من عطّل «الطائف»؟!


سعد الله مزرعاني
2022 / 3 / 19 - 11:36     

وسط انسداد قاتل، تتردّد، مرة جديدة، مقولة ضرورة تطبيق «اتفاق الطائف» نصّاً وروحاً. يردّدها معظم أهل النظام على تنوّع وتباين سياساتهم وعلاقاتهم الداخلية والخارجية. والجديد الآن، تبنّي هذه المقولة، مع فارق المقاصد والأسباب، من قِبل معظم المجموعات المدنية: تلك التي ترى نفسها في عداد قوى التغيير والثورة، أو تلك التي تجاهر بأولوية نزع سلاح المقاومة، تماماً كما تطالب واشنطن وتل أبيب وحليفاتهما في الخليج.

أوّل استنتاج من ذلك، أنه بنظر هؤلاء وأولئك، فإن «الطائف» لم ينفّذ. والثاني أنهم، في سياساتهم ومرجعياتهم ومواقفهم، لا يملكون بديلاً يتبنّونه ويطمئنّون إليه ويشكّل جواز عبورهم إلى محاولة كسب تأييد المواطنين وثقتهم وأصواتهم. التباين الكبير القائم بين السلطة والشارع، في المواقع والمواقف، يقود إلى استنتاج ثالث، وهو أن هؤلاء لا يتبنّون بالتأكيد فهماً موحّداً لـ«تسوية الطائف» ولا لأسباب عدم التنفيذ ولا لصيغ التنفيذ المتوخّاة من قبل هذا أو ذاك منهم. في الماضي، خضع تطبيق «الطائف» للتوازنات القائمة الداخلية والخارجية في حالتَي اعتماد بعض بنوده وتنفيذها، أو في حالة إهمالها وعدم تطبيقها أو تطبيقها بشكل جزئي أو مشوّه أو متعارض تماماً مع النص والمضمون الدستوريين، بعدما أُقرّت ودخلت في صلب الدستور في القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21/9/1990.


ينبغي ملاحظة أنه بالنسبة إلى القوى والسلطات التي حكمت البلاد منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم، وكذلك بالنسبة إلى مرجعياتها الخارجية العربية والدولية، كان الاتفاق كاملاً بشأن تعطيل البند المتعلق بتحرير مجلس النواب والإدارة عموماً من القيد الطائفي. هل سيكون الأمر كذلك بالنسبة إلى القوى الجديدة التي نشأت خصوصاً بعد 17 تشرين الأول والتي يغلب عليها الطابع المدني؟ ليس في المتناول ما يسمح بالجزم بأن هذه القوى يمكن أن تلتزم «بتطبيق الطائف نصاً وروحاً» كما تعد. السبب الأساسي أن مرجعياتها الخارجية هي، أيضاً، الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وحلفاؤها. هذه المرجعيات ذات أولوية مطلقة تتجسّد، الآن، في هدف نزع سلاح المقاومة. ثم إنها، من جهة ثانية، تواصل سياسة تفتيت كل بلدان المنطقة وإغراقها بالانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية والقومية، من أجل إضعافها والهيمنة عليها ووضع اليد على مصائر بلدانها جميعاً. وهي لذلك لن تشجع اعتماد توجهات وسياسات وإجراءات قانونية ودستورية مضعفة للطائفية والمذهبية، طالما أنها وسواها من عوامل الانقسام سلاح مجرَّب وفعّال لإدامة الانقسامات وتغذية الصراعات. وعليه يمكن القول، كاستنتاج رابع أساسي، إن القوى الجديدة لن يكون موقفها أفضل من القوى القديمة. والحال أنّ كل تغيير لا يبدأ بتحرير النظام السياسي والإدارة والمجتمع من الطائفية، لا يمكن التعويل عليه لمعالجة المشكلة الأساسية.
من هم الذين لم ينفذوا البنود الأساسية في «تسوية الطائف» لعام 1989؟ جاء في البند الثالث من وثيقة «الطائف» تحت عنوان «تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي: استعادة سلطة الدولة حتى الحدود الدولية مع إسرائيل تتطلّب الآتي: أ- العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة». وهكذا، بعد إقرار التسوية في المجلس النيابي وإدخالها في صلب الدستور، توجّه وفد من الرؤساء آنذاك، إلياس الهراوي وحسين الحسيني وعمر كرامي، أواخر عام 1991 إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي جورج بوش الأب. أمّا الهدف فمطالبته بالوفاء بالوعد الذي قطعته واشنطن، من ضمن «تسوية الطائف»، بأن تسحب إسرائيل قواتها من كل الأراضي اللبنانية التي لا تزال تحتلها منذ عام 1982. لكن واشنطن، منذ عدوان السويس عام 1956، لم تفعل سوى دعم الاعتداءات الإسرائيلية بشكل كامل وبغير حدود.


إن عدم تطبيق القرار 425 نتيجة تعنّت تل أبيب وعدوانيّتها وتواطؤ واشنطن وتشجيعها، دقَّ المسمار الأوّل في نعش «تسوية الطائف». استمرار الاحتلال الإسرائيلي سوَّغ الوصاية العربية والدولية وبرَّرها، وكرَّس مناخ الانقسام الداخلي بشأن العلاقات الداخلية بين اللبنانيين وعلاقاتهم مع الخارج. كان من ثمار ذلك، أوّلاً، تعاظم الدور السوري الأمني والسياسي والإداري (وصاية شبه كاملة)، وثانياً استمرار المقاومة الشعبية كعامل كامل المشروعية لمواصلة تحرير المناطق المحتلة. وهو، ثالثاً، وفّر مبرِّراً إضافياً لانتهاك سيادة الدولة من الخارج والداخل في الوقت عينه: من الخارج عبر الاحتلال والوصاية، ومن الداخل عبر بتر «الطائف» وتعطيل الإصلاحات واستباحة السلطة والدولة من قبل ميليشيات الحرب التي ما لبثت أن تحاصصت كل شيء في مسار نهب وسطو وفساد أدّى إلى الكارثة التي يعيشها اللبنانيون ولبنان، وخصوصاً منذ 17 تشرين الأول 2019. بكلام آخر، قاد استمرار الاحتلال الإسرائيلي إلى تعاظم النفوذ السوري ومنع الإصلاحات التي كانت العنوان الثاني الأساسي في التسوية، كما قاد إلى حكم عجيب غريب مُثلّث الرؤوس ركيزته التقاسم والتحاصص في الداخل، والتبعية السياسية والاقتصادية إلى الخارج.
لا ينبغي أن ننسى ما حصل بعد ذلك، وكنتيجة للغزو الأميركي للعراق عام 2003. ففي عام 2004، شهد لبنان سقوطاً مدوّياً للستاتيكو الذي حكمه طوال 15 سنة: فكان القرار 1559، والاغتيالات، وفرض انسحاب القوات السورية من لبنان، وانتقال مركز القرار من عنجر (السورية) إلى عوكر (الأميركية). في امتداد ذلك، تفاقمت الأوضاع وتعزّزت الانقسامات وتعمّمت وتعاظمت المحاصصة ومعها النهب والفساد وغياب المحاسبة والانهيار المأسوي الكبير والمتمادي.


بيد أن أزمة لبنان الطاحنة الراهنة ليست ثمرة اعتداءات وارتكابات أميركية صهيونية فحسب. هي أيضاً ثمرة مُرّة من ثمار خلل داخلي في النظام والمنظومة اللذين حكما لبنان منذ الاستقلال، وخصوصاً منذ تسوية اتفاق الطائف لعام 1989. لقد غُيّبت القوى الإصلاحية الوطنية عن الشراكة في التطبيق. ومن شارك منها جرى إقصاؤه سريعاً. القوى «الحديثة» ذات مقاربة عائمة لا تسمن ولا تغني. هذا فضلاً عن تشتّتها، فإنّ بعضها بات يتبنّى أجندة أميركية ما يخرجه إلى صفوف الثورة المضادة. وهي، عموماً، تلعن الطائفية، لكنها لا تعلن موقفاً واضحاً أبداً من نظامها! وإذا أضفنا عجز قوى التغيير الوطني عن التوحّد وفق برنامج وأولويات وخطة، فقد بات البلد وشعبه أمام معادلة خطيرة وصفها المفكر والقائد الشيوعي الإيطالي غرامشي كما يأتي: «يموت العالم القديم، والجديد لم يولد بعد. في هذا الجو المضيء ــــ المعتم ،ترتع الوحوش»!