أميركا اللاتينية في منعطف يساري جديد. تشيلي،كولومبيا،البرازيل


حازم كويي
2022 / 4 / 7 - 15:06     

أميركا اللاتينية في منعطف يساري جديد.
تشيلي،كولومبيا،البرازيل
ترجمة وإعداد: حازم كويي
عندما تولى غابرييل بوريك رئيس تشيلي الجديد من التحالف الانتخابي اليساري، منصب الرئاسة من سلفه اليميني المحافظ سيباستيان بينيرا في 11 مارس، فإن ذلك يمثل بداية تحول جديد نحو اليسار في أمريكا اللاتينية، حتى في تلك البلدان التي حكمها اليمين تقليديا، أو على الأقل في السنوات الماضية. منذ الاحتجاجات الحاشدة في أكتوبر 2019، والتي اندلعت بسبب الزيادة في أسعار تذاكر المترو، تكشفت ديناميكية سياسية لا يمكن التنبؤ بها تقريباً في الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية، والتي تُشكك أساساً في النموذج الاجتماعي النيوليبرالي.
في كولومبيا أيضاً، كانت هناك إحتجاجات حاشدة ضد حكومة الرئيس اليميني إيفان دوكي العام الماضي، إن استياء أجزاء كبيرة من السكان،قد يؤدي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في مارس ومايو إلى الإنتصار أيضاً. لدى اليسار في البرازيل آمال مشروعة في إنهاء كابوس عهد الرئيس اليميني المتطرف جاير بولسونارو في إنتخابات أكتوبر هذا العام.
ولكن ما هي التحديات التي تواجهها السياسات اليسارية في ظل ظروف (ما بعد) وباء كورونا، والتي تتميز بالأزمة الاقتصادية وتزايد عدم المساواة والفقر؟ كيف تحارب التركيز المتزايد للثروة، واستغلال الطبيعة وتدميرها، ولكن أيضاً التبعيات الهيكلية على السوق العالمية؟ هناك شيء واحد مؤكد، أياً كان ما تقدمه الحكومات والقوى الداعمة لها، فسيكون ذا أهمية أبعد بكثير من البلدان التي تتجه الآن نحو اليسار.
تشيلي: بداية عهد جديد.
مع إنتخاب بوريك رئيساً في تشيلي، تم التصويت أخيراً على نظام التناوب بين حكومات يسار الوسط ويمين الوسط الذي ساد منذ نهاية ديكتاتورية بينوشيه في عام 1990. ولم يتقدم أي مرشح من أي من التشكيلتين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة. تمكن الناشط الطلابي السابق البالغ من العمر 36 عاماً وعضو البرلمان بالفوز الانتخابي الواضح المفاجئ على خصمه اليميني المتطرف خوسيه أنطونيو كاست، حيث حقق بوريك ما يقرب من 56 في المائة من أصوات الناخبين، وكاست 44 في المائة . أصوات بوريك كانت بشكل أساسي من الشباب والنساء مع نسبة المشاركة المرتفعة وبشكل غير عادي في الأحياء والمناطق الأكثر فقراً. من ناحية أخرى، لعبت التعبئة القوية للحركات النسوية دوراً رئيسياً. ووفقاً لتحليل عالمة الاجتماع التشيلية بيرينا فيريتي،فقد حصل بوريك أصواتاً من أجزاء غير المنظمة تقليدياً من السكان، والتي أصبحت مُسيسة في سياق الانتفاضات في نهاية عام 2019 وغالباً لا تعتبر نفسها صراحةً على أنها يسارية. بالإضافة إلى ذلك سعى بوريك أيضاً للحصول على دعم الأجزاء الليبرالية من المؤسسة، مثل الرئيسة السابقة ميشيل باتشيليت.
برنامجه في أجزاء كثيرة منه ديمقراطي أجتماعي كلاسيكي، يتوجب فيها إصلاح أنظمة الخصخصة للتعليم والصحة والمعاشات التقاعدية وتنظيمها بشكل أكثرعلنية. ولكن هناك أيضاً مطالب عديدة للحركات النسوية والبيئية في البرنامج. لأن المصالح الخاصة القوية يجب معالجتها من أجل تنفيذها، فهي راديكالية بكل معنى الكلمة في تشيلي النيوليبرالية.
يمكن الشعور بقوة النخب كل يوم في "أرض المعجزات الاقتصادية" المفترضة. يمتلك واحد في المائة من سكان تشيلي ثلث الثروة، بينما تعيش العديد من العائلات على 400 إلى 500 دولار شهرياً، في الوقت نفسه، يُظهر خصم بوريك، خوزيه أنطونيو كاست أيضاً مدى إنقسام المجتمع. ما يقرب من 60 في المائة من أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 70 عاماً،صوتوا لصالح كاست،الذين عاشوا في الفترة التي عانت من الديكتاتورية العسكرية بين عامي1973 و 1990.
إن الأداء القوي نسبياً لليمين لن يجعل حكم بوريك سهلاً، على الرغم من وجود أغلبية يسارية ضيقة في مجلس النواب، إلا أن الأحزاب اليمينية تهيمن على مجلس الشيوخ.
بغض النظر عن المقاومة المتوقعة، فإن حكومة بوريك، التي تضم للمرة الأولى في تاريخ تشيلي نساءاً أكثر من الرجال، تقترح مشروعاً يسارياً،ستكون بالتأكيد مستعدةً تماماً للدخول في صراعات مع مجموعات المصالح القوية. منهن على سبيل المثال، العالمة البارزة وعضو الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) ميسا روخاس وزيرةً للبيئة، وحفيدة الرئيس الاشتراكي السابق سلفادور أليندي، الذي أطاح به الجيش في عام 1973، مايا فرنانديز أليندي، وزيرةً للدفاع.
تأتي الدوافع التقدمية أيضاً من الجمعية التأسيسية في تشيلي، التي تم تشكيلها في يوليوالعام الماضي ومن المفترض أن تصوغ دستوراً جديداً في غضون عام.
تم إنتخاب جميع أعضاء المؤتمر البالغ عددهم 155 عضواً بشكل مباشر في مايو 2021،على عكس ما كانوا يأملون فيه، لا توجد أقلية معطلة لليمين السياسي. وبدلاً من ذلك، تم انتخاب العديد من المرشحين المستقلين في المجلس. رئيسة المؤتمرهي إليسا لونكون، وهي عضو في شعب مابوتشي الأصلي. ببساطة كان ذلك غير وارد في تشيلي قبل بضع سنوات فقط. تبدو المقترحات الخاصة بدستور جديد والتي تظهر في الاتفاقية ثورية بكل معنى الكلمة، وفقاً لهذا، يمكن أن تصبح مجالات التعليم والصحة والمعاشات التقاعدية قريباً حقوقاً عالمية في تشيلي، ويمكن تشكيل تشيلي باعتبارها "دولة متعددة القوميات"، مع تكريس حقوق الطبيعة. في الدستور سيتم إنشاء نظام اقتصادي واحد مختلط.
كولومبيا: تغيير تأريخي في القوة القادمة؟
قد يكون هناك تغيير تأريخي للسلطة في كولومبيا وشيكاً أيضاً، في 13 مارس، تمت إعادة انتخاب البرلمان (مجلس النواب ومجلس الشيوخ)، وفي 29 مايو سيجرى الاقتراع الأول للانتخابات الرئاسية. المرشح اليساري جوستافو بيترو مع تحالفه (التحالف التأريخي) يتقدم منذ فترة طويلة في أستطلاعات الرأي الوطنية. يتكون التحالف من أحزاب يسارية وأشتراكية ديمقراطية وشعوب الهندو وأحزاب مرتبطة قريبة لها. يمثل بيترو ديمقراطية أشتراكية يسارية كرئيس لحزب كولومبيا هيومانا. إذا فاز بالفعل، فسيكون أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا، كحدث تاريخي. بالإضافة إلى ذلك،في حالة فوزه، يمكن أن تصبح الناشطة البيئية وصوت اليسار التحرري في التحالف، فرانسيا ماركيز، أول نائبة سوداء لرئيس كولومبيا.
يسعى بيترو إلى أجندة يسارية للإصلاح الديمقراطي الاجتماعي، تركز في المقام الأول على إعادة التوزيع والضمان الاجتماعي والسلام والتحول الاجتماعي- البيئي. لدولة أتبعت لعقود من الزمن العقيدة النيوليبرالية سياسياً واقتصادياً والتي يتميز مجتمعها بأحد أعلى مستويات عدم المساواة في المنطقة، وسيكون ذلك بالفعل ثورة حقيقية. فالمشاريع الملموسة هي إصلاح ضريبي لزيادة العبءعلى الأثرياء وكبار ملاك الأراضي. الإ أن الإصلاح الضريبي الذي أُعلن عنه في ظل حكومة دوكي الحالية في ربيع عام 2021، وضع عبئاً أكبر على ذوي الدخل المنخفض،وهي أحد المحفزات لأشهر الاحتجاجات الاجتماعية العام الماضي.
في الوقت نفسه، يخطط بيترو لزيادة الإنفاق الاجتماعي وخفض ميزانيات الدفاع، بالإضافة إلى تشديد الرقابة العامة على أنظمة الأمن الخاصة، ولا سيما أنظمة الصحة والمعاشات التقاعدية. يتمثل الهدف المركزي والطموح في إعادة هيكلة الاقتصاد من أجل كسر إعتماد كولومبيا على إقتصاد المخدرات وإيجارات السلع والقطاع المالي. وينبغي تعزيز حماية المناخ والتنوع البيولوجي بشكل أكبر وإحياء عملية السلام.
في الوقت الحالي، ما زالت نتيجة الانتخابات مفتوحة رغم وضوح الاستطلاعات حتى الآن. بالإضافة إلى تحالف الميثاق التاريخي، يتنافس تحالفان حزبيان آخران وعدد من المرشحين المستقلين من أجل الحصول على مكان في القصر الرئاسي الكولومبي. يوحّد (مركز التحالف للأمل) القوى الليبرالية في الوسط السياسي. يبدو بديلاً عن "اليسار" و "اليمين" ويعدُ بتغيير سياسي معتدل. ومع ذلك، تشير الخلافات الداخلية وأرقام الاستطلاعات الأخيرة التي تزيد قليلاً عن 12 في المائة إلى أن فرصة التحالف ستكون ضئيلة للوصول إلى انتخابات الإعادة.
التحالف الانتخابي الثالث،(فريق كولومبيا)، يوحد اليمين المحافظ التقليدي في كولومبيا. في أحدث استطلاعات الرأي، فإن ما يقل 15 بالمائة يؤيدون هذا التحالف. لكن هذا لا يعني الكثير، لأن اليمين التقليدي لديه علاقات زبائنية قوية وقاعدة سلطة واسعة في المناطق الريفية والأبرشيات الإنجيلية والطبقة العليا. سترفض غالبية مجموعات الناخبين هذه التصويت لصالح بيترو في جولة الإعادة.
كما أنه من غير الواضح من سيدعم اليمين المتطرف، بشخصيته الرمزية، الرئيس السابق ألفارو أوريبي، وحزبه (المركز الديمقراطي). من الممكن أن يكون هناك تحالف مع رودولفو هيرنانديز والبالغ 76 عاماً، وهو عمدة سابق لمدينة بوكارامانغا، ومقاول بناء ومليونير. يقدم نفسه على أنه "دخيل" ، كتكنوقراط يرتدي سترة بيضاء يكافح الفساد بشكل فعال ولا ينتمي إلى المؤسسة السياسية. يشير إليه بعض المراقبين بإسم "ترامب كولومبيا". تحظى شعبوية هيرنانديز بشعبية خاصة بين الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم. في استطلاعات الرأي، يحتل حالياً المركز الثاني، وإن كان بهامش كبير، خلف(الحلف التأريخي).
يمكن أن تكون أنتخابات الإعادة على وجه الخصوص كارثة للتحالف اليساري.لأن بيترو يمثل شوكة ضد اليمين، لا يخلو اليسارمن الجدل بسبب خطابه الاستقطابي والشعبوي أحياناً. حيث كان بيترو عضواً في مجموعة حرب العصابات ((M19، وجلس لفترة طويلة في مجلس النواب لحزب(بولو ديموكراتيكو،القطب الديمقراطي) اليساري، ولاحقاً في مجلس الشيوخ. بين عام 2012 إلى 2015 كان عمدة بوغوتا. فهو يريد كسر قوة عصابات المخدرات،وهي مهمة شاقة. إذا كانت هناك جولة إعادة، فإن اليمين السياسي سوف يحشد كل القوى لمنعه، بغض النظرعمن يسابق ضده.
وهذا سبب آخر يعول بيترو على فوزه في الاقتراع الأول. ومع ذلك، لن يتمكن من تحقيق ذلك إلا بالأغلبية المطلقة. ولهذا يبحث بيترو أيضاً عن حلفاء في معسكر يمين الوسط، مثل لويس بيريز، الحاكم السابق لمقاطعة أنتيوكيا، معقل أوريبست ومسقط رأس الحركة شبه العسكرية الكولومبية. يمكن أن يجلب بيريز أصواتاً مهمة إلى بيترو،السؤال هنا، بأي ثمن؟ يؤكد المراقبون المقربون من التحالف، أن مثل هذه التحالفات لا تحدث بدون تنازلات وبالتالي تشكل تهديداً لمشروع اليسار. بدلاً من ذلك، من الأهمية بمكان حشد الأصوات في المعسكر الكبير من المترددين وغير المصوتين الشباب وأولئك الذين تم إستبعادهم سياسياً حتى الآن، على غرار ما تمكن بوريك من فعله في تشيلي.
البرازيل: "الديمقراطية مقابل الفاشية"
وأخيراً، في البرازيل، حيث سيتم إنتخاب رئيس جديد في أكتوبر، تشيرالدلائل هناك إلى إنعطاف يساري. والمؤكد بالفعل، أن الرئيس الاشتراكي الديمقراطي السابق لويز إينازيو لولا دي سيلفا، الذي حكم البلاد من عام 2003 إلى عام 2011، سيخوض صراعاً ضدالمتطرف اليميني جاير ميسياس بولسونارو، والمعروف للجمهورالبرازيلي منذ فترة باسم "لولا مقابل بولسونارو" أو "الديمقراطية مقابل الفاشية". وللتذكيرعن الانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2018، راهن حزب العمال آنذاك على لولا، ومع ذلك و بعد أشهر من الجدل، أبطلت المحكمة العليا للانتخابات ترشيحه قبل تسعة أسابيع من التصويت الأول على مزاعم الفساد (التي تبين أنه لا أساس لها إلى حد كبير في منتصف عام 2019)، وتم وضع لولا لاحقاً قيد الإقامة الجبرية. وخسر بديله المرشح عن حزب العمال فرناندو حداد، الذي خاض الانتخابات في وقت قصير ذلك الوقت، في الاقتراع الثاني بنسبة 45 إلى 55 في المائة من الأصوات أمام بولسونارو.
السجل السياسي لحكومة بولسونارو كارثي من جميع النواحي. وبحسب الأرقام الرسمية، توفي 630 ألف شخص بسبب جائحة كورونا في البرازيل، وهو أعلى رقم في العالم بعد الولايات المتحدة. وهي صدمة أجتماعية كبيرة. من الناحية السياسية،البلاد تضررت بشدة. بولسونارو الذي تولى منصبه قبل أربع سنوات،كان وزيراً للدفاع عن الديكتاتورية العسكرية في البرازيل التي حكمت من(1964-1985)، وهو مُتهم الآن بسوء الإدارة السياسية والفساد أثناء الوباء. في غضون ثلاث سنوات، أقال ثلاثة وزراء صحة وقدم الوزير الرابع أستقالته بنفسه. وبدأت سلسلة من إلأجراءات لعزله، ألإ أنه هدد القضاء ومؤسسات الدولة الأخرى مراراً وتكراراً. أفراد عائلته شاركت في عمليات الفساد. أضافة لذلك أصبح الاقتصاد يمرُ بأزمة خطيرة. عاد الفقر والجوع والتضخم والبطالة إلى مستوى لم يكن الكثيرون يعتقدون أنه ممكن بعد سنوات الازدهار الاقتصادي أثناء حكم (لولا) أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. إن الأجندة الحالية المشتركة لليساريين البرلمانيين والحركات الاجتماعية والنقابات العمالية وكذلك التيارات العريضة للوسط السياسي واضحة جدًا "Fora Bolsonaro"وتعني " بعيداًعن بولسونارو".
التحالف الواسع، يتكون أساساً من حركات مدنية مثل حركة المشردين، والحركة النسائية، والحركات الطلابية والسود، وكذلك النقابات العمالية وحركة بلا مأوى، التي حشدت الاحتجاجات المناهضة لبولسونارو.حيث ينصب تركيزهم على القضايا الاجتماعية مثل الإسكان، الجوع والعمل، ولكن أيضاً على تآكل الديمقراطية في عهد بولسونارو،وعدائه للنسوية وعنصريته.
يستند اليسار البرلماني في حملته الانتخابية أيضاً إلى المشاعر المعادية لبولسونارو المنتشرة في البلاد. وكما هوعلى غرار كولومبيا بالدخول في تحالفات إستراتيجية تصل أحياناً إلى معسكر يمين الوسط. خلال الحملة الانتخابية تم تصوير (لولا) على أنه الشخص الذي سيطرد بولسونارو من منصبه. يقدم نفسه كرجل دولة، كجدٍ لا يتخلى عن عائلته (السكان الفقراء) كمدير للأزمات، وديمقراطي ذو شهرة دولية، كشخص يضع حداً للاستغلال والبطالة. ومع ذلك، في الوقت نفسه، لا يريد إخافة الشركات التي ترغب في الاستثمار في البلاد. فيما يتعلق بالمحتوى، عوامل أستمراريته تعتمد على قدر كبير للفترتين من ولايته من 2003 إلى 2011 من إنها ديمقراطية أجتماعية كلاسيكية تتعلق بالتقدم الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية للجميع، وإضفاء الطابع الرسمي على العمل.
تلعب القضايا البيئية دوراً ثانوياً إلى حد ما. صحيح أن قاعدة (لولا) السياسية أصبحت اليوم أكثر تنوعاً وتعددية مما كانت عليه في أوائل القرن الحادي والعشرين، لكن في الحملة الانتخابية تختفي هذه التعددية بشكل متزايد خلف المرشح، الذي من الواضح، أن الحركات تقبله أستراتيجياً. وفي حالة لم يتغير شيء في إستطلاعات الرأي حتى الآن، وإذا لم يحدث شيء خطير ل (لولا) يمنع ترشيحه، فقد يفوز في إنتخابات أكتوبر بأغلبية مطلقة في الحملة الانتخابية الأولى.
تعلم من الأخطاء القديمة.
أحدى التحديات التي تواجه غابرييل بوريتش التشيلي، وكذلك غوستافو بيترو الكولومبي المحتمل والبرازيلي لولا دي سيلفا، في متابعة أجنداتهم الإصلاحية هو التعلم من نقاط الضعف والأخطاء التي أرتكبتها الحكومات التقدمية السابقة. ابتداءاً من الانتصار الانتخابي لهوغو شافيز في فنزويلا، والعديد من دول أمريكا اللاتينية الذين تولوا السلطة، في البرازيل والأرجنتين وبوليفيا والإكوادور وأوروغواي وباراغواي، من نهاية عام 1998 حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
أولاً ، كان الرؤساء مثل إيفو موراليس في بوليفيا أو رافائيل كوريا في الإكوادور يمثلون النظرة المحافظة الرجولية للمجتمع. وواجهت القضايا النسوية أوقاتاً عصيبة في ظل حكمهم. لم يتم تعزيز حقوق السكان الأصليين(الهنود) إلا بشكل محدود، وأخضعت حماية البيئة "لمتطلبات التنمية".
ثانياً، هيمنت على معظم حكومات يسار الوسط في الموجة الأولى فكرة يسارية تقليدية مفادها أنه يمكن إعادة بناء المجتمع "من أعلى" من خلال تولي سلطة الحكومة. كان هذا مدعوماً بتعايش الزعماء التقليديين في أمريكا اللاتينية، أي نظام السلطة السياسية الموجه نحو زعيم "قوي"، ونظام رئاسي مفرط راسخ مؤسسياً. ومع ذلك، فقد تم التقليل من أهمية إستمرار توطين أجهزة الدولة. يؤكد النقاد دائماً،أنه كونك في الحكومة لا يعني أنك مسيطر على الدولة وأنه يمكنك أستخدامها لإعادة هيكلة المجتمع. مثل هذا المنظور يستسلم لوهم وجود بيروقراطية دولة عقلانية وموالية إلى حد ما تلتزم بإرشادات القيادة السياسية. ومع ذلك، فقد تجاهل هذا هياكل الدولة الزبائنية وكذلك علاقاتها الوثيقة مع النخب الاجتماعية والاقتصادية ومجموعات رأس المال العابرة للحدود الوطنية، فضلاً عن الفساد المتأصل في بنيتها.
أدى هذا الفهم التقليدي للدولة بشكل قاتل إلى قيام حكومات يسار الوسط بمنع إنتقاد سياساتها من جانب الحركات الاجتماعية والأكاديمية وأيضاً من صفوف أحزابها السياسية. ذهب هذا أحياناً إلى حد تجريم الحركات بدلاً من تحويل ميزان القوى الاجتماعي والخطاب في التحالف معها إلى اليسار. وبدلاً من ذلك، تشبثت الحكومات "التقدمية" بالمفاهيم التقليدية لـ "التقدم" و "النمو" والفكرة القائلة بأن الطبيعة مورد يجب إستغلاله. أي شخص ينتقد هذا التوجه "المؤيد للتنمية" سرعان ما أصبح معارضاً في التفكير الشعبوي "الأسود والأبيض" لمن هم في السلطة. وقد أثر ذلك كثيراًعلى الحركات النسوية أو البيئية أو الاجتماعية التي تهدف إلى الدفاع عن حقوق السكان الأصليين وأقاليمهم. غالباً ما شجبت الحكومات المخاوف البيئية باعتبارها "خاضعة لسيطرة قوى أجنبية" وفي نفس الوقت روجت لضرورة ضخ النفط "حتى آخر قطرة" وأن العواقب البيئية،التي تم التقليل من شأنها، يجب قبولها كأضرار جانبية . كلما تمت صياغة نقد هذه السياسة بشكل أوضح، أعتمد قادة الدولة والحزب الأكثر "تقدمية" مثل شافيز وموراليس وكوريا على نصوص المبادئ التنظيمية اللينينية.
في جوانب مهمة، يمكن مقارنة الوضع الحالي في أمريكا اللاتينية بالكوكبة التي قدمت "دوراً تقدمياً" قبل 20 عاماً. كمافي ذلك الوقت، حين رأت القوى اليسارية في العديد من البلدان من إستنفاد الليبرالية الجديدة في السياسة وعدم قدرتها على التعامل مع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. واليوم، تتشكل هذه الأزمات وتتفاقم بفعل وباء كورونا.وظهرت في السنوات القليلة الماضية، مجموعة متنوعة من الحركات الاجتماعية المناهضة للنيوليبرالية، والتي تعد شرطاً أساسياً لنجاح السياسيين اليساريين.
ومع ذلك، في ضوء التطورات في تشيلي، والتحالف الانتخابي التعددي (الحلف التأريخي) في كولومبيا والحركات التحررية الواسعة التي تدعم (لولا) في البرازيل، سيكون من الخطأ توقع ما حصل قبل 20 عاماً في ذلك الوقت، حتى لو كانت الحكومات "التقدمية" التأريخية والحالية (كما في بوليفيا تحت حكم لويس آرس، خليفة إيفو موراليس) ينظر إليها من قبل الفاعلين السياسيين اليوم بشكل أيجابي.
نحن نفترض أننا في تشيلي وربما في كولومبيا خلال بضعة أشهر نتعامل مع كوكبة جديدة نوعياً وليست مكررة ل"الدورة التقدمية" اللذان لم يكونا جزءاً منها على أي حال. ومن ناحية، يرتبط هذا باضطرابات جائحة كورونا، والتي كان لها تأثيرات مختلفة جداً في القدرة على التعبئة الاجتماعية، في تشيلي كانت تميل إلى إضعاف الحركة فيها، وعملت كمُسرِّعٍ للحرائق في كولومبيا وبقوة أكبر. والمزيد من الاحتجاجات الراديكالية.
حالياً يعاني العديد من الأشخاص بشكل مباشر من أن أنظمة الرعاية الصحية المُخصخصة أقل ملاءمة للتعامل مع الوباء من أنظمة الرعاية الصحية العامة المجهزة جيداً، والتي نادراً ما توجد في أمريكا اللاتينية. بالإضافة إلى ذلك، يوضح الوباء إلى أي مدى تولد العلاقات البطرياركية بين الجنسين عدم المساواة وتُديمها. وهذا يفتح فرصاً للإصلاحات الاجتماعية الهيكلية،المدعومة من الغالبية الواسعة، التي لم يتم التعامل معها من قبل الحكومات "التقدمية" السابقة.
من ناحية أخرى، تغطي الحركات الاجتماعية واليسار السياسي طيفاً أوسع بكثير من القضايا اليوم، مما فعلوه في بداية القرن الحادي والعشرين. تعمل حركات اليوم الواقعة تحت ضغوط القمع على تسييس خطوط متعددة وتربط بين المدينة والريف.هم صغار السن، وبغالبية نسوية متعددة، أكثر أصالة، وأكثر تحرراً مثل الهندو وأصبح الأفرو-لاتينو أكثر بيئية. تلعب الأجيال الشابةعلى وجه الخصوص، التي لم تَختبر الديكتاتورية العسكرية في تشيلي، على سبيل المثال، والحركات النسوية دوراً مركزياً.
ستجد الحكومات الجديدة صعوبات في الحد من التفاوتات الاجتماعية الشديدة بينما تسعى في نفس الوقت إلى إعادة هيكلة الاقتصادات السياسية للبلدان. وتستند هذه في المقام الأول إلى إستخراج الموارد، أي استغلال المواد الخام الأحفورية والزراعية والمعدنية والغابات للبيع في السوق العالمية، والتي ترتبط بالزراعة الأحادية، والاستغلال المفرط للأراضي وتدمير التنوع البيولوجي.
خاصة في ظل ظروف السوق العالمية المتغيرة، أي الطلب العالمي المتزايدعلى المواد الخام، مما يؤدي إلى إرتفاع الأسعار. تكتسب الحكومات "التقدمية" واليسارية أيضاً الى مساحة أكبر للمناورة فيما يتعلق بسياسة التوزيع. خلال المرحلة الأخيرة من طفرة المواد الخام من حوالي 2003 إلى 2014،جرى استخدام هذا الدخل المرتفع لتوزيع الموارد على الفقراء أو لتوسيع البنى التحتية، ومع ذلك لم يروجوا لبدائل للنموذج الاقتصادي والتنموي المعتمد على السوق العالمية والمدمر للطبيعة، يواجهون صعوبة تغييرتوازن القوى الاجتماعي.
خطر الاستخراجية الخضراء الجديدة
سيكون هذا هو الاختلاف النوعي بين السياسة التقدمية "الوحيدة" والسياسة اليسارية التحررية بالفعل. سيبدأ الأخير مبادرات جادة لإعادة الهيكلة الاجتماعية- البيئية للاقتصاد والمجتمع. وهذا يتطلب تغييراً في الملكية وعلاقات القوة، والتعبئة الاجتماعية والتمكين، ودمقرطة الاقتصاد والمجتمع. سيتعين على الحكومات اليسارية أخيراً مواجهة "مفارقة أمريكا اللاتينية" التي تنتج عن حقيقة أنها تظل في السلطة من خلال نموذج اقتصادي مدمر ومسيطر، لا سيما عندما تكون ظروف السوق العالمية مواتية نسبياً، لأنه من خلال إعادة توزيع الإيرادات من تصدير المواد الخام التي تتحدى المطالبات الاجتماعية المشروعة يمكن أن ترضي غالبية السكان. من ناحية أخرى، فإنهم بذلك يعمقون النموذج الاقتصادي الاستخراجي بدلاً من تغييره جذرياً، وبالتالي يرهنون الظروف المعيشية والحيز الاقتصادي للأجيال القادمة لتحقيق أهداف سياسية قصيرة المدى.
هذه المفارقة مسيسة إلى حد كبير حالياً في تشيلي ويتم التعبير عنها على سبيل المثال، في حقيقة أن حقوق الطبيعة يجب تكريسها في الدستور الجديد. يعتمد الاقتصاد والميزانية الوطنية في تشيلي إلى حد كبير على الاستخراج وإيجارات المواد الخام- ليس أقلها بفضل احتياطيات البلاد الضخمة من النحاس والليثيوم، وكلاهما من المواد الخام الرئيسية لتوسيع التنقل الكهربائي. خلال طفرة السلع الأخيرة في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، جاء ما يقرب من 30 في المائة من إجمالي الإيرادات الحكومية من هذا القطاع،
ومن غير المرجح أن تنخفض هذه التبعية في المستقبل، لأنه منذ نهاية عام 2020، أصبحت أنواع المواد الخام الملخصة في مؤشرات الأسعار أكثر تكلفة مرة أخرى، وهذا ينطبق على المعادن الصناعية مثل النحاس والنيكل والقصدير والمعادن الثمينة مثل الذهب والفضة وكذلك المواد الخام الزراعية والطاقة. سعر طن من النحاس على سبيل المثال، يبلغ حالياً حوالي 9900 دولار أمريكي، وهو أعلى سعر له منذ سنوات. في المقابل، في ذروة طفرة السلع منذ حوالي عشر سنوات، كان سعر طن من النحاس 5900 دولار أمريكي في المتوسط على مدار العام. يوضح هذا أن شروط الإطار العالمي لاستمرار النموذج الاستخراجي أفضل من أي وقت مضى،على الأقل بالنسبة لشيلي.
أسباب الزيادة الحالية في الأسعار هي الزيادة المُتجددة في الطلب على السلع الصناعية في الصين والدول الصناعية الغربية وتوقع طفرة في النمو بعد الوباء. لكن البرامج الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي وكذلك الولايات المتحدة تؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار المعادن مثل النحاس. وفقاً لذلك، تتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) زيادة الطلب على الليثيوم 43 مرة بحلول عام 2040 وعلى النحاس 28 مرة مقارنة بعام 2020.
من الممكن أن يكون الطلب المتزايد على المواد الخام للاقتصاد "القديم" وإعادة الهيكلة "الخضراء" للاقتصاد في المراكز العالمية الرأسمالية الثلاثة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، هما الآن الأساس لدورة عظمى جديدة في أمريكا اللاتينية لمرحلة من الاستخراج "الأخضر" ينصب التركيز بشكل متزايد على "مواد التشحيم" التي تقود اقتصاداً صديقاً للبيئة ومكهرباً عالي التقنية. من بين هذه الدول، شيلي وبوليفيا والأرجنتين وكولومبيا والبرازيل،التي لديها الكثير.
تتشكل مجموعة واسعة من المقاومة ضد هذا النوع الجديد من التراكم من خلال أزالة الكربون،لاسيما في الأماكن التي يتم فيها أستخراج المواد الخام،لأنه من المتوقع بالفعل أن الظروف المعيشية لقطاعات الريف والسكان الأصليين،ووجود أحتياطات هامة من المياه العذبة والبيئة الفريدة وكذلك التنوع البيولوجي في أمريكا اللأتينية،التي ستتحول لغنيمة التحول "الخضر"للمراكز الرأسمالية.
سيكون التحدي الكبير الذي يواجه الحكومات اليسارية في أمريكا اللاتينية في عشرينيات القرن الحالي،هو إعادة هيكلة الأقتصاد الموجه نحو إستغلال المواد الخام، في وقت تجتذب فيه استثمارات دولية ضخمة في هذا القطاع وعائدات عالية لموازنة الدولة،على خلفية أجتماعية دراماتيكية ملحة،وفي نفس الوقت الحاجة الماسة لظروف المنطقة.
من ناحية أخرى، فإن توقف هذه الاستثمارات وإنخفاض عائدات الصادرات من شأنه أن يتسبب في أزمة اقتصادية على المدى القصير. لمواجهة هذا، سيتعين على الحكومات اليسارية الجديدة الاعتماد على ضرائب الثروة وفرض ضرائب عالية على الأثرياء بشكل عام. من المؤكد أن إدخال ضرائب الثروة والإصلاحات الضريبية التصاعدية هي موضوعات في البيانات الانتخابية اليسارية، مع ذلك فالمتوقع أن رياحاً معاكسة كثيرة ستتحرك من جهة اليمين .
تهدف المقترحات البديلة أيضاً ليس فقط إلى تأميم وتصنيع الليثيوم بهدف زيادة خلق القيمة في البلاد، ولكن لاستخدامه أيضاً في التحويل الهيكلي لأنظمة الطاقة والتنقل في أمريكا اللاتينية بدلاً من التبادل غير المتكافئ بيئياً من أجل الاستدامة في أماكن أخرى.
العامل الحاسم هو أن المتطلبات الدولية للنموذج الاستخراجي لا يمكن تغييرها فقط على المستوى الوطني أو الإقليمي، ولكن فقط في التفاعل العالمي. هذه مهمة مركزية للسياسة الدولية. ويصدق هذا بشكل أكبر كون الطفرة الحالية في المواد الخام تنبع أيضاً من "التحول الأخضر" لاقتصادات الشمال العالمي.