طرطوس و المقاومة ... و عماد فوزي الشعيبي

إبراهيم إستنبولي
2006 / 9 / 9 - 10:47     

مع حلول الأيام الأولى من أيلول أفصح فصل الصيف عن رغبته بالرحيل .. و بدأ الخريف يعلن عن قدومه أبكر من المعتاد .. إذ قلّت رطوبة الهواء في سماء المدينة و خصوصاً في فترات المساء .. و هذا جعل أهالي مدينة طرطوس يشعرون ببعض النسيمات اللطيفة تنعش وجوههم و هم يمارسون طقس المشي في الأماكن العامة ، خصوصاً بعد أن أجبرهم " شهر " الحرب الساخن في تموز و آب الحارّين أصلاً و الرطوبة المرتفعة جداً أن يمضوا فترة العدوان على لبنان متسمرين أمام شاشات التلفزيون يراقبون بقهر ما يفعله العدو بأشقائهم و بجيرانهم و بالمقاومة البطلة و هم يلعنون الزمن و الحكومات العربية و أمريكا و يضمرون الخوف و القلق على مستقبلهم و مستقبل أبنائهم و لخوفهم هذا مبرراته و لقلقهم أسراره .. دون أن يكون بإمكانهم الإفصاح عن كل ما يدور بخلدهم .. فما يتبقى لهم سوى المشي حول سور حديقة أو على رصيف شارع .. خصوصاً و أن طقس المشي هذا كان قد صار منذ سنوات بمثابة الفسحة الوحيدة للترفيه عن النفس بالنسبة للكثيرين ، و بالنسبة للبعض فرصة لمحاربة السمنة و مختلف أنواع الأمراض المرتبطة بكثرة الهموم و التوتر و من بينهم ( و ليس آخرهم ) حديثو النعمة الذين اكتشفوا أن لا قيمة لأموالهم و لا لمناصبهم السابقة و لا لسطوتهم فيما مضى عندما كانوا يشغلون منصباً هنا أو هناك .. إذ لا " يلتكش " أحد لمرورهم بل و ربما يتجاهلهم البعض عن قصد .
و في مساء يوم من أول أيلول وجدت نفسي أمام مدخل المركز الثقافي .. الكائن قبالة سور الحديقة المركزية .. ودلفت إلى الداخل لأكتشف أن الزوار جاءوا ليسمعوا محاضرة بعنوان الفعل الثقافي المقاوم .. على لسان عماد فوزي الشعيبي . و كان أول ما لفت نظري و أنا أجتاز الشارع هو كيف أن " مثقفاً " هبط من سيارته ليرمي بمحرمة ورقية في وسط الشارع .. هكذا بلا أدنى شعور بذنب اقترفته يمينه ( و ربما يساره ) .. و كانت أول صفعة للذوق العام . و راح الحشد يكبر .. و تجاوزت عقارب الساعة موعد البدء بالمحاضرة بحوالي عشرين دقيقة !.. و لما يتفضل المحاضر .. و جلست أرقب الجالسين في الصفوف الأولى من القاعة ( المخصصة للمسؤولين درجة أولى و ثانية ثم ثالثة : و من بين هذه الفئة الأخيرة أمناء و أعضاء شعب حزبية بالإضافة لبعض " الوجهاء " و رؤساء الاتحادات النقابية ) و قد لفت انتباهي أن جلّهم يشتركون في شيء واحد : القناع الذي يخفي خلفه النفاق – تجاه بعضهم و تجاه مسؤولياتهم و تجاه حضورهم إلى هذا المكان .. فالثقافة آخر همومهم .. و المقاومة حدث و لا حرج . و ما أسكتهم عن الثرثرة سوى صعود امرأة قامت بتنبيه الحاضرين إلى ضرورة التقيد بالأماكن كما هو مدون على المقاعد .. و الدقائق تمر ببطء ثقيل . فينتابك إحساس بالقهر على لا مبالاتهم و بأنك مجرد رقم .. و هذه صفعة أخرى .
و أخيراً شرّف المحاضر برفقة المسؤولين في المحافظة .. و على وجوههم أقنعة من الجدية و السؤدد ! كذا . و صعدت المرأة إياها مرة أخرى لتعلن افتتاح مهرجان عمريت للثقافة برعاية وزير الثقافة - و قد ألقى محافظ طرطوس كلمة راعي المهرجان .. فجاءت الكلمة خالية من أي معنى ( مجرد كلام ) بحيث أنني لا أستطيع أن أتذكر أية فكرة مفيدة منها . سوى أنه رفعَ و نصبَ كما شاء . ثم صعدتْ من جديد لتعرفنا بالضيف .. و بأنه أشهر من أن يعرّف .. فالمعرف لا يحتاج إلى تعريف ! و لتضيف أنه يحمل شهادة في هندسة الإلكترون و شهادة أخرى فريدة من نوعها و وحيدة في الشرق الأوسط : في ابستيمولوجيا لا أذكر ماذا ..؟ و أنه رئيس مركز المعطيات و الدراسات السياسية .. ( لم أستطع تفسير شيء واحد : لماذا لا يعمل في مجال شهادته الفريدة من نوعها في الشرق !؟ )
و بدأت المحاضرة . و خاب ظني .
فعلى مدى ساعة و نصف من الزمن راح السيد عماد فوزي الشعيبي يسمعنا كلاماً يُفهم منه أننا في سوريا من أكثر الناس حكمة و حنكة و أننا نعرف كل ما تخططه لنا الدوائر الأمريكية و الأوروبية .. و أننا أفشلنا حتى الآن كل مخططاتهم .. و أن كل ما جرى في لبنان هو لصالحنا حتى الآن .. و تحدث السيد الشعيبي عن المحافظين الجدد فنعتهم باليسارية و بالتروتسكية و بالنازية و بالثورية و بالتدين و بأنهم ليسوا يهوداً و لا علاقة لهم بالصهيونية ؟!! و تحدث عن سيناريوهات ما قبل التجديد للرئيس اللبناني لحود و كأنه كان جالساً إلى جانب الرئيس السوري أو الفرنسي عندما كانا يتصلان ببعضهما أو أنه كان كاتب العميد رستم غزالي أو مستشار الحريري أو بري عندما كانوا يجتمعون ليقرروا مصير الرئاسة في لبنان أو صديقاً لريتشارد بيرل أو كولن باول .. نعم جاءت حكايته مسلية و تشبه إلى حدّ كبير الحكايات التي يرويها الكبار للأطفال .. فينام هؤلاء على وقع الحكاية و قد ارتسمت على وجوههم ابتسامة الرضى و السعادة .. أو يفتحون أعينهم على كل اتساعها دهشة لحجم الأسرار التي يعرفها الكبار . و ليستمروا في رؤية ما سمعوه من كلام جميل على شكل أحلام إلى حين أن يستيقظوا .. ولكن هيهات أن يستيقظوا ليكتشفوا حجم الوهم و بؤس الواقع .
و أنهى المحاضر كلامه عن الفعل الثقافي المقاوم ببضع كلمات أكد فيها أن المقاومة انتصرت و أن سورية شريك في النصر و أنه لا يحق لأحد أن ينكر علينا هذا الحق .. و ختم بأننا سننتصر لأننا في سورية " نتقنُ فنَّ قضم الوقت .. " و أوضح بيديه بحركات ممثل ناجح كيف يجري قضم الوقت عندنا .. و لكن دون أن يشير إلى أن التاريخ لا ينتظر و أن للزمن فعله و صيرورته .. بل هو أسرع من القضم بكثير .
و بعد انتهاء المحاضرة أعلنت المقدمة عن فتح باب النقاش و لكنها فوراً تمنت على الحضور الاختصار و فهم الناس الحكاية انتهت و أنه حان الذهاب للنوم أو لقضم الهموم فالمهم تخدير الناس بحكاية جميلة ..
و خرجت . و كان الجو رائعاً . فالنسمات العليلة كانت تسطو على الليل . و اجتزت الحديقة في وسطها ثم استدرت لألتف حولها تعويضاً عن مشوار لم أقم به .. و إذ بي أسمع أصواتاً صادرة عن سيارة مواكبة للشرطة تعلن عن مرور موكب مؤلف من عدة سيارات مرسيدس .. و انطلق الموكب لتناول العشاء على الأرجح ، الذي سيكلف ، و لا ريب ، ما يكفي لإطعام عشرات العائلات التي سوف تنام خاوية البطون و لا تحتاج لطقس المشي في مدينتي . و تذكرت أنني في وقت الظهيرة من نفس هذا اليوم كنت قد سمعت و رأيت موكباً تتقدمه سيارتا مرافقة بقيادة ضابط في الشرطة .. و كنت حينها انتظر صديقاً قرب مبنى المحافظة فاقتربت من سائق سيارة شرطة و سألته : و هل كلما جاء المحافظ إلى مكتبه تتقدمه سيارة المرافقة مع كل ما يصحب ذلك من قطع للسير ( و حركات أقرب إلى المواكبات التي نشاهدها على شاشات التلفزيون في لبنان ) حتى يعبر الموكب ؟ فأجابني و من " رأس مناخيره " : طبعاً . كيف لكان .. هيدا المحافظ . فابتعدتُ خوفاً من أن يزعق عليَّ .
علماً أن المسافة بين " قصر المحافظ و مكتبه " لا تتعدى المائة و خمسين متراً ..
و رحت أناقش في عقلي : لماذا في هذا الشرق نادراً ما يمارس الناس عملهم بحرفية .. أو لماذا يستهين الناس بأهمية المِهَنية . فصاحبنا الشعيبي استعاذ بالله أكثر من مرة و عبّر عن أسفه كلما كان يذكر أسماء المحافظين الجدد و ذلك لأن كلا منهم يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة ! و البعض منهم تتلمذ على يد ليو شتراوس .. و هم يتقنون عملهم و يحبونه و يسعون إلى ترجمة أفكارهم إلى واقع . و كم هم بالأخص مخلصون لطروحاتهم و لآرائهم .
أما صاحبنا الشعيبي فهو مهندس إلكترون يعمل في السياسة كمهنة دارجة في سورية و يمارسها كما يفعل كل الكثير من السوريين : كهواية و ليس كحِرفة . و هو ليس مسؤولاً عن أية إخفاقات او تحليلات غير موثقة .. إنه ببساطة يمارس البروباغاندا . و بالفعل : على يد من تتلمذ السيد الشعيبي في السياسة ؟ ( اللهم سوى على يد مسؤول حزبي ربما لم يقرأ كتاباً فلسفياً مهماً في حياته أو على يد ضابط أمن لا يقرأ أبداً .. ) . يا أخي : لماذا يترك الناس في بلدي مهنة كرسوا جلّ وقتهم لنيل الشهادة العليا فيها ؟ أليس لأنهم فشلوا في توفير عمل مربح مادياً و معنوياً في المجال إياه : فبتنا نجد طبيباً أو مهندساً يمارس السياسة بناء على جهد ذاتي و بدون أية أسس علمية و بدون المهنية أو الحِرَفية المطلوبة .. بينما الفلاسفة يتثاءبون في مكاتبهم أو في بيوتهم ! فلا أحد يسألهم رأيهم .
و إذا ما استثنينا أبيات الشعر التي قرأتها المُشرفة على الأمسية و التي تتحدث عن الروابط التاريخية بين عمريت و صيدون و قانا ، لكان بالإمكان القول أن الثقافة كانت غائبة تماماً عن المناسبة .
و تمنيتُ في سري أن تعود الروابط قوية بين طرطوس و عمريت و دمشق و بيروت و صيدا و بنت جبيل و عيتا الشعب جيدة و لكن من خلال الثقافة و الفلسفة و المقاومة بالضبط و ليس من خلال ضباط الأمن أو السياسيين الذين يغيرون مواقفهم كلما تطلبت مصالحهم ذلك .
و لساعات راحت مسحة من الكآبة و السوداوية الثقيلة تعربش على روحي .. لأنني كبرت و ما عدتُ أشعر بالفرح لمجرد حكايات جميلة أمام واقع لا يرحم .