هل من حمائم في الناتو


جاسم ألصفار
2022 / 3 / 13 - 01:07     

هل من حمائم في الناتو؟
د. جاسم الصفار
10-03-2022
التمدد الواسع النطاق لحلف شمال الأطلسي نحو الشرق، والذي بدأ منذ ما يقرب من ربع قرن، لم يقوِّ الحلف سواء عسكريًا أو سياسيًا. فمن وجهة نظر عسكرية، انضمت إلى الحلف دول مساهمتها في دعم الجهد المشترك لتقوية الحلف ضئيلة للغاية، بينما كانت هذه الدول الحديثة الانضمام الى الحلف هي الأعلى صوتا في المطالبة بحقوق متساوية، وفقا لميثاق الحلف، مع الاخرين من أعضاءه المؤسسين. وهذا ما جعل الحلف يواجه مشاكل جديدة تفقده المرونة الكافية في صياغة وتبني تكتيكات عمله.
كانت نتيجة التوسع وضم بلدان لها تاريخ مختلف، ولها طموحات ومخاوف نابعة من ذلك التاريخ، عدم انسجام في تصور التهديدات وترتيبها من حيث الاهمية. وتبعا لذلك أصبح من الصعب صياغة موقف موحد من خطر لا يقلق بنفس القدر، على سبيل المثال، كندا والبرتغال وليتوانيا واليونان وتركيا وأيسلندا وبولونيا واستونيا على حد سواء.
ومع ان هذا التنوع كان قد شتت مهمة الناتو في بلورة أهداف ما بعد الحرب الباردة. لكن الحلف بقي محافظا على سياق ادارته البيروقراطية المهنية عند مناقشة هذا الموضوع من قمة الى أخرى. خاصة وان هنالك مجموعة صغيرة فعالة من دول الحلف هي التي تتولى الوظائف القيادية في الحلف وهي التي تهتم بتنفيذها دون أي اعتبار لحجم الدعم الذي يقدمه الأعضاء الاخرون في الحلف.
عندما أدى منطق تطورات ما بعد الحرب الباردة إلى صراع مع روسيا، بدا وكأن مسألة الأهداف واضحة، خاصة وأنها في سياق مماثل لما كانت عليه فترة الحرب الباردة مع اختلاف في طبيعة الصراع الأيديولوجي الذي لم يعتبره الغرب جوهريا، خاصة وانه اختلق مزاعم عن طموح روسيا لإحياء الاتحاد السوفيتي السابق.
الا أن المواجهة مع موسكو اندلعت، هذه المرة، على وجه التحديد حول تلك البلدان التي شملها التوسع المطرد لحلف شمال الأطلسي كأساس للأمن الأوروبي. المنطق الذي تعكز على نتاج الحرب الباردة واستثمار "إرث" الجانب الخاسر - المعسكر الاشتراكي السابق وأراضي الاتحاد السوفياتي السابق. وهذا ما اقلق روسيا ودفعها الى المطالبة بالالتزام بعهود ومواثيق قطعها الغرب على نفسه، وعلى رأسها عدم توسع حلف الناتو نحو الشرق باتجاه الحدود الروسية. تبلورت تلك المطالب، في الأشهر الأخيرة، بصيغة محددة عٌرفت بالضمانات الأمنية، التي شكلت تحد صارخ لحلف شمال الأطلسي.
رفض الغرب الانصياع لمطالب روسيا بالضمانات الأمنية، وكان في مقدمة الرافضين دول شرق اوربا الحديثة الانتماء لحلف الناتو. وإذا كان من السهل إخفاء عدم الانسجام في مواقف أعضاء الحلف في الأوقات الطبيعية الهادئة، فأن الدول الاوربية الأهم في الحلف، بحاجة إلى اتخاذ مواقف في الفترات الحرجة تأخذ بنظر الاعتبار مصالحها وعبث التضحية بها من أجل دول أخرى يهيمن على تفكيرها هاجس الفزع من الجار الروسي. على ان تلك الدول التي ترسم سياسة الحلف تدرك أيضا أن النأي بالنفس قد يقوض أساس الحلف. ببساطة، يبدو أنه عندما اتخذت قرارات لتوسيع الناتو، لم يتوقع أحد بجدية أنه يمكن المطالبة بالتزامات دفاعية.
لذا ففي 4 مارس الجاري، عندما انعقدت قمة حلف شمال الأطلسي لمناقشة البند الرئيسي على جدول أعمالها، موضوع الرد على العملية العسكرية التي نفذتها روسيا لنزع السلاح واجتثاث النازية في أوكرانيا. في كييف، على ما يبدو، كانوا يأملون حقًا في ان يخرج دول الحلف بقرار يفرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، أو على الأقل، فوق مناطقها الغربية، والتي من خلالها يمكن مد أوكرانيا بأنواع خطيرة من الأسلحة القتالية بحرية وأمان من قبل أعضاء الحلف. الا ان دول حلف الناتو الغربية بددت أحلام كييف ومعها دول اوربا الشرقية بتمسكها بمواقف محكومة بميزان القوى الواقعي مع تضحيتها بقسط كبير من سياستها البراغماتية.
اعلنت أنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية الألمانية، بصراحة أن "الناتو لا يمكن أن يتدخل في هذه الحرب"، لأن مثل هذا التدخل سيهدد أوروبا بأكملها بـ "تصعيد لا نهاية له". والحلفاء في التحالف، بحسب بيربوك، "لهم نفس الرأي" مع بلدها. لا شك في انها كانت، الى حد ما على حق، بعد خطاب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والذي، مع أضافته تفاصيل براغماتية إلى التصريحات العامة لزميلته الألمانية، الا ان كلمته كانت مشابهة تمامًا في المعنى (والشكل أيضًا) لكلمة بيربوك.
كما أوضح وزير الخارجية الامريكية بالتفصيل للصحفيين المجتمعين في المؤتمر الصحفي الذي تبع لقاء القمة: إن محاولة إنشاء منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا ستعني أن القوات الجوية والدفاع الجوي لحلف شمال الأطلسي عليها إسقاط أي طائرة مقاتلة تابعة للقوات الجوية الروسية. وبشكل لا لبس فيه "من شأنه أن يؤدي إلى توسيع العمليات العسكرية على أراضي أوروبا". واضاف كبير الدبلوماسيين في واشنطن: "أعرب الرئيس بايدن عن رأيه بشكل لا لبس فيه: ليس لدينا أي نية على الإطلاق لخوض حرب مع روسيا". هذا كل شيء، القضية مغلقة بالنسبة للولايات المتحدة، وليس هناك أي مغزى وآفاق أخرى لها.
كما ان الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، صرح مرارا وتكرارا منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا: "لن تكون هناك طائرات للتحالف في سماء اوكرانيا، ولا قوات برية لـ " شمال الأطلسي "على أراضيها". مؤكدا في نفس الوقت "نحن مسؤولون عن منع تصعيد هذا الصراع و" انتشاره "خارج حدود أوكرانيا". علاوة على ذلك، فقد كرر ستولتنبرغ كلمة بكلمة تصريح بلينكن "منطقة حظر الطيران تعني تصادمًا مباشرًا بين قوات حلف شمال الاطلسي والطيارين الروس. وبالتالي حرب عالمية ثالثة لا مفر منها. على الأقل على المسرح الأوروبي. وهذا يعني، "المزيد من المعاناة".
وحتى رئيس الوزراء البريطاني، المعروف بتصريحاته الهوجاء المناصرة لنظام الحكم في كييف، صرح لصحيفة نيويورك تايمز ، إن ما يحدث في أوكرانيا ليس صراعا مع حلف شمال الأطلسي ولن يتحول إلى صراع معه.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا لم يكن موقف جميع أعضاء الحلف. فعلى سبيل المثال، يمكن ذكر النداء الناري لرئيسة ليتوانيا السابقة، داليا جريبوسكايت، والتي دعت فيه صراحة حلف شمال الأطلسي "لإعلان الحرب على روسيا"، لأنه، في رأيها، ببساطة لا يوجد مخرج آخر في الوضع الحالي. من الواضح أن الرئيسة السابقة المضطربة لدولة صغيرة من دول الحلف، تخيلت أنها استراتيجي عسكري عظيم، لذا تساءلت: "يمكننا التدخل في يوغوسلافيا وليبيا وأفريقيا وأفغانستان وسوريا. فلماذا لا نستطيع هنا ايضا؟" على ما يبدو، لا ترى أي فرق بين هذه الدول وروسيا في وضعها الحالي. كما أنها ليست على علم بما سيحدث لبلدها تحديدًا في حال حدوث مثل هذا السيناريو.
وبنفس الروح تقريبًا، كان الخطاب الذي ألقاه فلاديمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا الذي انتقد "الحلفاء" بشدة، متهما إياهم بالتراجع عن وعودهم والتخلي عن بلاده في أكثر الأوقات حرجا. واعتبر القمة التي اتخذ فيها الحلف قرارا بعدم التدخل في الأحداث في أوكرانيا "مرتبكة" و "ضعيفة" وخيانة لـ "النضال من أجل حرية أوروبا". واضاف الرئيس الاوكراني بحنق وخيبة أمل أنه من الآن فصاعدًا "ماتت كل الوعود والضمانات الأمنية"، وكذلك "القيم" الاوربية الأخرى.
وأخيرا، يجب التأكيد على حقيقة تاريخية لا جدال فيه، وهي أن ليس في حلف الناتو حمائم، وانه أنشئ ليكون سلاح انكلوساكسوني للهيمنة العنصرية على العالم. على أن الدب الروسي اجبر الناتو، وخاصة الدول الغربية المتحكمة في قراره، على تنحية الديماغوجية جانبًا والتفكير في المهام والمصالح وحدود الممكن.