نَقْد العَمَل بِأُسْلُوب -التِيَّارَات- في الحزب


عبد الرحمان النوضة
2022 / 4 / 2 - 17:08     

كان "الحزب الاشتراكي المُوَحَّد" هو الحزب الوحيد في المغرب الذي يعمل بأسلوب التِيَّارَات السياسية (fractions, courants politiques, political currents). وهذا الأسلوب يؤدّي، في آخر المطاف، إلى تَكْبِيل الحزب المعني، ثم إلى تخريبه.
يُوجد تـرابط بين عمل هذا الحزب بأسلوب التيارات ، وبين احتـداد التـناقضات داخله، إلى درجة استحالة التـعايش، والتـعاون، والتـكامل، فيما بين التيارات السياسية المكوّنة لهذا الحزب.
بدأ العمل بأسلوب التيارات في سنة 2002، أي قبل اِنـعقاد المؤتمر الأول "للحزب الاشتـراكي الموحّد" في سنة 2004.
كان الهدف من العمل بأسلوب "التيارات" داخل "الحزب المُشترك الواحد" هو تَوْفِير فضاء مُلائم لِلتَحَاوُر، ولِلْعَمَل المُشترك، فيما بين أفراد وجماعات تحمل أفكارًا، وتصوّرات، وَطُمُوحَات، سياسية مُتَـفَاوِتَة أو مختلفة. وكانت الغَايَة (مِن اِستعمال التيارات ) هي تَلَافِي الاِنْشِـقَاقَات، أو الاِنْـقِسَامَات، بين المجموعات الحاملة لِأُطْرُوحَات سياسية مُتَـفَاوِتَة، أو مُتَبَايِنَة، أو مُختلفة.
وفي المؤتمر الثاني "للحزب الاشتـراكي الموحّد"، المُنْعَـقِد في سنة 2007، قُدِّمَت للمُؤتمرين 7 أرضيات. ولم تَحْصُل على العَتَبَة القانونية (أي 5 % من الأصوات) سوى 5 أرضيات. وكان العمل بأسلوب التيارات يتمّ كالتّالي: أثناء انعقاد مؤتمر الحزب، تُـقَـدِّمُ كل مجموعة (أو تِيَّار ) أرضية سياسية خاصّة بها. ثم يُصوّت المؤتمرون (كأفراد مُسْتَـقِلِّين، وليس كَأفراد مُنْضَبِطِين لِهَيْئَة مُعَيَّنَة) على مختلف الأرضيات السياسية المقترحة. ثم تُوَزَّعُ مَـقَاعِد المجلس الوطني للحزب بين هذه التيارات المُتبارية، وذلك حسب النِسَب المِئَوِيَة التي حَصَلَت عليها مختلف الأرضيات. بينما تُمْنَحُ أغلبية مقاعد المكتب السياسي للحزب إلى التِـيَار الذي حصل على أغلبية الأصوات. و المجلس الوطني هو أعلى سلطة في الحزب. وهو الذي يَحْسِمُ في القرارات الهَامَّة. وَيُطْلَبُ مِن الأمين العام للحزب أن يعمل كَمُنَسِّـق، وليس كَمُـقَـرِّر، أو كَـقَائِد، أو كَزَعِيم. مع التَأْكِيد على ضرورة إِيصَال كل الأخبار والمعطيات، إلى كلّ أعضاء المجلس الوطني . وكان أولئك المناضلين يُلِحُّون على ضرورة العمل بِأُسْلُوب «القيادة الجماعية»، وليس العمل بِـأُسْلُوب «قِيَّادة التـيار الأَغْلَبِي»، وَلَا بِقيادة «زَعِيم» مُعَيَّن (أو «زعيمة»).
لكن مَا حدث بالمَلْمُوس فيما بعد، هو أن المجموعات السياسية المختلفة أخضعت فكرة التيارات السياسية الداخلية في الحزب لِلتَّحْرِيف، ولِلتَشْوِيه، لِـتلبية مصالح خاصّة، أو لِخِدْمَة طُمُوحات شخصية زَعَامِيَة، أو انتهازية، أو بُورْجْوَازِيَة، أو يَمِينِيَة.
وخطأ العمل بهذه التيارات السياسية يأتي خُصوصًا مِن كونها، لَا تـعمل كَـ «تيّارات فكرية»، مُلْتَـفَّة حول أطروحات سياسية مُتَحَرِّكَة، وإنما تـعمل كَـ «جماعات عَصَبِيَة»، أو كَـ «قَبَائِل سياسية»، مُكَوَّنَة من أشخاص مُحَدَّدِين، وَثَابتِين، وَلَا يتـغيّرُ هؤلاء الأشخاص وَلَوْ تـغيّرت الظروف والأطروحات السياسية. بل تحوّلت التيارات بسرعة إلى «أحزاب» قائمة بذاتها، وَمُتَوَاجِدَة داخل الحزب الواحد المُشترك. ويميل كلّ تيار إلى القيّام بأنشطة سياسية، أو يقوم بدعاية سياسية، خاصّة به كَـ تـيّار مُتَمَيِّز. وكلّ نشاط سياسي للحزب يُصبح مُنَظَّمًا، ومَحْسُوبًا، بِمنطق «المُحَاصَصَة» فيما بين التيارات ، وليس بِمَنطق الحزب الواحد المُشترك.
وفي الأصل، كان المطلوب من هذه التيارات السياسية، أن تـَـكُونُ مَرِنَة في مواقفها، ومُتَحَرِّكَة في تَركِيبَتِهَا البشرية، وذلك حَسب تطوّر المُجتمع، وحسب تطوّر الأطروحات الـفكرية، وحسب تَـقدّم الاجتهادات النظرية. لكن في تجربة الحزب الاشتـراكي الموحد بالمغرب، بَـقِيَت هذه التيارات السياسية، وخلال قرابة عشرين سنة، ثَابِتَة في جماعات بَشرية مُسْتَـقِـرَّة، وفي نفس الأشخاص المَعْنِيِّين. ولم تَنْحَل هذه "التِيَارَات" داخل الحزب الواحد والمُوَحَّد. ولم تَنْدَمِج فيه. بل بَـقِيَت هذه التيارات السياسية تعمل كَـ «أحْزَاب داخل الحزب» الواحد. وَلَا تَـتَـغَـيَّـرُ تَرْكِيبَة هذه التيارات السياسية، حتّى لَوْ تَبَدَّلَت الأوضاع السياسية في البلاد، وَحتّى لَوْ تـغيّرت الإشكاليات السياسية المطروحة، وحتى لَوْ تَطَوَّرَت قَنَاعَات أعضاء هذه التيّارات.
والغريب أنه، منذ أن بدأ الحزب الاشتـراكي الموحد العمل بأسلوب «التيارات» السياسية إلى الآن، على امتـداد قُرابة عشرين عامًا، لم نشاهد نـقاشات فكرية حقيقية، أو صراعات أيديولوجية مُعمّـقة، حول أطروحات سياسية، بين هذه «التيارات» السياسية. وإنما رأينا، على الخصوص، تَـنَافُسًا، أو تَـدَافُعًا، أو تَـزَاحُمًا، بين أشخاص، أو بين جماعات، حول مَنَاصِب المسؤوليات القيادية في الحزب. الشيء الذي يُوحِي، أو يؤكّد، أن «التيارات» السياسية، المعمول بها داخل الحزب الاشتـراكي الموحد ، هي في الحقيقة «قبائل سياسية»، أو «جماعات عَصَبِيَة»، أو «أحزاب مُصَغَّرَة»، وليست «تِيَارَات فِكْرِيَة».
والغريب أيضًا أنه، رغم الطابع الحَادّ، والمُتواصل، للصراعات السياسية، الجارية فيما بين التيارات السياسية، الموجودة داخل الحزب الاشتـراكي الموحد ، فإن عامّة المناضلين في قـوى اليسار الأخرى، وكذلك المناضلين غير المُتَحَزِّبِين، لا يَقدرون على مَعْرِفَة، وَلَا على فَهْمِ، ما هي بالضبط الخلافات السياسية، أو النظرية، الـقائمة فيما بين التِيَارَات المَوْجُودة داخل الحزب الاشتـراكي الموحّد".
ويشهد كثير من المناضلين أن هذه الصراعات (القائمة داخل الحزب الاشتـراكي الموحد ) هي صراعات بين شخصيات، أو بين «جماعات غَصَبِيَة»، أو بين «قبائل سياسية»، وليست صراعات بين «تِيَارَات سياسية»، أو بين «أُطْرُوحَات نظرية»، أو بين «مَذَاهِبَ فِكْرِيَة»، أو بين «خُطُوط سياسية» مُتَمَيِّزَة، أو مُتَبَايِنَة.
وكثير من مناضلي اليسار لا يـفهمون مثلًا ما هي الخلافات السياسية، أو النظرية، أو التـكتيكية، أو الاستـراتيجية، الموجودة فيما بين تِيَّار الأغلبية المرتبط بالسَّادَة نـبيلة مُنِيب، ومصطفى مَسْدَاد، ومصطفى بُوعْزِيز، وابراهيم يَاسِين، ومحمد بُولَامي، من جهة أولى، ومن جهة ثانية تِيَّار الأقلية المُرتبط بِالسّادة محمد السَاسِـي، ومحمد امْجَاهْد، وعمر بَلَافْرِيج، ومصطفى الشَنَّاوِي. ورغم الصّراع الحادّ الموجود بين هذين التيارين ، فإنهما، هُمَا مَعًا، يُعَارِضَان النضال الجماهيري الثوري. وَيَـتَـهَـرَّبَان هُمَا معًا من خوض النضالات الجماهيرية المُشتركة. وَيُؤْمِنَان هما معًا بِإِمْكَانِيَة إِصْلَاح النظام السياسي القائم من دَاخل مؤسّـساته الصُّورية. واستـراتيجيات هذين التِيَارَيْن، هُمَا معًا، تَـقْـتَـصِرُ على المُراهنة على المُشاركة في انتخابات تُوصِلُ إلى مُؤسّـسات شكلية. وَهُمَا معًا يرفضان الماركسية الثورية. ويرفضان الطموح إلى الاشتراكية. ويـقبلان العمل في إطار الرأسمالية، كَأُفُـق غير قَابِل لِلتَجَاوُز. ويقبلان التَـقَيُّدَ بِمَنْظُومَة الانتخابات كما هي. ويرفضان مواجهة مَنَاهِج الرأسمالية.
وَفي تاريخ المغرب الحديث، حدثـت العديد من الانشقاقات في أحزاب اليسار. وكانـت دائما التيّارات «الأكثر ثورية» هي التي تـنـفصل، أو تَبتـعد، عن التيارات «الأقلّ ثوريةً»، أو «الأكثر يمينيةً». لكن في حالة الصراعات الحالية التي جرت داخل الحزب الاشتـراكي الموحّد ، لا تـعرف عامّة المناضلين مَن هو التيّار الأكثر «ثورية»، وَلَا مَن هو التيّار الأكثر «يمينية»، مِن بين التِيَّارَيْن الرئيسيّين المتصارعين داخل هذا الحزب الاشتـراكي الموحّد .
والسبب في غموض هذه الصراعات بين تيارات الحزب الاشتـراكي المُوحّد، يرجع لكون هذه التيارات ، أو «الـقبائل السياسية»، لَا تُعَبِّر، وَلَا تُوضِّح، وَلَا تـنشر، بما فيه الكفاية، آراءها السياسية، أو النظرية، أو التـكتيكية، أو الاستراتيجية. ولا تُمارس النَـقْد السياسي المكتوب، أو العلني. ويبقى السِجَّال فيما بين هذه التيارات يدور حول: «قَالَ فُلَان»، و«فَعَلَ فُلَان»، و«فُلَان مُمْتَاز»، و«فُلَان أَرْعَن»، و«فُلَان زْوِينْ»، و«فُلَان خَايْبْ»، و«فُلَان مَعَنَا»، و«فُلَان ضِدَّنَا»، إلى آخره. وغالبًا ما لَا يرقى النـقاش، أو الجِدَال، فيما بين هذه التيارات إلى مُستوى البحث النظري، أو المَوْضُوعِي، أو المُعمَّـق، أو العِلْمِي، حَول آراء سياسية، أو حول أطروحات نظرية.
وعندما نـقرأ الآراء النادرة التي ينشرها الأفراد أو الجماعات، المتصارعين داخل الحزب الاشتـراكي الموحّد ، نلاحظ أن خلافاتهم، لا تـدور حول أطروحات فكرية، أو حول تـكتيكات مختلـفة، أو حول برامج استـراتيجية، وإنما تـدور هذه الصراعات حول التَـنَافُس الذَّاتِي فيما بين أشخاص، أو بين جماعات. ونلاحظ أنه لا تُوجد خلافات استـراتيجية فيما بين هذه التيارات . بل يَتَّـفِـقُ أعضاء مختلـف هذه التيارات على الكثير من الـقضايا الأساسية. وبإمكانهم أن يتـعايشوا داخل حزب واحد وموحّد، وبدون الحاجة إلى العمل بأسلوب التيارات السياسية.
وَبعد تجربة انهيّار الاتحاد السوفياتي (في قرابة سنة 1990)، وبعد انـتشار التـفسير الغربي الرأسمالي لهذا الانهيّار، أصبحت غالبية أُطُر الحزب الاشتـراكي الموحد تظنّ أن «وجود الديمقراطية داخل هذا الحزب، يستوجب بالضرورة العمل بأسلوب التيارات السياسية». وأصبح أحد أســس هذا الحزب الاشتـراكي الموحد هو العمل بأسلوب التيارات السياسية داخل الحزب.
لكن نـتيجة العمل بِـ التيارات التي حصدها هذا الحزب، لم تـكن هي «الديمقراطية الداخلية»، وَلَا هي «تَوْضِيح الرُّؤْيَة السياسية»، وَلَا هي «تـعميق الخط السياسي»، وَلَا هي «إِثْرَاء النظرية الثورية»، وإنما هي إغراق الحزب في مُنَافَسَات ذَاتِيَة، أو في مُزَايَدَات عَقِـيمَة، أو في صراعات غير مُنْتَهِيَة. وَتَدُور هذه الصراعات، ليس حول أطروحات فكرية، وإنما تَدُور بين أشخاص وجماعات يصعب التوفيـق بين طموحاتهم الشخصية، أو الزَعَامِيَة.
وَأَدَّى العمل بأسلوب التيارات إلى تَبْذِير طَاقات الحزب، وإلى تَـكْـبِـيـل مُجمل إِمْكَانَاتِه، إلى درجة أن الحزب لم يَعُد قادرًا على اكتساب أية فعالية في ميدان النضالات الجماهيرية المُشتركة.
وكان دائمًا التيار السياسي الذي يحظى بالأغلبية داخل مؤتمر الحزب، يُمارس سُلطة مُطلـقة على التيارات الأخرى، بَل يُهَمِّشُهَا إلى حدّ الإقصاء. وحتّى داخل التيار ذُو الأغلبية في الحزب، لَا نجد العمل بِـ «الديمقراطية» الداخلية، وإنما نجد مجموعة صغيرة من الأشخاص (على شكل «حزب داخل الحزب») هُم الذين يَنْـفَرِدُون بِتَدْبِير تطوّر هذا التيار ، ويُـقرّرون كذلك في تطوّر الحزب الشَّامِل المشترك، بعيدًا عن إشراك التيارات الأخرى المُنافسة، وبعيدًا عن إشراك أعضاء القـواعد الحزبية في التـفكير، وفي تهيئ اِتِّخَاذ الـقرارات السياسية الهامّة. فَلَا يُمكن لِـتِـيَّارات لَا تُمارس الديمقراطية داخل هَيْئَاتِهَا الخاصّة، أن تُمارس الديمقراطية مع التيارات الأخرى المنافسة لَهَا.
ومن خلال الاتهامات المُتَبَادَلة فيما بين التيارات ، يظهر أولًا أن التيار ذُو الأغلبية داخل الحزب، لَا يُـقَيِّدُ نفسه بِتَـنْـفِـيـذ قرارات مؤتمر الحزب، وإنما يمارس توجّهات مخالـفة، أو مناقضة لها. ويظهر ثانيًّا أن التيارات لا تلتزم عُمُومًا باحترام صَارِم للقوانين الداخلية للحزب. وَيَعْجِزُ عامّة المناضلين المعارضين، أو غير الرَّاضِين عن الفوضى التنظيمية الجارية داخل الحزب المعني، عن إِجْبَار مُخْتَلَف التيارات على احترام مُجمل بُنُود النظام الداخلي للحزب الشَّامِل المُشترك.
وكلما كان الحزب يعمل بأسلوب التيارات السياسية، يصبح «الوَلَاءُ لِلتِّيَار» السياسي أقـوى، وأهم، من الوَلَاء للحزب الشَّامِل المشترك. وَتَغْدُو «العَصَبِيَة لصالح التيار» السياسي أَوْلَـى من العَصَبِيَة لصالح الحزب المشترك. وحتّى المبادئ، والمناهج، والأهداف، والمُـقَرَّرَات، التي يُسَطِّرِهَا مُؤتمر الحزب بِصُعُوبَة في وثائقه الداخلية، تُصبح فَورًا ثانوية بِالمُـقارنة مع ضرورة الانـتماء إلى التِيَّار السياسي، وَوُجُوب الدِّفَاع المُتَـعَصِّب عنه. ويُصبح المطلوب من العُضو في الحزب هو أَوَّلًا الانضباط للتيّار السياسي، بينما الانضباط للحزب يبقى ثانويّا، أو ضعيـفًا، أو ضئيلًا، أو مُنعدمًا.
ويؤدّي العمل بهذه التيارات إلى انـتشار العمل بـ «الزَّبُونية السياسية» داخل الحزب المعني. وهذه «الزبونية» تُمارس على شكل مُكَافَأَة مَن يُناصر الزَّعِيم ، أو مَن يُناصر التيّار المعني، عبر تَرْقِيَتِه في التَسَلْسُل الهَرَمِي لِلحزب، أو عبر منحه بعض المسؤوليات في تنظيمات الحزب، أو عبر إعطاءه بعض الامتيازات (التي قد تـكون معنوية، أو سياسية، أو غيرها).
وفي إطار العمل بأسلوب التيارات داخل الحزب الواحد، يُصبح تطبيـق مبدأ «رَبْط المَسْؤُولية بالمُحَاسَبَة» أمرًا صَعْبًا، أو مُستحيلًا. كما تُصبح مُمارسة المُراقبة المُتبادلة، والمحاسبة المُتبادلة، غير مُمكنتين. لأنه مهما كانـت أخطاء، أو نَـقَائِص، أو عُيُوب، أيّ عُضو مُحدَّد في الحزب، فإن المطلوب منه هو فـقط «أن يكون مناصرًا مُتَعَصِّبًا لِتِيَّارنَا السياسي الخاص بِنَا». أما إذا كان هذا العُضو من تِيَّار منافس، فَيُـعْتَبَرُ أنه مَيْؤُوس منه، ولَا أمل في نَـقده، وَلَا في مُراقبته، وَلَا في مُحاسبته، وَلَا في تَـكوينه، ولا في تَـثْـقِيـفِه، ولا في إصلاحه.
وقد أدّى العمل بأسلوب التِيَّارات السياسية، داخل الحزب الاشتـراكي الموحد ، إلى اِحْتِدَام المُنافسات الشخصية، وإلى تَأَجُّـج الصِّراعات الذاتية، وإلى تَضْيِـيـع مُعظم طاقات الحزب في صراعات داخلية مُعَـقَّدَة، وَغَامِضَة، وَعَـقِـيمَة، وَمُزْمِنَة، فيما بين التِيَّارات السياسية المُتَوَاجِدَة داخل هذا الحزب. وإذا اِسْتَـثْـنَـيْـنَا المشاركة في الأنشطة الانتخابية العمومية، يكاد الحزب لا يُساهم في أية أنشطة نضالية جماهيري مُشتركة. وَسَاهَمَ العمل بأسلوب التيارات السياسية، خلال قُرَابَة عِقْدَين، في تَحْوِيل الحزب الاشتـراكي الموحد إلى نَـقِيضِه. أي أنه تَحَوَّلَ إلى حزب غير اشتـراكي ، و غير مُوَحَّد . وأُصِيب بعض أعضاء هذا الحزب باليأس، أو الإحباط، إلى درجة أن بعض قُدماء أعضاء هذا الحزب اِبْتَعَدُوا عنه، وَغَدَوْا لَا يُؤْمِنُون لَا بِالعمل الحزبي، وَلَا بالنضال.
وبعد قُرابة عِقْدَيْن من العمل بأسلوب التيارات (في "الحزب الاشتـراكي المُوَحَّد")، حدث في شهر يُونْيُو 2021 ما كان مُحَتَّمًا. وهو انـفجار الحزب الاشتـراكي الموحّد ، وانقسامه إلى التِيَّارات التي كان يَتَـكَوَّنُ منها أَصْلًا في سنة 2002. وهكذا وَقَع الرُجُوع (في سنة 2021) إلى نـقطة الانطلاق (التي كانت في سنة 2002). وهذه "التِـيَّارَات" هي : 1) تِيَّار نَبِيلة مُنيب (أو تِيَّار «منظمة العمل الديمقراطي الشعبي» (OADP)؛ 2) تِيَّار «حركة الوَفَاء لِلديمقراطية» بِـقِيَّادة محمد السّاسِي؛ 3) تِيَّار «حركة الديمقراطيين المستقلين الأحرار» بِـقـيّأدة محمد مجاهد. كَأَن هذه "التِيَّارَات" لم تَتَوَحَّد، أو لم تَنْدَمِج أَبَدًا في "الحزب الاشتـراكي المُوحّد".
وتحوّل هكذا "الحزب الاشتـراكي المُوحّد" إلى "تِيَّارَات" تَائِهَة، أو مجموعات مُتَـعَادِيَة، أو فِـرَق نَاقِمَة. بَل تَزَامَنَ، أو تَرَابَطَ، انقسام "الحزب الاشتـراكي الموحّد" مع اِنْشِطَار "فيديرالية اليسار الديموقراطي" إلى قِسْمَيْن مُتَـعَادِيَّـيْـن. الـقِسم الأوّل يَشْمَل تِيَّار نـبيلة مُنيب (أو تِيَّار «منظمة العمل الديمقراطي الشعبي»). والـقسم الثاني يشمل حزب الطليعة الديمقراطي الاشتـراكي ، و حزب المؤتمر الوطني الاتحادي ، وَتِيَّار «حركة الوَفَاء لِلديمقراطية»، وَتِيَّار «حركة الديمقراطيين المستقلين الأحرار».
وقد سبق لي أن نَبَّهْتُ (في صِيغَة كتاب نـقد أحزاب اليسار ، المنشورة على الأنترنيت في قرابة سنة 2012)، إلى أن التيارات السياسية التي تـعمل داخل حزب مُحدّد كَـ «قبائل سياسية» مُتَـنَافِسَة، وَمُتَـنَاقِضَة، وَمُتَـنَاحِرَة، ستـكون نـتيجتها الحتمية، هي أولًا تَـكْـبِيل طَاقَات الحزب. وهي ثانيًّا خَنْـق مُجمل المُبادرات المقترحة داخل الحزب المشترك. وهي ثَالِثًا إضعاف الحزب، وَحَبْس إشعاعه السياسي. وهي رابعًا انـقسام هذا الحزب المعني إلى جماعات متـنافسة، أو مُتَنَاحِرَة. وذلك هو ما حدث.
وهذا التَـقْيِيم السَّلْبِـي السَّابِـق لِلعمل بِـأُسْلُوب "التِيَّارَات"، لَا يعني أن العمل بِـ "التيارات" هو دائما خاطئ، وبشكل مُطلق. وإنما يعني أن الظروف التاريخية التي طُبِّـقَ فيها، والطريـقة التي أُسْتُـعْـمِـلَ بها، هي التي جعلت هذا العمل بأسلوب "التِيَّارَات" خاطئا. وَلَو طُبِّـقَ أسلوب العمل بِـ "التِيَّارَات" بطريـقة أكثر مُرُونَة، وأكثر موضوعية، كان مِن المُمكن أن يُصْبِحَ إِيجَابِيًّا.
ويكون العمل بهذه التيارات خاطئا حينما لا تتوفّر شُروطها الضرورية. ومن أهم شروط العمل بِـ التيارات السياسية، أن تـكون هذه التيارات مجموعات فِكْرِيَة، أو فِرَق ثَـقَافية، أو مَذَاهِب عِلْمِيَة، وأن تـكون مَرِنَة، وَمُتَحَوِّلَة، حسب تطور الظروف التاريخية، وحسب تطور الاجتهادات الـفكرية، أو النظرية، أو العلمية. لكن حينما يكون المُجتمع المعني متخلّفًا، أو حينما يكون فيه الجهل عميـقا، والغِشُّ شَائِعًا، أو مُنـتشرا، مثلما هو الحال في الكَثِير مِن المُجتمعات المُسلمة، وفي مُعظم المُجتمعات الناطقة بالعربية، فإن التيارات السياسية تتحوّل بسهولة إلى «جماعات مُتَعَصِّبَة»، أو تتطوّر إلى «قَبائل سياسية» غير مبدئية.
ومن إِيجَابِيَّات العمل بِأسلوب التيارات داخل الحزب، أنه يَدفع كلّ تِيَار إلى أن يُـعَبٍّرَ بِالملموس عن طُموحاته السياسية الخَـفِيَة. ورغم المناورات السِرِّيَة لبعض التيارات داخل الحزب الاشتراكي الموحّد ، اِنْـفَضَحَت (منذ سنة 2006) اِتِّصَالات زُعماء بعض هذه التيارات بالسُّلطة السياسية، أو بِخُدَّام القصر الملكي (مثل المستشار المَلَكِي فُؤاد عَلِي الهِمَّة). واتَّضَح تَوَجُّهُ هذه التِيَّارَات نَحْوَ سُلُوك «التَوَاطُؤ الطَبَـقِي »، وَنَحْوَ العمل السياسي الإصلاحي، أو الانتهازي، مِن داخل المُؤَسَّـسَات الشَّكْلِيَة، أو المَغْشُوشَة، التابعة للنظام السياسي القائم. وَانْكَشَـفَ استعداد بعض الزعماء لِمُمَارسة الكَوْلَسَة، والحَلَقِيَة، والمُساومات المَخْـفِيَة على المناضلين القاعديّين.
وقد يظن بعض قُرَّاء هذا النَصّل، أن أحزاب اليسار التي عَمِلَت بِـأسلوب التيارات السياسية هي أحزاب مُخطئة؛ وأن أحزاب اليسار الأخرى بالمغرب (التي لم تستعمل التيارات ) هي أحزاب جَيِّدة، أو مُمتازة. وسيكون هذا التأويل خاطئا. والحقيقة المُرَّة هي أن مُجمل أحزاب اليسار بالمغرب تعيش في أزمات مُعـقّدة، ومركّبة. وَتُعَانِي مِن ضعف بِنْيَوِي، ومُزمن. لكن هذا موضوع آخر (يُرْجِعُنَا إلى موضوع «نَـقد أحزاب اليسار بالمغرب»).
وإذا لم تَـقُم قِـوَى اليسار بعمليات التَـقْـيِيم، والتَـقْـوِيم، والتَـثْـوِير، فإنها سَتُصبح مُتخلّفة، ثم ستَخْتَـفِـي مِن السّاحة السياسية. وقد تُعوّضها قوى ثورية أخرى من نوع جديد. لأن الصراع الطبقي لَا يتوقف إلّا مع زوال الطبقات من المُجتمع.
رحمان النوضة