الحقيقة والقيمة


مالك ابوعليا
2022 / 3 / 27 - 15:42     

مؤلف المقالة: الماركسي السوفييتي أوتار ميخاييلي باكورادزه

ترجمة مالك أبوعليا

الحقيقة موجودة في شكل فرضيات صحيحة. لذلك فإن تحديد طبيعة الحقيقة يعني تحديد الظروف التي تكون الفرضية فيها صحيحة. تكون الفرضية صحيحةً ان كان مُحتواها لا يعتمد على العارف، وتُشكل انعكاساً للواقع الموضوعي. مثل هذه الفرضية تُنتج المعرفة. يجب أن نُطلق عليها فرضية ادراكية.
ومع ذلك، فإن علاقة الانسان بالواقع لها جانب آخر: التقييم. الإدراك يُقيم الحقائق، وبالتالي فإن علاقة الانسان بهذه الحقائق مخفية. هذا هو الشرط الأول لكل إدراك. يجب على الموضوع وحده أن يكون مُعطىً في الإدراك: لا شيء أكثر من ذلك. ومع ذلك، الذات هي التي تقوم بالتعبيرعن الموضوع. أهم شيء هنا هو تحديد القيمة التي يُشكلها الموضوع للذات. الكيان، الموضوع المُقيّم، بالنسبة الى الذات، هو موضوع قيّم، أنه يحوي على قيمة.
دعونا نضع فرضية صادرة عن ذات تضع قيمةً ما على موضوعٍ ما. على سبيل المثال، "س هو شيء جيّد أو خير". هذا يُعبّر عن موقف الذات تجاه الموضوع، وهو يُثبت، أن الذات توافق على س على وجه التحديد. تختلف فرضية "س هو جيد أو خير" اختلافاً كبيراً عن فرضية "ص صحيح True". تُعبر الفرضية الأولى عن موافقة الذات على س، في حين أن الثانية لا تأخذ بعين الإعتبار موقف الذات تجاه الموضوع. هذا الموقف ليس من ضمن مُحتوى الفرضية ولا هو جُزء منها(1).
يجب أن لا يُفهَم موقف الذات على أنه يعني أن القيمة تعتمد على الذات، أي أن القيمة ذاتية. ما قُلناه بحد ذاته لا يعني أي فهم ذاتي أو موضوعي للقيمة. إنه فقط يُشير فقط الى حقيقة أن التقييم لا يشمل فقط ذات التقييم وموضوعه، ولكنه يُعبّر عن موقف الفرد المُقيّم من هذا الموضوع.
تشهد خصائص الحقيقة truth والقيمة على حقيقة أن الأولى ليست قيمة، وبالتالي فإن الفرضية الإدراكية والفرضية القِيَمية لهما معنىً مُختلف تماماً. لكن للوهلة الأولى، تعود الحقيقة والقيمة الى ظروفٍ مُتطابقة، حيث يفترض كلاهما وجود علاقة مُتبادلة بين الذات والموضوع ويفتقران الى الموجود الموضوعي، أي يفتقران الى وجودٍ خارج الذات.
الحقيقة لا يُمكن أن توجد خارج الذات وبدونها. بمجرد أن نُدرك أن الحقيقة هي مُحتوىً مُحدد لإدراكنا، سيكون واضحاً أن وجودها لا ينفصل عن وجود الذات. تندرج الضرورة الأولى ضمن الثانية. ان تمدد جسم تحت تأثير التسخين هو حقيقة. سيتمدد الجسم عند التسخين حتى لو لم يكن هناك ذات على الإطلاق. ومع ذلك، هذا لن يكون حقيقة Truth. الحقيقة ليست حالة ملموسة، لكنها حالة ذهنية لا يُمكن أن توجد بدون ذات. الحقيقة هي كذلك فقط عندما تُطرَح في ذهن الذات كشيء ذو مُحتوىً مُعيّن.
من ناحيةٍ أُخرى، لا يُمكن للقيمة أيضاً أن توجد بدون ذات. ما هو ذو قيمة يكون دائماً كذلك بالنسبة لشخصٍ ما. وعندما يُنظرُ اليها خارج علاقةٍ بذاتٍ ما، فإنها تُصبح جوهراً ميتافيزيقياً. أما إن كانت القيمة تعتمد على وعي الذات هي مسألة أُخرى تتطلب اعتباراتٍ أُخرى، لكن القيمة لا يُمكن أن تكون كذلك، إن لم تكن بدون ذات.
لذلك فإن تطابق الحقيقة والقيمة هو أمر ظاهري فقط. بينما الفرق بينهما مُهم ومُتأصل.
عندما نتحدث عن الحقيقة، فإن الموضوع الذي يعكسه الفكر موجود بشكلٍ موضوع ولا يتطلب أي علاقة بالذات. يحتفظ الموضوع بواقعيته بدون أي علاقة بالذات، بالمعنى الابستمولوجي، حتى الواقع الفكري موضوعي، أي أنه موجود بغض النظر عن أي موقف ادراكي للذات تجاهه. وفي الحالة المُعطاة، وكما بالنسبة للإدراك بشكلٍ عام، يختلف موضوع الإدراك عن إدراك الموضوع. هذا هو بالضبط ما يجعل العلم حول ما هو غير مادي، مُمكناً. يُمكن أن يكون موضوع الإدراك صفراً، عدماً، ولكنه يظل موضوعياً، ويظل موجود بشكلٍ مُستقل عن المعرفة به. وبالتالي، فإن وظيفة الفرضية المعرفية هي مُجرّد انعكاس لحالة موضوعية وواقعية للأُمور. ليس هناك أهمية لمسألة ما إن كانت هذه الحالة تروق أو لا تروق للذات، بالنسبة لمُحتوى الفرضية الصحيحة.
ما يخص حُكم القيمة هو بالتحديد حقيقة أنه يعكس موقف الذات تجاه الموضوع. هذا الوضع ليس فقط شرطاً للتقييم، ولكنه عُنصر أساسي لمُحتوى حكم القيمة. يتم التعبير عن القيمة دائماً في التقييم. ليس لدينا أي شكل آخر للتعبير عنه. ان كانت الحقيقة قيمة، فإن التعبير عن الحقيقة سيكون تقييماً، ولكن هذا يتعارض مع مفهوم الحقيقة، لإن الحقيقة كما ذكرنا سابقاً، ليست سوى إنعكاس صحيح لحالة موضوعية، لمحتوى فكر، مُستقل عن الذات. الذات لا تزيد ولا تُنقص شيئاً من الحقيقة: إنها "عبد" للموضوع.
الحقيقة بحد ذاتها ليست قيمة. القيمة الإدراكية للحقيقة والحقيقة نفسها هما شيئان مُختلفان. الأمر ليس أن الحقيقة هي قيمة، لكنها تمتلك قيمة، وقيمة إدراكية على وجه التحديد. لكي يُمكننا أن نتحدث عن قيمة الحقيقة، فإنها يجب أن توجد كحقيقة. الفكر الصحيح ذو قيمة لأنه حقيقي. بدون هذا، لن يكون له أي قيمة. لكن قيمة الحقيقة هي مجرد شرط لإعتبار الفكر ذو قيمة. عندما نتحدث عن قيمة الحقيقة، فمن المُفترض أننا نُقيمها. هنا الحقيقة هي موضوع للتقييم، وفي هذا الصدد يجب النظر اليها بنفس طريقة النظر الى جميع عناصر التقييم الأُخرى. بالطبع، الحقيقة من حيث قيمتها هي أعلى بكثير من بعض المواضيع الأُخرى، ولكنها هي نفس المواضيع الأُخرى من حيث هي موضوع للتقييم. باختصار، الحقيقة أو الفرضية الصحيحة هي حامل للقيمة، ولكنها ليست قيمة بحد ذاتها.
وبالتالي، فإن الفرضية الصحيحة هي وصف للحقائق facts، وبالتالي تختلف جوهرياً عن فرضية القيمة.
يجب أن نتغلب النزعة الاكسيولوجية Axiologism في الابستمولوجيا والنزعة الابستمولوجية epistemologism في الاكسيولوجيا. تتمثل النزعة الاكسيولوجية في الابستمولوجيا في اعتبار الحقيقة قيمة، وبالتالي تشويه الطبيعة الحقيقية للفرضية الادراكية. أما النزعة الابستمولوجية في الاكسيولوجيا فهي اختزال الفرضية القيمية الى وصف للحقائق، أي يتم تجاهل ما يُميزها. ويُمثل هذه التطرفات الكانطية الجديدة والمذهب الطبيعاني على التوالي.
حُكم القيمة له وظيفة تختلف عن الفرضية الادراكية. العبارة "س هي شيء جيد" تُساوي العبارة "أنا أستحسن س أو اوافق عليها" "أنا" هنا تعني الذات بشكلٍ عا، وليس فرد ما.
ما الذي توافق عليه الذات أو لا توافق؟ انه ما تتعلق مصالحها به. لا معنى للقول عما اذا كان مُحيط الدائرة يُساوي مضروب ضعف القطر بالثابت باي هو خير أم شر، أو أن الجزء أقل من الكُل.
عندما يقول المرء عن شيء انه سيء أو جيد، خير أو شر، فإنه لا يؤكد حقيقةً، بل يُعبر عن رغبته في وجود هذه الظاهرة ان كانت غير موجودة، أو أن تستمر في المُستقبل ان كانت موجودةً أصلاً. حتى عندما يعتبر المرء ظاهرةً من الماضي على أنها خير، فإنه يرغب في أن تتكرر هذه الظاهرة، أو إن أراد أن تكون هذه الظاهرة موجودة في الوقت الحاضر، فإنه يرغب أن توجد في المُستقبل أيضاً. إن الحقيقة Fact"المُحايدة" التي لا تمس مصالح المرء هي ليس بالخير ولا الشر.
ان الشيء المُوافَق عليه هو شيء مرغوب. لا تعني كلمة "مرغوبٌ فيه" أن الظاهرة أو الشيء المعني موجودٌ كحقيقة تُلبي رغبات الإنسان، بل المرغوب فيه يُشير الى المُستقبل. بمعنى آخر، إنه يُصبح هدفاً. إن حُكم القيمة غائي بطبيعته، إنه يُشير الى ظرف يُحدده الهدف.
يتطلب الهدف تحقيقاً، إن كان حقيقياً. إنه يواجه الإنسان كشيء يجب أن يكون. القيمة ليست ما هو موجود، ولكن ما يجب أن يكون. حتى لو لم يكن "واجب الوجود" مُعطى في حُكم القيمة، إلا أنه يندرج فيه. وواجب الوجود تطرحه الذات على نفسها وعلى غيرها. لا تنطبق العبارة "يجب عليك..." على الحقائق المُعتبرة خارج موقف الشخص منها. الفرضية العلمية الادراكية هي فرضية فيما يتعلق بحقيقة fact، بينما يكون واجب الوجود بالنسبة الى الافتراض القِيَمي ذو أهمية كبيرة.
هناك أيضاً افترضات في شكل عبارات حتمية ولكنها في الواقع افتراضات وقائعية. على سبيل المثال، "الانسان يجب أن يموت". هذا شكلياً يُشبه حُكم القيمة، ولكنه في مضمونه الحقيقي افتراض وقائعي. يُصبح هذا واضحاً إن استبدلنا الافتراض "الانسان يجب أن يموت" بالطرح المُكافئ "كل الناس يموتون". ومع ذلك، لا يُمكن بنفس الطريقة استبدال الافتراض "يجب على الانسان أن يقول الحقيقة" بافتراض "كل الناس يقولون الحقيقة" لأن هذا الأخير خاطئ. بعبارةٍ أُخرى، ليس حُكم القيمة حُكم وقائعي مُعدّل، ولكنه يختلف عن الأول في المعنى.
كان كانط أول من كشف عن الاختلاف المُهم بين الافتراض الادراكي وافتراض القيمة. لقد فَهِمَ أن حُكم القيمة، ولا سيما الحُكم الأخلاقي، يخدم كشيء قطعي Imperative ويتسم بضرورة أخلاقية. ولكن عند كانط الضرورة الأخلاقية مُنفصلة تماماً عن الواقع. الحقيقة Fact والضرورة الأخلاقية مُتعارضان الى حدٍ كبير في فلسفته لدرجة أن الأمر القطعي categorical imperative لا يخدم فقط كمبدأ شكلي بل كشيء غريب عن العالم التجريبي.
تختزل النظريات الطبيعانية التي تُنكر الحتمية المُطلقة، حُكم القيمة الى مُجرّد وصف، أي أنها تؤكد أن وظيفة حُكم القيمة هي وصف الحالة الذهنية للذات. في مثل هذه الحالة، نحن نتعامل إما مع حُكم نفسي أو مع افتراضات في تخصصات أُخرى هدفها دراسة الوقائع.
من الواضح أن المذهب الطبيعاني يقضي على مسألة القيمة كمسألة مُستقلة. تترك الطبيعانية عامل حاسم من عوامل افتراض القيمة، كالضرورة الأخلاقية، بدون أي تفسير. دعونا نُفكر في مسألة الحُكم الأخلاقي، على سبيل المثال. لا يُمكن قصر وظيفته على أنه يقوم فقط باعلامنا عن الحالة الفعلية للأُمور وتجاهل حقيقة أن مثل هذا الحُكم يتطلب شيئاً ما من المرء. إن وصف حقيقة أن لدى الذات لديها رأي أو مشاعر معينة فيما يتعلق بموضوٍ مُعيّن لا يتطلب بحد ذاته أي شيء من المُستمع، في حين أن الأخير قد يؤكد صحة Truth هذا الافتراض حتى لو لم يعترف يقيمة هذا الموضوع بالنسبة له.
ان الفرضية القِيَمية لا تنحل الى فرضية ادراكية (علمية طبيعية)، لان مصلحة الانسان لا تعتمد فقط على العلم وحده. ولو كان الأمر كذلك لكان يُمكن حل جميع المسائل حول القيمية المُتنازع عليها بسهولة، مثل مسألة سلوك الانسان، والذي سيتم حله بالعلم الطبيعي وحده، وسيكون حينها المنطق قادراً من حيث المبدأ على التوفيق بين المبادئ الأخلاقية المُتناحرة. ولكن ليس هذا هو الحال. ان وجود مبادئ أخلاقية مُتناحرة ليس نتيجة قصورٍ في الادراك أو ضعفٍ في منهجية العلم. ان المواقف المُختلفة للبشر تجاه موضوعٍ ما، لا تعتمد فقط على الاختلافات في معارفهم، ولكن أيضاً على طبيعتهم. وهنا نقول أن طبيعة الانسان اجتماعية في المقام الأول، وتتحدد منظومة مصالحهم بالظروف الاجتماعية التي يعيشونها.
يُمكن للمرء أن يستنتج أن الفرضية القِيَمية تختلف في جوهرها عن الفرضية الادراكية-المعرفية الذي يتم من خلالها التعبير عن المُحتوى الحقيقي لإدراكنا,. ان اختزال الفرضية الادراكية الى فرضية قِيَمية، أو عكس ذلك، اعتبار الفرضية القِيَمية هي وصف للحقائق هو نتيجة لفهم خاطئ لطبيعتهما.
ولكن، لا يُمكن للمرء أن يُصرّح فقط أن الفرضية الادراكية تختلف عن الفرضية القِيَمية، وأنه لا يوجد رابط عضوي بينهما. على العكس من ذلك، فإن الفرضية الادراكية ليست فقط شرطاً ضرورياً لفرضية القيمة وحسب، ولكنها أيضاً جُزء من معناها. تفترض الفرضية القِيَمية دائماً المعلومات حول الحالة الفعلية للأشياء، وهذا دليل على أنه سيكون من الخطأ الفادح اعتبار الأحكام القِيَمية والفرضيات الادراكية على أنها أضداد مُطلقة. بعبارةٍ أُخرى، فإن حُكم القيمة له أيضاً جانب وصفي، على الرغم أن ما يُميزه بالذات، ليس مُتضمناً في هذا الجانب.
يوضح تحليل العلاقة المُتبادلة بين الفرضية القِيَمية والفرضية الادراكية المعرفية أن تقييم الانسان للواقع متميز ويختلف عن الادراك، وبالتالي فهو موضوع خاص تدرسه الفلسفة الفلسفة.

* اوتار ميخاييلي باكورادزه 1926-1986 تخرّج عام 1949 من كلية الفلسفة في جامعة تبليسي. صار في عام 1970 باحثاً ورئيساً لأحد أقسام معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الجورجية. حصل باكورادزه على لقب دكتور في الفلسفة عام 1965. كان رئيساً لمعهد باتومي التربوي في الأعوام من 1970-1978، ومن 1978-1986 رئيساً لمعهد كوتايسي التربوي. مُنِحَ باكورادزه عام 1982 لقب شخصية جورجيا العلمية عن أنشطته العلمية والتربوية. كان رئيس لقسم الفلسفة في معهد تبليسي فانو ساراجيشفيلي الموسيقي عام 1986.
احتل عمل باكورادزه المُبكر (حول تشكّل فلسفة كارل ماركس) عام 1953 مكاناً خاصاً بين أعماله. ومن أعماله (لينين كفيلسوف) عام 1969 الذي عالج المرحلة اللينينية في تطور الماركسية، و(الحرية والضرورة) 1964 والذي يُحلل فيه العلاقة بين الحرية والضرورة. كان باكورادزه مُدافعاً عن الماركسية اللينينية ضد التحريف الغربي، وكان على دراية عميقة بالفلسفة الأوروبية في القرن العشرين وتيارات الفلسفة الغربية بشكلٍ عام.

1- يجب أن يتم التمييز بدقة بين الفرضيات القِيَمة وفرضيات نظرية القيمة (الاكسيولوجي). ان فرضيات نظرية القيمة بحد ذاتها ليست فرضيات قِيَمية، ولكنها فرضيات علمية تكون الحقيقة فيها كامنة في الانعكاس الصحيح لموضوعها.

تم نشر هذا المقال في سياق نقاش جماعي.

ترجمة لمقالة:
O. M. Bakuradze (1967) Truth and Value, Soviet Studies in Philosophy, 5:4, 25-28