من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأُخرى (6)


مالك ابوعليا
2022 / 3 / 17 - 23:52     

الكاتب: الصحفي السوفييتي أوليغ ايفانوف

ترجمة مالك أبوعليا

التدخل السافر في شؤون الاتحاد السوفييتي
عندما كانت العلاقات السوفييتية الصينية أوائل الستينيات تزداد تعقيداً، انتقلت بكين الى حملات التدخل العلني في الشؤون الداخلية للحزب الشيوعي السوفييتي والدولة السوفييتية، على الرغم من أن هذا التدخل لم يتعارض فقط مع مبادئ العلاقات بين الدول الاشتراكية المُعبّر عنها في معاهدة الصداقة والتحالف والمُساعدة المُتبادلة السوفييتية-الصينية المؤرخة في 14 شباط عام 1950، بل وأيضاً تتعارض مع المبادئ الأولية للعلاقة بين الدول جميعها.
قررت القيادة الصينية، اعتقاداً منها أن لها الحق في شن دعاية مُعادية للسوفييت، ليس فقط في الصين ولكن في الاتحاد السوفييتي أيضاً، أن تظهر بمظهر "مُربي ومُعلم" الشعب السوفييتي. قامت المؤسسات الصينية الرسمية المُعتمدة في الاتحاد السوفييتي والسياح والطلاب الصينيين وموظفي القطارات بين بكين وموسكو وأعضاء الوفود الصينية بمُمارسة الدعاية المُعادية للسوفييت في الستينيات. لقد حاولوا نشر منشورات مُشينة على الشعب السوفييتي ونشر الشائعات والافتراءات الاستفزازية. استخدموا البرامج الإذاعية لإلقاء الخُطَب حول كيفية "بناء الاشتراكية": و"الدفاع عن الثورة" و"مُحاربة النظام السوفييتي القائم" وما الى ذلك.
فركت العناصر الغربية المُعادية للسوفييت أيديهم فرحاً في الوقت الذي كان مُمثلو بكين في الخارج ينشرون يوماً بعد يوم أبشع الأكاذيب حول الحزب الشيوعي السوفييتي والشعب السوفييتي حول "انحلال المُجتمع السوفييتي" و"عودة الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي".
رفضت وزارة الخارجية الصينية في مُذكرتها المؤرخة 7 آذار 1964 الاحتجاجات السوفييتية ضد الانتهاك الجسيم لسيادة الاتحاد السوفييتي وأعلنت أن السُلطات الصينية تحتفظ بحق مواصلة أنشطتها. كانت بكين لمدة عشرين عاماً تُحاول، بحماسةٍ-كان يُمكن أن تُستخدم لغرضٍ أفضل- تحريض الشعب السوفييتي ضد الحزب الشيوعي والقيادة القائمة.يكتظ بثها الاذاعي الذي يصل مجموعه الى 56 ساعة يومياً بالعديد من لغات شعوب الاتحاد السوفييتي بالنداءات الاستفزازية من جميع الأنواع. يُمكن للمرء أن يصف مثل هذه الطموحات والدعوات بأنها شريرة عندما تأتي من أعداء الاتحاد السوفييتي الطبقيين. ولكن ماذا يُمكن للمرء أن يقول عن مثل هذه الأشياء عندما تأتي من اولئك الذين يتعهدون بالولاء للاشتراكية؟ لا يَسَع المرء الا أن يتسائل أن بكين تستغرق وقتاً طويلاً لكي تُدرك عدم جدوى مُحاولاتها لدق اسفين بين الحزب الشيوعي والشعب السوفييتي، وبين اللجنة المركزية للحزب وبقية أعضاء الحزب. قام الشعب السوفييتي مراراً وتكراراً باحتجاجات كثيرة ضد أنشطة الماويين التخريبية.
في واقع الأمر، كان من الواضح بالفعل في أوائل الستينيات أن طبيعة الأنشطة المُعادية للسوفييت لا يُمكن أن تُعزى فقط الى الخلافات الايديولوجية بين الحزبين الشيوعيين الصيني والسوفييتي كما زعُمَ الجانب الصيني. علاوةً على ذلك، أصبحَ من الواضح تماماً أن ما يُسمى بالخلافات الايديولوجية في الرأي حول "طُرُق تنفيذ الثورة" كانت وما زالت ذات أهمية بالنسبة لبكين. كانت هناك حاجة اليها فقط كذريعة لأعمالها المُعادية للسوفييت واسعة النطاق، والتي كانت في الأساس حرباً سياسية ضد الاتحاد السوفييتي وأصدقائه. لقد نسيت بكين منذ فترةٍ طويلة المُناقشة حول المشاكل الأساسية في عصرنا والتي استخدمها الماويون كذريعة لتأجيج الصراع. هل يُمكن، في الواقع، تبرير الاستفزازات المُسلحة على الحدود السوفييتية الصينية وأعمال التخريب المُباشرة ضد الاتحاد السوفييتي بالخلافات الايديولوجية؟ إن "البرنامج" الفعلي للماويين يُعادل النضال ضد الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية الأُخرى بكل الوسائل والطُرُق ولا يُمكن لأي قدرٍ من الحُجج المُجردة أن يُخفي هذه الحقيقة. هناك حديثٌ في بكين الآن عن الحاجة الى إقامة "جبهة أوسع" بمشاركة الدول الامبريالية من أجل "حملة صليبية عالمية ضد الاتحاد السوفييتي".
ان قادة بكين يقولون بأنهم سيشنون كفاحاً لا هوادة فيه من أجل "خطهم العام" لـعشرة آلاف سنة" ويُحاولون فرض هذا "الخط" على جميع القوى الثورية في عصرنا. ليس لدى الحزب الشيوعي السوفييتي والأحزاب الشقيقة في جميع أنحاء العالم المُخلصين لنضالهم ضد الامبريالية، أي نية للموافقة على حلٍ وسط في المسائل المبدأية. لن يحيدوا ذرةً عن الماركسية اللينينية وسيُناضلون بلا توقف من أجل تماسك المُجتمع الاشتراكية والحركة الشيوعية العالمية بأسرها ومن أجل الالتزام بالماركسية اللينينية. بغض النظر عن مدى حدة الخلافات في المجال الايديولوجي، فإن الاتحاد السوفييتي لم ينقلها أبداً الى مجال العلاقات بين الدول مع الصين.
بمجرد أن واجه الحزب الشيوعي السوفييتي صعوباتٍ في علاقاته مع الحزب الشيوعي الصيني، لم يقصر نفسه على التصريحات العامة، ولكن تمشياً مع روح الأُممية، قدم مُقترحاتٍ مُحددة لاستعادة العلاقات الاقتصادية والثقافية وتنسيقها السياسات الخارجية وتطويرها. حدد خطاب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في 29 تشرين الثاني عام 1963 والوثائق الأُخرى الصادرة عنه وعن الحكومة السوفييتية برنامجاً واسعاً لتطوير العلاقات السوفييتية الصينية.
لكن في ذلك الوقت لم يكن لدى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني مُسبقاً أي نية للرد على مُبادرات الحزب الشيوعي السوفييتي. مُتجاهلاً جميع المُقترحات السوفييتية البناءة، وضع الحزب الصيني في في رسالته المؤرخة 29 شباط عام 1964 ذرائع لا حصر لها لمُفاقمة العلاقات المُشتركة وفبرك أبشع التزييفات. كان كل شيء يُشير الى حقيقة أن قيادة الحزب الشيوعي الصيني بعيدةً كُل البُعد عن تطبيع الوضع، وكانت تسعى لزيادة التوترات بين الصين والاتحاد السوفييتي الى ذروتها وكانت تنتهج سياسةً مُعادية للسوفييت بشكلٍ صريح.
ومن الأدلة البليغة على ذلك المقالتان "الثامنة" و"التاسعة" التي نشرتها صحيفة الشعب الصيني عام 1963 في سلسلة ما سُمّيَ بـ"الردود" على الرسالة المفتوحة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في 14 تموز عام 1963، والتي تعاملت مطوّلاً مع العلاقات السوفييتية الصينية. كانت المقالات مليئةً بالتأكيدات السخيفة حول النظام الاجتماعي السوفييتي وأساءت للحزب الشيوعي السوفييتي. فَشلَ المُزيفون في نوبة غضبهم الحاد، في رؤية أنهم لم يوجهوا اللوم الى الاتحاد السوفييتي بقدر ما كان اللوم موجهاً ضد الأفكار والمبادئ الأساسية الاشتراكية: المُلكية العاملة لوسائل الانتاج، والدور القيادي للحزب الشيوعي والديمقراطية الاشتراكية. واصلت بكين، مع مرور الوقت تصعيدها للعداء للسوفييت وانحيازها للامبريالية، وهو الموقف الذي سُرعان ما تحوّل الى شراكةٍ معها.

***

ينتمي مكان بارز في ترسانة التزوير الماوي، الادعاء بأن الاتحاد السوفييتي سعى دائماً الى وضع الصين تحت "سيطرته العسكرية". يُزعَم، على سبيل المثال، أن الاتحاد السوفييتي اقترح على الصين عام 1958، انشاء بحرية سوفييتية صينية مُشتركة، وأنه حتى أصر على وضعها تحت ظل قيادةٍ مُشتركة. نَشَرَ الماويون مثل هذه التلفيقات حتى من خلال القنوات الرسمية: في تشرين الأول عام 1973 أدلى وزير الخارجية الصيني بتصريحٍ يحمل هذا المعنى من على منبر الجمعية العامة للأُمم المُتحدة. أشار المسؤولون الصينيون الى هذا الموضوع بإنتظام في المُحادثات.
ما هي الحقيقة؟ تقدمت الحكومة الصينية عام 1958 بطلبٍ رسمي الى الاتحاد السوفييتي لتعزيز قواتها البحرية. وبسبب الطبيعة المُعقدة لهذه المسألة، اقترح الجانب السوفييتي اجراء مُشاورات لدراسة احتمالات تلبية طلب الصين وايجاد حل مُشترك للمسألة. وهكذا، كانت النُقطة المطروحة هي تحديد نوع البحرية التي تحتاجها الصين، من أجل اجراء مُناقشة مع المُمثلين الصينيين الأكفّاء حول ما هي المعدات المطلوبة وما الذي يُمكن للاتحاد السوفييتي أن يفعله بهذا الصدد، وليس تشكيل نوع من "الأُسطول المُشترك" تحت "قيادة مُشتركة".
لكن ماو تسي تونغ وأنصاره شوهوا تماماً طبيعة المُقترح السوفييتي وحولوه الى مُقامرة عديمة التدقيق وذريعة لمُفاقمة العلاقات مع الاتحاد السوفييتي. اعترف ماو تسي تونغ ذات مرة أن طلب تشكيل البحرية الصينية قد جاء من الجانب الصيني، قال أن المُمثلين الصينيين "قد وضعوا مسوّدة المشروع المعني، ونتيجةً لذلك أرسل الطلب الى موسكو". وأكد الجانب السوفييتي في رده أن نظراً لأهمية الموضوع سيكون من الأنسب مُناقشته في موسكو.
بعد تلقيه تفسيراتٍ مُتكررة، أُجبِرَ ماو على الاعتراف بأن "كل الغيوم الداكنة قد تبددت" و"تم سحب المسألة". وهكذا فإن مسألة "البحرية المُشتركة" مُلفقة من أولها الى آخرها ومن الواضح أن القيادة الصينية تستغلها لأهداف استفزازية.
ان مسألة بناء محطة إرسال لاسلكي للتواصل مع السفُن في المُحيط الهادئ يصورها الماويون في ضوءٍ مُماثل. أشار الماويون في تصريحاتهم الى هذه الحادثة على أنها مُحاولة من قِبَل الاتحاد السوفييتي "لانتهاك سيادة الصين".
في الواقع، أوضح المسؤولون السوفييت رفيعو المُستوى في المشاورات السوفييتية الصينية التي عُقِدَت عام 1958 حقيقة أنه لا يُمكن أن يكون هناك شك في أن مُلكية الاتحاد السوفييتي للمحطة "تنبغي أن تكون صينية بالكامل". اقترح الجانب السوفييتي أن يتم التوصل الى اتفاق بشأن بناء المحطة على قدم المُساواة وتحدث عن امكانية استخدام الجانب الصيني لمحطات الراديو السوفييتية في الشرق الأقصى لاحتياجاته الدفاعية. لم يكن لدى المُمثلين الصينيين أي اعتراضات على المشروع، بل قالوا أنه "يُمكن تمويل المحطة من قِبَل الحكومة الصينية واستخدامها مع الاتحاد السوفييتي بشكلٍ مُشترك". لم يكن الأمر رغبةً في الاعتداء على سيادة الصين بأي شكلٍ من الأشكال، بل كان المُقترح نابعاً من رغبة الاتحاد السوفييتي في مُساعدة جمهورية الصين الشعبية. بمُجرّد أن شكك المُمثلون الصينيون عن الحاجة الى مثل هذه المحطة، أسقط الجانب السوفييتي المسألة فوراً.
تُظهر هذه الحقائق وغيرها من تاريخ العلاقات السوفييتية الصينية أن الماويين كانوا يستخدمون جوانب متنوعة من العلاقة بين الدولتين لتصوير أنفسهم على أنهم "ضحية" أو بالأحرى لخلق ذرائع لشن حملات مُعادية للسوفييت. الآن، صار جوهر أعمالهم الاستفزازية المُعادية للسوفييت الذي يعود الى الستينات، والذي تم اخفاءه بعناية، واضحاً في الثمانينات: استمر خلق الذرائع لتقويض العلاقات السوفييتية الصينية.

ترجمة من كُتيّب:
Who is to blame? How differences arose between china s Maoist leaders and the USSR and other Socialist Countries- Oleg Ivanov
Novosti Press Agency publishing House 1981