع أيضا، والاستهلاك هو: ثقافة، نمط، ولا اقصد بالاستهلاك الأطعمة فقط، بل والسينما والأغاني والمشروبات والأزياء.

وكما الاقتصاد، سارت السياسة، فمنذ الثمانينيات بدأت السياسة الأمريكية تشغل الكثيرين من المثقفين والمهتمين بشكل عام، هنا تراجع تصورنا عن الاغتراب الثقافي، وصرنا جزءا من الثقافة العالمية ... والامريكية بصفة خاصة..
مع الانفتاح الاقتصادي والسياسي في البلدان العربية، ومع دخولنا مرحلة النفط، اتسعت رقعة الاهتمام بالشئون الغربية، باعتبارها مؤثرة علينا بدرجة كبيرة.. خطاب الإسلام السياسي وقتئذ ساعد على دعم تلك الروح الغربية لدينا حيث شعر البعض أن الالتزام بالتراث وتصوراته المطروحة علينا يحمل جوانب دموية محتملة وخاصة لدي الأقليات، فازداد التواصل مع الغرب.... إضافة الي مساحات الجدب السياسي التي تشبه صحراء العرب.. كل هذه العوامل ساعدت على بروز ما يسمي بالعولمة الثقافية التي تحولت بعد فترة قليلة الي امبريالية ثقافية مع ما بعد الحداثة.

ويبقي السؤال: كيف انتقلنا من عولمة الثقافة الي امبريالية الثقافة: بمعني أخر من الحداثة الي ما بعدها؟
1- في الحداثة.. كانت الثقافة الغربية تنحو باتجاه العولمة، نظريات ديكارت وكانط وهيجل وماركس - اكتشافات جاليليو ونيوتن واينشتين ونيلز بور وهايزنبرج - منهجيات بيكون وهيوم ورشنباخ وبوبر .. الخ.. كانت موجه للبشر، تخاطب فيهم العقلانية عقلانية السلوك البشري، وعقلانية الطبيعة وانتظامها.

2- كانت الحداثة.. تقدر قيمة الإنتاج، وتربط بين العلم وتطبيقاته، فأنشئت الجمعية الملكية الإنجليزية واكاديمية العلوم الملكية الفرنسية.. كما لعبت نظرية العلم الحديث دورا في التطور الاجتماعي للبشر الذين خرجوا من تحت عباءة الكنيسة ومن قلب الأرض الزراعية الي مدن ظلت تتسع وتنمو وتتعقد علاقاتها كتعبير عن حداثة قادرة علي تطوير حياة البشر، مما اسهم في ظهور علم الاجتماع وتطور موضوعات الفلسفة ومؤخرا ظهور علم النفس، وظهرت نظريات اخري تدعم ثقة الانسان في نفسه مثل نظرية التطور العضوي عند لا مارك ومنطق هيجل الديالكتيكي ونظرية التطور عند داروين والتحليل النفسي عند فرويد والتفسير المادي للتاريخ عند ماركس.. ولكن الأهم من وجهة نظري هي دعوة كوندرسيه إلى تأسيس جمهورية عالمية للعلوم على غرار مجمع أباء الكنيسة، هنا.. وهنا تحديدا بدت الحداثة منتصرة علي صعيد الفكر والعمل، وبدا العقل الغربي ناجحا في إدارة شئون الكون، علي جميع الأصعدة.. وباستثناء التوجهات الاستعمارية يمكننا القول إن الحداثة الغربية اعادت انتاج الانسان بعد قرون طويلة من الغياب.

3- دعمت الحداثة أيضا فكرة عولمة الثقافة، ولهذه العولمة عيوبها القاتلة التي تحدثنا عنها في المقالة السابقة، ولكنها أيضا اتسمت بسمتين رئيسيتين، هما نزعة اليقين، وحالة الشك.. كلاهما شكل وجه عملة للآخر( سنري هنا أنه تم التخلي عن اليقين والإبقاء علي الشك... بمعني أن تصورات ما بعد الحداثة هي تطوير لفكرة الحداثة وليس انقلابا عليها بالمعني الجذري )

4- كانت نزعة اليقين، تدعم الثقة في البشر من حيث قدرتهم علي السيطرة علي حياتهم وتطويرها دوما، والتي جاءت عن طريق التأكد من اليقين الذي اكسبه لنا العالم، ومن الحقيقة التي أكدت عليها الفلسفة، ومن العلاقات بين الأشياء والسببية، التي اكدت عليها العلوم الاجتماعية والطبيعية علي حد سواء.. هنا بدا الاستقرار واضحا، والتعبيرات موحيه كثيرا بكل ما تقصد..

5- النزعة الثانية: نزعة الشك التي كانت موجود أيضا رغم هذه التصورات اليقينية.. الشك في صدق علاقة العمل برأس المال (ماركس وبرودن).. علاقة الفرد بالدولة (فلاسفة القد الاجتماعي).. علاقة اللغة بالإنسان( الهيرمونيطيقا)، الدال بالمدلول( دي سوسير )، الشك في منهج العلم (هيوم وبوبر )، الشك في الأدلة الوجودية( هيدجر - سبينوزا) . لذلك لم ينقطع الحوار بين الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والمتخصصين حول قضايا كثيرة، فرأينا تصورات دوركايم واوجست كونت في مقابل تصورات الدين التي صنفت البشر كمؤمنين وغير مؤمنين.. ورؤى فرويد في مواجهة رؤي أدلر.. وتحليلات ماركس في مواجهة تحليلات ادم سميث وريكاردو وهيجل، وموقف هيجل من كانط، وموقف شوبنهاور من هيجل ثم موقف نيتشه من الجميع.. هنا نزعة الشك اتخذت صورة نقدية، وحوارية، وباستثناء نيتشه، فإنها كانت رؤي لا تقصد ابدا فكرة التجاوز عبر النفي التام..

ظلت الأمور تسير على هذا المنوال ووفق هاتين الثنائيتين، اليقين الممزوج بقدر من الشك.. ولكن.. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. وتحديدا في الفترة من 1945 وحتى 1968، حيث كانت تلك الفترة هي معمل الأبحاث الذي خرجت منه أفكار ما بعد الحداثة.. إذ يمكن القول بأن بذورها قد تشكلت طوال القرن العشرين، فالإمبريالية الاقتصادية تشترط امبريالية ثقافية بالضرورة. فما الذي حدث، ولماذا تلك الفترة تحديدا؟؟
أزمة الكساد الكبير – الحربين العالميتين – نهاية مرحلة الاستعمار وحدوث فجوة كبري في العقل الغربي بين الضمير الإنساني والمصلحة الاوربية – ظهور النازية والفاشية كأسوأ صور الحداثة- تنامي قوة الاتحاد السوفييتي- كل هذا تبلور في لحظة انفجار وتمرد عبرت عنها احداث 1968 في قلب أوربا الثوري، في فرنسا..
تلك التحولات وغيرها الكثير.. أدي الي الاتحاد حول هدف واحد، وهو تصويب فوهة البندقية نحو العقل.. هكذا أرادت تجربة الحياة أن تتخلص من هذا الدماغ، ذلك العقل، اللوغوس، بوصفه المسئول عن تلك الحروب التي دمرت البشرية، ( اللوغوس وليس منطق الملكية الخاصة، وغالبا عندما يتم تشخيص المرض بصورة خاطئة ما يؤدي الي كوراث عنيفة للمريض.. لذلك قالوا بأن العقل هو سبب الأزمة الحضارية الغربية) والمقصود من العقل : تلك الأفكار الثابتة: العلاقات بين الشكل والمضمون/ الدال والمدلول / التحتي والفوقي.. الاستعمار والتخلف، الحروب ودوافعها الاقتصادية...الخ .. وبالتالي لابد من تحرير تلك العلاقات، تحرير مركزية العقل واستبدالها بمركزيات أخري، مثل اللاوعي/ اللاشعور/ النسبية المعرفية/ اللايقين/ اللا صدق / وعدم الايمان بأبدية التعريفات والمفاهيم.. ولكن السؤال.. هل نقد مركزية العقل هنا.. كانت كفرا به؟ لا.. وإنما كانت كفرا بدوره الذي أدي الي ما وصلت اليه البشرية، هنا المشكلة مع توظيف العقل وليست مع العقل نفسه..

وبهذه المناسبة علينا أن نمر سريعا علي مراحل توظيف العقل عبر التاريخ – وبعيدا عن رؤية هيجل نقول- أن وظيفة العقل عبر التاريخ قد التزمت دائما بالمسارات الأيديولوجية للتاريخ الاجتماعي للبشر، أي أخذت تلك الوظيفة صورا مختلفة بحسب السياق الحضاري. فالعقل في مرحلة الأسطورة كان عقلا خياليا، وفي مرحلة الفلسفة اليونانية القديمة كان عقلا تأمليا، ثم تحول إلي عقل وظيفي في العصر الوسيط مهمته تأويل الواقع ليتناسب مع النص المقدس، ثم صار عقلا نقديا في مرحلة الحداثة من خلال مشروع التنوير. ومع مرحلة عنفوان الرأسمالية الصناعية صار عقلا أداتياً، أما الآن، في هذه المرحلة، مرحلة الليبرالية الجديدة (التي نطلق عليها الأيديولوجيا الناعمة) صار عقلا اجرائيا، أقرب إلى جهاز الحاسوب الذي يخضع لعمليات برمجة معينة وتتحكم فيه مدخلات شديدة الوفرة، بما لا يسمح له بقدر من ممارسة أي من وظائفه السابقة، فتحول إلي عقل غير قادر أو غير قابل للتأمل، ولا للنقد، بقدر ما صار عقلا متوهجا ومتأهبا باستمرار لمواجهة حالة الصخب الفكري والثقافي التي تمطرنا به ثقافة الصورة.

وبصورة مجردة يمكن أن نختزل ذلك التصور لرحلة العقل في ثلاثية (العقل الديني – العقل النقدي- العقل الاجرائي) حيث ينشغل العقل الديني بمقاربة الفهم للنص المقدس، وينشغل العقل النقدي بمقاربة الواقع بنظرية المعرفة، أما العقل الاجرائي فينشغل بوضع العقل الديني والعقل النقدي خارج سياقات المعرفة الإنسانية لصالح تدشين العقل التفكيكي. العقل ما بعد حداثي. اذن لاعتبارات ايديولجية تم توظيف العقل لصالح الكهنوت.. ثم توظيفه لصالح بناء الحداثة.. الان يتم توظيفه لصالح ما بعد الحداثة أو الامبريالية الرأسمالية لذلك يجب أن يكتسب تلك الصفة الامبريالية ويصبح عقلا امبرياليا محايثا للواقع الاقتصادي. ويحتكر المفاهيم الجديدة وتعريفاتها والتصورات الحاكمة لها..
1- في الفترة من 1945-1968، تراجعت صناعات الصلب لصالح الصناعات الدقيقة، وتحول جزء كبير من النشاط الاقتصادي من الصناعة الي الاقتصاد الديجتال والتجارة والتسوق، باعتبار دورة راس المال فيهما أكبر، وعدد تشغيل العمالة أقل.. وظهر تصور لا يختلف عن التصور الثقافي الذي طرحناه للتو وهو ان اقتصاد الصناعة التقليدية بطيء وممل وله تبعات كثيرة، ويؤجج فكرة الصراع الاجتماعي، ويمنح العمال حقوقا مالية واجتماعية تسبب صداعا مستمرا.. تزامن تراجع صناعة الصلب في الستينيات والخمسينيات. مع تراجع أيضا صناعة الصلب الثقافية.. الأفكار الكلية الكبرى.. فبينما تقدمت اليابان ( وفقا لمنظور تقسيم العمل بين اجنحة الرأسمالية) في صناعات التقنيات الجديدة.. وتقدمت أمريكا وفرنسا في صناعات تقنيات ثقافية جديدة.. فانتشرت البنيوية والدراسات ذات النزعة الإنسانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.. وخاصة في فرنسا حيث التركيز علي مفاهيم جديدة مثل النسق والبنية واللاشعور والتفكيك.. وصولا لمقولة موت الانسان.. انسان الحداثة.. وهنا درات مناقشات في اروربا كثيرة جدا.. حول ما هو الانسان.. انه ذلك المستقل عن كل ما سبق من تصورات تحكم تصوراته.. وكلما دارت مناقشات من هذا النوع يتراجع ماركس ويظهر نيتشه في المشهد.. وهذا ما دفع مفكر مثل أريك فروم لأن يصدر كتابه مفهوم الانسان عند ماركس.... انتشرت أيضا الفلسفة البرجماتية وخاصة علي يد جون ديوي بصورة كبيرة.. وارتبط الخير العام بالنفع المباشر.. وتم استدعاء مقولة جون ستيوارت ميل أن المنفعة هي تلك التي تحقق اللذة للإنسان، فالمنفعة واللذة لا ينفصلان.... وكانت نظريات نقدية وفنية قد سبقت هذا المسار بظهور العبثية واللامعقول والعدمية كردة فعل على المدارس التقليدية كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية.

2- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. لم يكن أمام العالم سوي أحد خيارين.. اما التجربة السوفييتية أو الاستمرار في الحداثة الاوربية في صورتها الغربية، تلك الحداثة المدانة من جوانب كثيرة أهمها أنها أدت الي ايديولوجيات كبري.. لم تكن تجربة الاتحاد السوفييتي بالنسبة لهم ملهمة، ولم يتبق من الحداثة سوي تلك الصورة الباهتة التي ظهرت في النازية والفاشية، ومن ثم كان من الضروري القفز الي الأمام، عن طريق البحث عن ثنائيات بديلة لثنائية الاشتراكية وهي السيد/ العبد.. وثنائية الحداثة، وهي العلماني والديني.. الي ثنائيات أخري.. وكان نموذج ديكارت عن ثنائية الجسد والنفس مثالا يحتذي به، فأخرجوا ثنائيات من قبيل الشعور واللاشعور وثنائية الكتابة والكلام، وثنائية الدلالة واللا استقرار الدلالي، ومؤخرا ثنائية العامل والروبوت... وهو ما استلزم مسبقا ضرب مفهومي القيمة والمعني: وهذا ما أكد عليه نيتشه حينما طرح سؤالا في كتابه "هذا هو الانسان".. وهو "كيف يصبح المرء ما هو؟" إنه بحسب تعبيره سؤال "فن حفظ الذات"، يجيب قائلا: أن يصبح المرء ما هو.. يفترض أن لا يكون لديه أدنى دراية بما هو، من وجهة النظر هذه تغدو حتى الأعمال غير الصائبة التي تحدث في الحياة ذات معنى وقيمة.... معني ذلك اقتصاديا أن القيمة والمعني تحددهما اللحظة الراهنة دون تصور مسبق عنهما.. ومن ثم تدخل النفعية في المعادلة، وما بها من متعلقات مثل التسلية والمتعة وإعادة تحديد مفهوم السعادة نفسه. وإذا كان قد بودلير قد قال بأن الحداثة هي الإحساس باللحظة الحالية.. كذلك ما قاله بالضبط رولان بارت أيضا ان ما بعد الحداثة هي الإحساس باللحظة الراهنة.. نقطة الخلاف الأهم هي أن الزمن في الحداثة له حضور، بينما فيما بعد الحداثة ليس للزمن وجودا، معني ذلك خلخلة فكرة المكان أيضا، ومع اسقاط أفكار الزمان والمكان والقيمة والمعني يتخلخل مفهوم الانسان، حيث يتم تفريغه من وجوده الزمكاني، وهنا تصبح مقولات ماركس مثلا حول دور علاقات الإنتاج في بناء تصورات البشر لا قيمة لها. ويتحول مفهوم الاغتراب بمعناه الماركسي الي تصور لا معني له لأنه مفهوم ارتبط بحالة اغتراب تأسست علي الواقع وليس علي الذات. وهذا ما دفع بول هازار بأن يصفهم بأنهم ذكاء يدعي التفكير بنفسه.. فهم يبدأون من الذات وينتهون اليها أيضا.

3- استفادت ما بعد الحداثة من مشروع كانط الفلسفي وتشككه في قدرة الحواس على تحصيل معرفة موثوق فيها، ومن ديكارت في فكرة أننا لا نملك شيئا ملكية حقيقة سوى أفكارنا. ورغم هذا الموقف الكانطي إلا أن نيتشه وهو ذو قيمة كبرى لدى ما بعد الحداثيين؛ شن حملة ضارية على كانط وانتقده بشدة ولا سيما في تقسيم كانط لعالم الحقيقة وعالم الظواهر، وأشار نيتشه في معرض نقده أننا لا يمكن أن ندرك الوجود وهو في حالة صيرورة، فالعقل لا يدرك الشيء سوى وهو في حالة ثبات وسكون، معنى ذلك أن الوجود الذي قال به الفلاسفة ورجال الدين ليس حقيقيا بل مجرد أوهام خدعوا بها الناس، فالظواهر ليست سوى تأويلات قام بها الفلاسفة ورجال الدين، الذين صوروا للناس أنهم يعلمونهم كيف يعمل الوجود، وما ذلك العلم سوى خرافات في عقولهم فقط. ثم استكملت الفلسفة الوجودية أجزاء من الحلقة حينما نظرت إلي الإنسان بوصفه شخصا منعزلا، لا يحقق وجوده انطلاقا من وضعه الاجتماعي او الطبقي بل انطلاقا من ذاته.. إذ يقول سارتر الجحيم هم الاخرون.


4- وكان لهيدجر حضور كبير أيضا في ارهاصات ما بعد الحداثة، فقد كان نيتشويا في فترة من فترات حياته، ذهب هيدجر الي أن المعرفة الحقيقية لا تبدأ الا حينما يتوقف دور العقل بل والاله أيضا، وكافة التصورات الميتافيزيقية.. وقال بأن تدمير الانطولوجيا من الداخل إنما هو عمل ضروري، بل وتكاد تكون مهمة الفكر تفكيكية لهذه الكتلة الصماء. فيما أسس ميشيل فوكو – الذي وصف نفسه قائلا: لست سوي تلميذا لنيتشه - اسس اركيولوجيا المعرفة التي تعمل على تطوير المشروع البنيوي المستند الي المنهج التفكيكي والجينالوجي.
نخلص من تلك المقدمة عن ارهاصات ما بعد الحداثة الي القول بأن المفكرين والفلاسفة والأدباء والمثقفين هم الذين يصنعون التابلوه الإيديولوجي المعبر عن نمط العلاقات المادية السائد، إنهم الفئة الأكثر قدرة على بناء تصور عام للنظام، فيضعون أنفسهم في موضع التمثيل عن العقل الجمعي للمجتمع كصناع للرؤى والأفكار، إنهم قمة هرم المجتمع المعبر عن المجموع، ذلك المجموع الذي ليس لديه القدرة على وضع تصوراته عن نفسه بسبب مكونه الثقافي وانشغاله في حياته اليومية. فبينما كانت السياسات الاقتصادية تسير في اتجاه ابتلاع شعوب العالم وتكوين فائض اقتصادي تاريخي، كانت السياسات الثقافية أو الامبريالية الثقافية تسير في عكس الاتجاه، حيث تعمل على تفكيك العلاقات. لتختزل الإله والمجتمع والعقل الجمعي وعلاقات الإنتاج تختزل كل ذلك في بؤرة الفرد، في لا شعوره ولا وعيه، وتتحول مقولات من قبيل طبقة في مواجهة طبقة أو جماعة دينية في مواجهة أخري إلى فرد في مواجهة العالم، إن ثنائية الواحد في مواجهة الكل.. كانت هي المطلب الأخير الذي يطلبه الشيطان في صفقة فاوستية عملت على مقايضة الذات الإنسانية بكل شيء تقريبا.. فامتلاك الذات أصبح هو الثروة التي اقنعوا بها البشر، ولكنهم لم يقتنعوا أبدا بحق تلك الذات في الثروات الطبيعية وفوائض الإنتاج.. ولم تدرك تلك الذوات أنها لم تقبض من معني لتلك الذات سوي حق الجسد، الذي غاب عنه العقل بعد أن تم تحويله الي عقل اجرائي يخدم في بلاط الامبريالية الاقتصادية. هنا تصدق مقولة ماركس عن علاقة الوعي بنمط الإنتاج، أصبح الفرد في عرف ما بعد الحداثة، روح لعالم بلا روح.

ننتقل الآن الي مناقشة ماذا تعني مقولة " ما بعد ".. تمهيدا لمناقشة رؤية وأفكار ما بعد الحداثة في المقالة الثالثة والأخيرة..
1- مقولة المابعد post - تعني بداية.. التجاوز..( تجاز لحظة سابقة والبقاء في الآن – أي أنها تفترض تقسيما زمنيا، أي تعترف بالأزمنة الثلاثة، الماضي والمضارع والمستقبل – ما بعد تعني الزمن المضارع، تعني لحظتنا الراهنة ، تلك اللحظة الراهنة تحدث قطيعة معرفية مع الماضي، مع الزمن السابق، ولذلك اعتبر نيتشه نفسه فاصلا بين عصرين أو فلسفتين، فلسفات الميتافيزيقا وفلسفة المستقبل)..
والتجاوز قد يكون قصديا، أو تلقائيا وطبيعيا، وعندما قامت الحداثة بتجاوز مرحلة الاقطاع وسيطرة الكنيسة، كانت تفعل ذلك بشكل طبيعي لكي تتوافق قوي الإنتاج الجديدة مع المجتمع الجديد، لكي تتوافق مقولات الفكر مع مجتمع التجارة والصناعة، وأيضا لكي تتوافق الأنسنة بمعناها الذي كشف عنه كوبرنيق مع تلك الأنسنة التي حررها مارتن لوثر من الكهنوت.. هنا كان التجاوز ضروريا وتلقائيا، فالبشر لابد أن يسكنوا المدن، وأن يعملوا في خطوط انتاج صناعي وحركة تجارة، ومن ثم لابد أن يعاد تشكيلهم وإعادة صياغة انسانيتهم بصورة تتوافق مع المتغيرات.. هنا يمكن أن نطلق علي الحداثة أنا ما بعد (لنمط انتاج اقطاعي – ونمط ثقافي وديني لاهوتي).. وهنا أيضا جاء الفكر تابعا للواقع وانعكاسا له، وبقدر ما هو انعكاس أسهم أيضا في تشكيل الواقع عبر بناء تصورات جديدة للحياة عبرت عنها فلسفات العقد الاجتماعي.

2- أما في أفكار ما بعد الحداثة فقد جاء التجاوز قصديا، أي انطلقت من قرار فكري وفلسفي، وتصورات فردية لمفكرين، عبروا عن مفهومهم لروح العصر- بالمعني الهيجلي – دون وجود سند اجتماعي/ اقتصادي يسمح بانقلاب ثوري في نظرية الثقافة، فالرأسمالية لم تزل تحكم، وقانون حركة رأس المال في جوهره لم يزل قائما، والعلاقات الرأسية بين الرأسمال والشغيلة لم تتخذ سمات أفقية، والتبعية راسخة وتزداد تدهورا، وتشويه الثقافات المغايرة لم يختلف كثيرا عن مرحلة الاستعمار، والليبرالية الجديدة تسود بمنطقها المتوحش، والعالم يدور في فلك الدولار، والسياسة الدولية تدار بعقلية قانون الغاب.. ومن ثم يصبح الحديث عن ما بعد حداثة، في ظل تمترس الحداثة الاقتصادية وتعمق حضورها، مجرد فصل الفكر عن الواقع، واستقلال هذا الفكر بعيدا عن ما يقوله الواقع، ومن ثم كان ضروريا لهذا الفكر ما بعد الحداثي أن يكفر بالواقع، ويضرب مقولة انعكاس الفكر أو الوعي للواقع، ويستبدلهم باللاوعي واللاعقلانية، واللاشعور، ولكي يفعل ذلك فهو في حاجة لاستدعاء فلاسفة النقد، والنقض، بدءا من هيوم مرورا شوبنهور ونيتشه وفرويد، وآخرين.. هنا التجاوز تم بصورة قصدية، استهدفها العقل الغربي أو شريحة منه، للتعالي على واقع أصبح النظر اليه بإمعان مدعاة لتأنيب الضمير، فكيف لمسار فكري انتج مقولات كالعدالة والحرية والعقد الاجتماعي والمساواة والتحرر أن يصل به الحال الي أن تصبح كل هذه المقولات الكبرى حجر عثرة في وجه توغل الاقتصاد وتشويه حياة البشر عبر اغراقهم في نزعات استهلاكية تفوق شهوات الحيوانات.. كان لابد من احداث فصل تعسفي يشبه الابارتيد بين الفكر والواقع الاقتصادي البائس، فكانت ما بعد الحداثة هي الوسيلة التي بموجبها تم تدمير كافة مقولات الحداثة، ليفقد العالم ذاكرة حرية الانسان التي نادت بها الحداثة.

3- فكرة ما بعد الحداثة الأساسية أن القيم الحداثية كالعقلانية والتنوير والتقدم.. الخ نشأت في محيط ميتافيزيقي، وبالتالي تأثرت به من حيث تحديده لمفهومي الخير والشر، فقامت هي أيضا بتحديد مفهومي الحقيقة والصدق، ووضعت شروطا وقواعد لهما، فرسمت للبشر طريقة تفكيرهم مسبقا، وضرورة السير على قواعد معينة حتى نصل للحقيقة (الحقيقة هنا غالبا ما تكون فردية أو شخصية).. وهذا ما عبر عنه هايدجر حينما قال ان الميتافيزيقا هي التي تقدم الوجود لنا بالصورة التي تريدها ونحن نتبعها في فهمنا للوجود.. وانتقد فرويد فكرة الحداثة لأنها تقوم علي العقل والعقلانية علما بأن اللاشعور يقوم بدور أكبر من العقل في توجيه سلوك البشر. والمعبر الأكبر عن حقيقتهم، فالعقل يكسب الأشياء منطقا ليس منطقها، بل منطق تصورات مسبقة وقوالب محددة سلفا.. فيما رأي فوكو أن فكرة الحرية ستظل مكبلة بالتصورات المسبقة سواء الميتافيزيقية او الفلسفية التي حددت المفاهيم أي اغلقتها، ولن تتحقق الحرية بصورتها الكاملة سوي عن طريق ما بعد الحداثة.. والحقيقة أن كثير من العلوم الإنسانية الآن كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والسياسة والثقافة والادب تسير جميعها نحو ما تحدث عنه نيتشه وهو أن الحقيقة ليست ثابته، وما قال به فرويد أن العقل ليس هو معيار اثبات المعني، ولذلك تحفظ ليوتار كثيرا على مقولة الواقع الذي يبدو امامنا.. وهو ليس واقعا بالمرة.. فلا يوجد واقع يشترك فيه الجميع.. إن الواقع هو الفرد واختياراته الخاصة فقط. ولذلك صار الفرد – لا الجماعة ولا الطبقة ولا البنية الاجتماعية – هي مرشد البحث الأساسي في العلوم الإنسانية. ان الفردانية كانت موجودة بوضوح في أفكار الحداثة، ولكنها انفردت بالمشهد في أفكار ما بعد الحداثة، ولذلك كان من الضروري أن يتم تحرير المفاهيم التي شيدت او ارتسمت في عصور بناء تصورات للجماعة أو للطبقة، وربما هذا التحول يفسر هوس إطلاق المفاهيم والمصطلحات الجديدة بصورة غير مسبوقة.

4- هناك من يري ميلاد ما بعد الحداثة تم في لحظة اعلان نيتشه لموت الاله في كتابه العلم المرح.. ويعني به موت كل القيم والانساق المعرفية المنبثقة عنها.. واعتبار السؤال الميتافيزيقي هو جوهر التفلسف.. أي موت الحقيقة. وهناك من يري أن تدشين المصطلح ظهر مع ليوتار في كتابه الوضع ما بعد الحداثي عام 1979. وهذا ما سنتحدث عنه في الغرفة القادمة.. ولكن دعونا نتوقف الأن عند نيتشه، ودوره في تدشين أفكار مابعد.. عموما.. وفي تقديري أن نيتشه - وتلاميذه بعد ذلك - هو الشرط الذاتي لظهور ما بعد الحداثة، اما الشرط الموضوعي فهو الصورة التي يتمظهر بها نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر.. لقد ظل نيتشه قابعا على أرفف المكتبات وفي قاعات البحث العلمي بدرجة متفاوتة، حتي حان وقته، فتم استدعاء مقولاته، وإعادة قراءته وترجمته بصورة موسعة، في الستينيات بدرجة ما، ولكنه حضر في المشهد الثقافي العالمي ابتداء من التسعينيات بصورة مدهشة.


5- ولكن يبقي السؤال، إذا كان نيتشه هو فيلسوف المرحلة، فماذا عن ماركس؟ ما الذي حدث معه؟ ..اهتم ما بعد الحداثيون بهؤلاء المشاغبين في تاريخ الفكر الفلسفي، علي رأسهم نيتشه، ولكن ماركس أيضا كان احد هؤلاء الذي انشغل بنقد ونقض الكثير من المقولات الفكرية للرأسمالية، او للحداثة الغربية، فاستهلموا منه أجزاء وتركوا اخري، مارسوا هواية اللعب الحر معه، كان ماركس في الفكر الغربي ذو خصائص معينة، فهو قد تم التحفظ عليه من قبل التجربة السوفييتية، وهم تمردوا عن هذا التحفظ وهذا التفسير الميكانيكي لمقولاته، فقاموا هم بإعادة قراءة ماركس متحررا من تطبيقاته العملية ورؤاه الثورية، باعتبارها مفكرا ناقدا لا ثائرا، ساعدهم علي ذلك فهمهم لماركس باعتباره نسقا مفتوحا، قابل للتطوير.. وهنا كانت قراءة ماركس الغربية بها سمات الفكر الغربي وهو النسبية في الفهم، فتم تفكيك ماركس، والاستفادة فقط بأجزاء من مشروعه الفكري دون الأخرى منها ( النزعة النقدية – مفهوم الانسان – نقده للتصورات المثالية والميتافيزيقية – أنسنة كافة العلاقات حتي علاقة الانسان بالطبيعة ) ولكنهم تركوا الكثير أيضا مثل الصراع الطبقي وضرورة تجاوز الرأسمالية، ونظرية الثورة بوصفها ضرورة ..الخ.. كان لهذا التقسيم أثره البالغ على اتساع رؤية ماركس وتشتت بعضها أيضا بوضعها في مصفوفة ما بعد الحداثة.

6- ومن وجهة نظري الماركسية أري.. أن الفارق بين ما بعد الحداثة والحداثة هو اختلاف في الدرجة لا في النوع.. بمعني أن أفكار ما بعد الحداثة هي التعبير الأمثل عن الرأسمالية في مرحلتها المعاصرة مرحلة الليبرالية الجديدة، ولا يمكن القول بما بعد حداثة علي وجه الدقة في ظل بقاء الرأسمالية، لانها جزء من الحداثة وركن من أركانها، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما.. فالحداثة والرأسمالية مرتبطتان بعضهما ببعض، ولا يجب فصلها لأننا بذلك نفصل بين ما هو تحتي وما هو فوقي بصورة مختلقة.. فعندما نريد تدشين مصطلح ما بعد الحداثة يجب ان يسبقه أولا تدشين مصطلح سابق عليه سبق منطقي وواقعي وهو ما بعد الرأسمالية.. وليس معني أن تصدر مؤلفات بعنوان ما بعد الحداثة، أننا صرنا في مرحلة عالمية تقول بذلك، إن الفكر نعم انعكاس للواقع، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون انعكاسا كليا لهذا الواقع، فعندما تمت العودة لنظام المقايضة في السلع في أزمة 1929، لا يعني ذلك أننا عندنا الي عصر ما قبل النقود، يعني أن مراحل الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي تؤدي الي ظهور تصورات مختلفة، ومؤلفات ما بعد الحداثة هي نتاج حالة اضطراب اقتصادي وسياسي في العالم بعد الحرب العالمية أدت الي دخول الانسان الأوربي المعاصر في أزمة، انتهت برفض الكل رفض العقل، والعمل علي تجاوزه بتصورات المابعد... وانطلاقا من هذا التصور أري ان ما بعد الحداثة تعني بالضرورة ما بعد الرأسمالية.. ومن هنا يحل ماركس في المشهد ويطل علينا من خلف حجاب.

7- إنني كماركسي، ومن وجهة نظري الشخصية ، أري أن الحداثة لم تزل شروطها الموضوعية قائمة، علي الأقل في أجزاء كبيرة من العالم النامي ونحن في القلب منه، فنحن لم نزل في حاجة الي العقلانية والتنوير والتقدم الاجتماعي، والصراع الطبقي، وتحسين ظروف الحياة، نحن لم نزل في حاجة الي الحرية والدولة القومية، وقوانين الرعاية الصحية والاجتماعية، نحن في حاجة الي بناء انسان الحداثة، والي فك قيود التبعية وبناء تنمية مستقلة متمحورة حول الذات، نحن في حاجة الي سوق عمل بمعناه الكلاسيكي، يضمن حقوقا اقتصادية لأفراد المجتمع، نحن في حاجة الي وقف نزيف الانسحاق نحو الغرب ومقولاته التي تتوافق مع رغبته في الهيمنة الاستهلاكية الراهنة.. باختصار نحن نحتاج الي انتاج ذواتنا الجماعية والفردية، وأن نحقق حداثتنا، نحن، بمواصفاتنا نحن، وسماتنا نحن، وانطلاقا من تلك الحدود التي نقف عندها، تلك الحدود التي جعلتنا أمة تستهلك بلا وعي، تستهلك الأفكار ما بعد الحداثية كما تستهلك السلع غير الضرورية. ان مشروع الحداثة – كما يقول هابرماس- لم يزل لديه ما يقدمه للبشرية.

..... يتبع