المناظرات الفكرية صراع النخبة والجماهير


إبراهيم مشارة
2022 / 4 / 12 - 00:50     

في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية وهو تاريخ خصب متعدد ومتنوع،شمل شتى العلوم والمعارف من دينية ودنيوية يقف المتأمل فيه على حالة فكرية لا تمثل إلا حالة الحوار والنقاش والجدل والمناظرة ، والحضارة إذا بلغت أوجها تعددت المشارب والمصادر وافتن الناس طرقا في التفكير والعيش وممارسة الحياة أقل ما يقال عنها أنها حالة إبداع في ممارسة الحياة تبتعد عن النمطية والتكرار.
.والثقافة الإسلامية كما يرى المستعرب الألماني توماس باور ثقافة التعدد في المعنى والتنوع والانفتاح والتأويل وذلك ما أتاح لها هضم الأفكار والثقافات المجاورة واحتواء العادات والتقاليد - ما لم تتعارض مع العقيدة - لتلك الشعوب من المحيط إلى الخليج بل إلى تخوم الهند والصين.
ومادام القرآن حمال أوجه لا ينطق بل ينطق به الرجال فهو أفق للتأمل غني الدلالة ينفتح على التأويل بما أنه النص الأول المؤسس للإسلام ولحضارته .ولا شك أن الاختلاف بين المسلمين في مسألة الإمامة ومن هو أحق بتولي أمور المسلمين زاد في حدة الخصام والجدل وعلى إثر هذا الجدل نشأت الأحزاب الإسلامية الأولى التي وصل الخصام بينها إلى حد الاحتراب كما حدث في موقعة الجمل وصفين ،محوران فتحا الفكر والثقافة الإسلامية على التعدد الدين والسياسة ، وتضيق الفروق بين ما هو سياسي وديني فالدين سياسة والسياسة دين .
ويحتفظ التاريخ بقصص هذه المناظرات بين الشيعة والسنة مثلا وبين الخوارج والسنة ومن تلك المناظرات مناظرة الخوارج للخليفة عمر بن عبد العزيز في قضية الخلافة ويقال أن الخليفة فكر في تركها شورى وعلى إثر ذلك تم تسميمه من قبل البلاط الأموي.
ومن المناظرات الفلسفية ما كان بين الإمام أبي حامد الغزالي وابن رشد فقد انتصر ابن رشد للعقل والتفكير والفلسفة التي رأى أنها توصل إلى الحق وضمن أطروحته الجدلية كتابه "تهافت التهافت" الذي رد به على طرح الإمام الغزالي المعنون ب "تهافت الفلاسفة" حيث حمل الغزالي على الفلسفة والفلاسفة ورأى أنها قاصرة والسبيل الوحيد لإدراك الحق هو النص أو الوحي.
وفي المجال الأدبي تلك المناظرة المشهورة بين أبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني وكان الخوارزمي ملء السمع والبصر فهو الموسوعة الأدبية العربية في ذلك الوقت والحجة في اللغة وشواردها بينما كان الهمذاني شابا في مقتبل العمر لكنه كان آية في الذكاء والحفظ والنبوغ وطمح إلى الشهرة فلم يرها تتأتى إلا من طريق مناظرة الخوارزمي فناظره وغلبه واشتهر أمره وذاع صيته وعلى إثر الحزن والكمد مات الخوارزمي عقب هذه المناظرة.
وفي العصر الحديث حيث انفتح العالم العربي على الفكر الغربي واتصل بأوروبا ثقافيا وحضاريا واقتصاديا ظهرت دعوات التجديد والتنمية والنهضة الشاملة بين مشروع ليبرالي يستلهم أثرى ما في الثقافة العربية والإسلامية ويقتبس فكر وفلسفة الأنوار العلمية والسياسية ووصل الأمر ببعض المفكرين إلى حد الدعوة إلى حد القطيعة المعرفية مع الماضي ومشروع يساري يندغم في النضال العالمي العمالي ومشروع إسلامي تبنته جماعات من المفكرين وتيارات إسلامية وكان هذا طريقا كرس الاختلاف والنقاش والجدل والخصومة وانتهى في بعض فصوله إلى المآسي.
ومن أشهر المناظرات الدينية في الثمانينيات المناظرة الفكرية بين فؤاد زكريا كمدافع عن فلسفة الأنوار والطابع المدني للدولة والشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي كمناقضين لطرح زكريا واللافت في هذه المناظرة هو أن الجماهير كانت مع الشيخين تناصر وتؤيد وتكبر ولا تناقش وتفهم وتنقد واشتكى فؤاد زكريا من رفع الشيخ القرضاوي لصوته واحتج الأخير أن صوته في الحق جهير وهكذا احتكر الشيخ الحق وادعاه في صفه ووجد زكريا نفسه معزولا أمام جماهير تناصر وكأنها في ملعب كرة قدم حيث المدرجات كلها أهلاوية أو زملكاوية.
ويحتفظ التاريخ في التسعينيات بمناظرة أخرى شهيرة دفع فيها فرج فودة حياته ثمنا لفكره وموقفه واعتراضه وصخبه فقد التقى في القاهرة على هامش معرض القاهرة للكتاب في مناظرة مع مأمون الهضيبي ومحمد عمارة وكان موضوع هذه المناظرة الدين والدولة ودافع فودة بحرارة عن الطابع الجمهوري في حين احتج عليه الآخران وخاصماه وجادلاه واللافت أيضا في هذه المناظرة وقوف الجماهير الحاضرة ضد فرج فودة وقد جاءت بأفكار مسبقة وخلفيات راسخة لا للتعلم والفهم وتنمية الحاسة النقدية ،والخطير في هذه المناظرة رمي فرج فودة بالمروق حتى انتهى به الأمر مغتالا علي يد أحد المتطرفين لينضم إلى سلسة طويلة في تاريخ الاغتيالات الفكرية ليس أولها الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي والحلاج وابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وحسين مروة ومهدي عامل وغيرهم.
وانضمت المرأة إلى مجال الجدل والنقاش والسجال الفكري ولا يختلف اثنان على تمرد نوال السعداوي وهي وإن كانت لا تمتلك ثقافة دينية عميقة ولا تعمقا في الثقافة العربية الكلاسيكية إلا أنها تخندقت في صف المدافعين عن المرأة والتنديد بذكورية المجتمع والتنديد بالإجحاف الذي طال المرأة منذ القديم واتهمت الفقهاء بصناعته ودعت إلى المساواة التامة بين الجنسين ولو اقتضى ذلك تجاوز الشرع باعتباره مرحلة تاريخية وتراكما معرفيا وكانت في قناعاتها تنتصر للحداثة وللإنسان وناموس التطور ونشطت كثيرا في مجال الدفاع عن المرأة من خلال المحاضرات والمناظرات والجمعيات النسوية في العالم برمته وقد شاركت في مناظرة شهيرة مع زوجها شريف حتاتة في مواجهة محمد عمارة وقد نظرت إليها الجماهير باستياء باعتبارها مارقة ولقد عمقت السعداوي النقاش حول المرأة وتجاوزت المناطق الحمراء بمسافات حيث أدانت ذكورية المجتمع حسب زعمها كما فندت التراكمات التاريخية ذات الخلفية الطبقية والاقتصادية واستراتيجية الهيمنة والاحتجاز الجنسي والإلحاق التي مارسها الذكر في حق الأنثى منذ ما قبل الإسلام.
كما انضم المفكر الجزائري محمد أركون إلى مجال السجال والجدال والمناظرة والنقاش ولم يكتف بما دبجه من مقالات وما ألف من كتب وهو المفكر الذي دعا إلى تجديد الفكر والخطاب الإسلاميين متأثرا بالحداثة الغربية وفي أحد ملتقيات الفكر الإسلامي اختلف مع الشيخين محمد الغزالي ومحمد سعيد رمضان البوطي خاصة حين دعا صراحة إلى ضرورة تجديد الإسلام لينسجم مع الحضارة الحديثة أو يكون التخلي عن الإسلام ثمن الدخول إلى ساحة الأنوار وهذا القول منه أجج الخصام ورمي من قبل الشيخين بالمرو ق وانتظر أركون تأييدا من الجماهير المثقفة والمتابعة ولكنه وجد نفسه وحيدا فشعر بالاغتراب وكانت هذه الحادثة سببا لعزوفه عن حضور هذه الملتقيات بل وقاطع البلد برمته وصرح بعد ذلك في مؤسسة الفكر العربي ببيروت أنه لم يعد يتحمس للمناظرة والنقاش والجدل مادام الأمر لا يتعدى قول ما قيل في سياق طويل من الاجترار والتكرار حد الملل والإملال.
وكانت دار الفكر السورية قد أدركت مخاطر فتح سجال ومناظرة بين مفكرين في حضور الجماهير وما يمكن أن تجره تلك المناظرة إلى الشعبوية والتحول إلى حلبة صراع آو مدرجات تشجيع ومناصرة فتذهب الغاية المرجوة من فن المناظرة فنظمت مناظرة عن بعد بين المفكر طيب تيزيني والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي حول موضوع الدولة والدين وكتب تيزيني وجهة نظره المؤيدة للخيار المدني ورد عليه كتابيا البوطي ليرد عليه تيزني وهكذا ثم طبعت تلك المناظرة في كتاب مطبوع ومتداول .
وهناك أشكال أخرى من فن المناظرة ليس بالضرورة أن تكون في الأستوديو وجها لوجه ويتولى التلفزيون نقل الوقائع إلى الجماهير المتابعة ففي الصالونات الأدبية عرفت ألوان من فن المناظرة خاصة في قضية الصراع بين القديم والجديد في الأدب بين طه حسين والعقاد من جهة والرافعي من جهة أخرى كما عرفت الصحافة الأدبية هذا الفن عبر المقالات المتعددة التي كان يكتبها أولئك الأعلام وصراعهم وسجالهم الفكري والأدبي الذي كان يسف أحيانا ولا أدل على ذلك من الألفاظ النابية والكلام الجارح أحيانا وقد جمع الرافعي مثلا مقالاته التي ساجل بها العقاد في كتاب جعل عنوانه "على السفود" والعنوان ذاته يحيل على التحدي ونزعة السادية حد التلذذ بشي جلد العقاد.
تراجعت في وقتنا الحاضر هذه السجالات الفكرية والنقاشات الحضارية وهذا يعكس صورة التأزم في الثقافة العربية المعاصرة فهناك الإخفاق السياسي والاجتماعي والتراجع العلمي وسطوة الفكر الديني المتزمت الذي يدين كل أشكال التعدد والانفتاح والتأويل ويزيد الواقع السياسي بانتفاء مشروعيته وانتفاء مصداقيته في تأزم الفعل الثقافي واختصار الثقافة في الأكاديمية والمباركة والولاء واقتسام الريع كما أن الثورة الرقمية والانفتاح الاقتصادي الريعي كرس في عالمنا العربي ثقافة الاستهلاك والاستلاب بالصورة وبرزت نجومية المعلقين الرياضيين والفنانين ولاعبي الكرة والتنس وزادت تقنية اليوتيب ووسائل التواصل الاجتماعي في تعميق الردة الفكرية والثقافية بالتركيز على ما هو سطحي وعرضي أو فضائحي كما أن مختلف أشكال القرصنة والسرقة الفكرية والأدبية كرست الانحطاط الفكري الذي نعيشه وهذا بدوره انعكس على التربية والتعليم ويمكن معاينة ذلك بعزوف كثير من المتعلمين عن الدراسة بحجة أنها لا تضمن مستقبلا ولا دخلا مجزيا أو اختيار التخصصات المربحة ثم التسرب المدرسي الرهيب وقد غدا مشكلة عويصة وأكبر تحد هو انهيار التعليم العام لفائدة الخاص حيث يدفع الأولياء دم أفئدتهم من أجل تعليم أولادهم لا تعليما يتيح لهم الحاسة النقدية ولكن التعليم التقني المنخرط في التوجه التقني أي منظومة اليد لا منظومة الرأس واليد أي علم بلا ثقافة وهو ما نلحظه في جحافل المتخرجين من أطباء ومهندسين ومحامين وتقنيين يمتلكون مهارات تقنية بلا خلفية فكرية وثقافية.وهذه الطبقة بعيدة على أن تشكل أنتلجنسيا وتؤثر في المجتمع وكل هذا يعكس أزمة عميقة في المجتمع العربي يمكن تسميتها بأزمة وجود في عالم متعدد رهيب التطور العلمي والتقني والتكتل الاقتصادي والمنافسة الشرسة.