في سنوية الثورة السورية: مواعيد معلومة ومصير مجهول


ياسين الحاج صالح
2022 / 3 / 19 - 20:24     

في هذا العام، 2022، يبلغ عمر الكيان السوري المعاصر 104 سنوات، وقع خلال نصفها بالتمام والكمال، 52 عاماً، تحت الحكم الأسدي. هذه الوقعة السوداء هي الواقعة الأساسية في تفسير الحال التعس لأقدم جمهورية عربية اليوم. فبقدر ما إن 104 سنوات مدة ليست بالطويلة في عمر بلد، فإن 52 عاماً زمن طويل جداً في أعمار الأنظمة السياسية. وهذا بخاصة إن كان 4% فقط من المحكومين يتجاوزون الستين، ما يعني أن أقل من مليون واحد من نحو 23 مليون سوري أكبر في السن من الحكم البعثي المتمادي منذ 59 عاماً. الانتداب الفرنسي على سورية، بالمقابل، استمر بالكاد 26 عاماً، نصف الأمد المتمادي للحكم الأسدي.
بفعل تركيبها الذي تحفزه نوازع السلطان، السيادة والعلو والقوة والأمن المطلق، أي بفعل تركيبة حكم بطريركية، رجعية التكوين، ومثيرة للتمرد، انتقلت سورية من كونها بلداً عالم-ثالثياً متخلفاً إلى بلد منتج للفظاعة واليأس واللاجئين. خرجنا من التخلف، لكن إلى البربرية مثلما رأى ميشال سورا منذ ثمانينات القرن العشرين، ودفع حياته ثمناً لما رآه. سورية عاشت حرباً أهلية مستمرة خلال السنوات الاثنين وخمسين الماضية، تفجرت مرتين بعنف شديد، بعد نحو عشر سنوات من حكم حافظ، ثم بعد نحو عشر سنوات من حكم بشار. سقط في الأولى عشرات ألوف الضحايا، ولم تكن ملفاتها طويت حين تفجرت الموجة الثانية من الصراع، المستمرة إلى اليوم، وقد سقط فيها مئات ألوف الضحايا.
والأرجح أن تطلعاً إلى كسب جيل إضافي في عمر هذه الدولة السلطانية كان محفزاً غير مصرح به في وعي أركان حربها. كان ما يقترب من ثلاثة عقود قد انقضت بين مذبحة حماه الكبرى في شباط 1982 وبين الثورة السورية، ولا بد أن نموذج حماه كان ثاوياً في تفكيرهم، وأنهم عولوا على سحق الثورة سحقة لا تقوم للمجتمع السوري بعدها قائمة لثلاثين عاماً أخرى على الأقل، بحيث يطول عمر النظام إلى ما بين مطلع أربعينات القرن وأواسطها، أي إلى حين يشيخ الجيل الأسدي الحالي من أمثال بشار الأسد وأخوه ماهر، ورجال مخابراتهم وقادة عسكرهم الأمني، ويبلغ الجيل اللاحق عمر الحكم. يقتضي الأمر في الحد الأدنى بقاء بشار في السلطة 14 عاماً على الأقل كي يصير حافظ الثاني، وهو في العشرين اليوم، في الرابعة والثلاثين، عمر أبيه وقت عُدِّل له الدستور كي يرث جده حافظ. وسيكون عمر بشار وقتها نحو سبعين عاماً، عمر حافظ الأول وقت موته.

والواقع أن هذا ممكن وميسور، إن اقتصر الأمر على الديناميكيات الداخلية السورية مثلما كان الحال بقدر كبير بعد حماه 1982. لكن لا يبدو الحال كذلك اليوم. سورية بلا داخل يذكر كي يكون للديناميكيات الداخلية أثر مهم. فمن أجل أن يدوم حكمها، دعت الأسرة الأسدية الإيرانيين وميليشيات تابعة لهم لحماية السلطنة المحدثة. ثم شاركها الحامي الإيراني في دعوة حامٍ ثان، روسيا، لتحقيق الغرض نفسه. وقد تحقق بالفعل، وحكم الأسرة ليس مهدداً اليوم من قبل أي سوريين. لكن أمره لم يعد بيده. فعدا عن أن ثلاثة أقسام من سورية تقع تحت سيطرة سلطات أخرى (فضلاً عن مرتفعات الجولان)، وأن نحو 30% من السوريين لاجئون في بلدان أخرى قريبة وبعيدة، فإن المتن السوري انقلب إلى محمية لا تحمي نفسها، ولا تتحكم بشروط دوامها. من يتحكم هم الإيرانيون والروس، قوتان قوميتان توسعيتان، تقيمان استقرارهما على نزع استقرار ما حولهما، مثلما فعلت الأسدية بالذات لنحو ثلاثين عاماً بعد التدخل في لبنان عام 1976. هذه السياسة تحمل تناقضاتها التي قد تقود إلى توترات حادة أو حتى تفجرات حربية، مثلما يحدث اليوم إثر الغزو الروسي لأوكرانيا. انفتح بهذا الغزو باب لا يعرف إلى أين يفضي، ولا متى يغلق، ومن المستبعد ألا تكون له آثار سورية.
على أنه ليس هناك ما يشير إلى اليوم إلى أن حرب روسيا الراهنة في أوكرانيا ستؤثر على سيطرتها السورية وحمايتها للنظام. ليس هناك طرف سوري معارض محترم يستطيع أن يستفيد مما يسنح من ظروف، ويضع انسحاب القوات الروسية من سورية على جدول النقاش الدولي. يبقى صحيحاً مع ذلك أن دوام الحكم الأسدي رهن بديناميكيات إقليمية ودولية، ليست غير مستقرة فقط، وإنما هي سائرة في مسالك وعرة، كثيرة المنعطفات، ولا يتوقع أن تغيب منها المفاجآت.
الولايات المتحدة ليست غائبة، بطبيعة الحال، عن التفاعلات الخاصة بسورية، ويبدو أنها تعرض اليوم تشدداً محسوباً حيال بشار الأسد ونظامه. وهي تعود إلى الكلام عن محاسبة النظام على جرائمه، وهذا في سياق لا يبدو منقطع الصلة بحرب روسيا في أوكرانيا. لكن هذا قليل جداً ومتأخر جداً، بحسب تعبير إنكليزي مأثور. إلى اليوم تقريباً، كانت لدينا روسيَتان لا واحدة في سورية، إحداهما هي الولايات المتحدة التي لم تُدِن، لا هي ولا أياً من الدول الغربية، التدخل الروسي في سورية، بل رحبت به ضمناً على الأقل. وفي حين تقترب العلاقة بين القوى الغربية وروسيا من الحرب بعد غزو بوتين لأوكرانيا، فإن العلاقة بين الأميركيين والروس في سورية لم تكن يوماً تعايشية وأبعد عن التنازع مثلما كانت في سورية منذ الصفقة الكيماوية الخسيسة في أيلول 2013. بل إنه يرجح لاحتمال التوقيع على اتفاق نووي مع إيران، يتمخض عن رفع العقوبات عن نظام الملالي، أن يزيد الأميركيين روسيّة في سورية ولا ينقصها. وإن لم يطلق الاتفاق المحتمل اليد الإيرانية الطليقة أصلاً في سورية (والعراق ولبنان واليمن)، فإنه لن يقيدها. ومعلوم أن إيران ليست قوة احتلال في سورية فقط، وإنما هي عاملة على تغيير تركيبة البلد الديمغرافية على نحو يستأنف عمل الحكم الأسدي في التهجير ويبني عليه.
وتعرض تركيا، وهي قوة رابعة فاعلة في الشأن السوري حذراً، متصلاً بتجارب غير مشجعة مع شركائها الأطلسيين. فلا هي تؤيد روسيا البوتينية ولا هي تعاديها إلى اليوم. سبق لتركيا أن فعلت شيئاً كهذا في مطلع الحرب العالمية الثانية، ونالت لواء اسكندرون السوري كمكافأة من فرنسا كي لا تنضم إلى دول المحور.
والقوة الخامسة المهمة، إسرائيل، وهي روسية جداً بدورها في سورية، تبدو باحثة عن الانتفاع من الحرب في أوكرانيا مثل تركيا والجميع، إلى درجة تباعد ملحوظ عن راعيها الأميركي.
في كل حال، مصير سورية، والنظام مثل الجميع، هو مسألة تفاعل بين هذه القوى لا يبدو معرضاً لتغيرات درامية. لأسباب أوكرانية قد تصير أميركا أقل روسية بقليل في سورية، لكن لأسباب إسرائيلية و"إرهابية"، من المستبعد أن تصير معادية لروسيا.
بعد 52 عاماً من الحكم الأسدي، و59 عاماً من الحكم البعثي، و11 عاماً من الثورة السورية، سورية اليوم مجهولة المصير مثل 130 ألفاً من المغيبين القسريين. هذا رهيب، لكننا سلفاً وراء كل شكاية. وحده هذا المصير المجهول، للأفراد كما للبلد، ينادينا، يدعونا بلا توقف للتساؤل والبحث.