فولكر بيرتس: يريد ادخال -الحضارة- للسودان


محمود محمد ياسين
2022 / 3 / 8 - 02:07     

أو فولكر بيرتس: حُمْق وخداع وأسئلة غير مبصرة!!

توطئة
فيما يخص التطورات السياسية في السودان فانه من الغفلة عزلها عن الصراع الحالي المضطرم بين الدول الكبرى على الساحة العالمية؛ ومن دوافع هذا الصراع استهداف الدول الفقيرة بتصدير الازمة التي يعيشها النظام الرأسمالي لها عن طريق السيطرة عليها بنزع سياتها بالكامل حتى ولو بالاحتلال العسكري المباشر. هذا هو المصير الذي تواجهه الدول الفقيرة في عالم اليوم الذي تنضج فيه الظروف المؤدية لاتساع نطاق الحروب المدمرة؛ وتتسارع وتيرة التسليح بالدول الاستعمارية الكبرى بصورة ملفتة، وكأمثلة مثلا ميزانية أمريكا العسكرية تبلغ 590 مليار دولار تزيد سنويا ب بأكثر من 3% من قيمة الناتج المحلى الإجمالي؛ وفى تحول لافت لسياستها العسكرية التي اتسمت بالتحفظ منذ سقوط هتلر، قررت المانيا، مباشرة بعد الحرب التي شنتها روسيا على اكرانيا في فبراير الماضي، تخصيص 100 مليار يورو (112 مليار دولار) لتسليح الجيش بالإضافة لتخصيص 2% من الناتج المحلى الإجمالي للغرض نفسه.

في السودان يدور صراع بين أمريكا وروسيا حول السيطرة على البحر الأحمر. فروسيا في يدها اتفاق مع حكم الإسلاميين المباد يسمح لها إقامة وجود عسكري في البحر الأحمر، وامريكا منحتها الحكومة الانتقالية في 2021 اتفاقا مبدئيا يسمح لها ان تكون المنطقة مقرا للقيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا (الآفريكوم). كما يحتدم الصراع بين الدولتين بالإضافة الى فرنسا حول السيطرة على منطقة الساحل الأفريقي الواقعة بين البحر الأحمر وشواطئ المحيط الأطلسي الشرقية (الأفريقية). والصراع بين الدولتين يجرى على خلفية أن اهتمام أمريكا بالسودان قديم والحكومة الانتقالية عززت الوجود الأمريكي بشكل ملحوظ بالخضوع التام لمؤسسات التمويل الدولية الخاضعة لإرادة الإدارات الامريكية والاوربية. كما ان اتجاه الحكومة الانتقالية الحثيث للتطبيع التام مع إسرائيل يعطى امريكا رافعة مهمة لإحكام سيطرتها على السودان.

ان السودان يقع في قلب هذا الصراع والنشاط السياسي السوداني لا يستقيم ولن تكن له فعالية الا بوعي ان الدول المتصارعة على السودان لن يقبل أي منها ان يتصدر الحكم من ليس في طاعتها ورهن اشارتها.

المقال
قلنا في مقال سابق ان فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، كان مخادعا وهو يريد اقناعنا بأن بعثة” يونيتامس-UNITMAS“ليست تدخلاً أجنبياً في السودان وإنها جاءت لدعم المرحلة الانتقالية في السودان بطلب من الحكومة السودانية؛ وفى دحض كلا الادعاءين، ذكرنا أن استدعاء الأمم المتحدة للسودان تم بمبادرة منفردة، في غياب تمام للقوى السياسية السودانية، لرئيس وزراء الحكومة الانتقالية في يناير 2020 بالاشتراك المباشر مع السفير البريطاني والسفارة الألمانية بالخرطوم. وان يونيتامس قُدر لها ان تأتى الى السودان مفوضة من قبل مجلس الأمن للعمل على تكريس تبعية السودان للدول الغربية العظمى التي يمثل المجلس مطيتها لإصدار القرارات وإيجاد المبررات للتدخل في شئون الدول الفقيرة واجبارها الانصياع لرؤاها بهدف السيطرة عليها وتحقيق مطامعها الاستعمارية.

ومؤخرا ظهر بيرتس، في تسجيل له، مخاطبا الشعب السوداني مباشرة بتقديم احاطة لتقرير يشمل ما توصلت إليه البعثة في مرحلتها الأولى؛ والتقرير الذي قدم له بيرتس يقع في 40 صفحة ويحمل عنوان” ورقة تلخيصيه – مشاورات حول عملية سياسية في السودان/ يونيتماس، فبراير 2022“. والمنهج المعتمد في التقرير منهجا قريبا من استطلاعات الرأي لتحديد مكونات الدولة التي ينشدها السودانيين. وشملت الاستطلاعات إقامة اليونتماس ل 110 اجتماعا استمعت فيها لأكثر من 800 مشارك من مختلف مدن السودان، بالإضافة لحوالي 80 مبادرة وطنية مكتوبة بشأن الأزمة السودانية.

لكن بيرتس لم يعط أي معلومات كافية عن الذين شاركوا في استطلاعاته وما هي معايير اختيارهم؛ فالتقرير يتحدث عن ان الذين تمت مشاركتهم في التمرين التشاوري يمثلون أصحاب "المصلحة" في إيجاد حل لما اسماه ب” المأزق السياسي“. كذلك، ما هو تعريف المصلحة ومن هم هؤلاء المناصرين لفكرة انقاذ السودان بالتعاون مع الأمم المتحدة!!!

ان المعلومات الناتجة عن تمرين اليونيتماس الاستطلاعي عرضتها البعثة في تقريرها في 14 موضوعا، شملت كل مكونات الدولة: الأجهزة (التنفيذية -التشريعية -القضائية) والدستور والانتخابات وإعادة بناء الجيش والقوانين التي تكفل تمثيل المرأة في أجهزة الدولة الخ.

وطريقة عرض التقرير لموضوعاته تتم بلا ترابط منطقي ولغة مربكة. وفيما يتعلق بمحتواه، فان تكاد لا تصدق نفسك وانت تتطلع على النتائج التي توصل لها التقرير. فالخبير” العالمي “بيرتس أتى للسودان ليخبر شعبه” المغلوب على امره“، ان نتائج استطلاعه تشمل: ضرورة وجود جيش واحد في السودان بعقيدة واحدة وأهمية انشاء مجلس تشريعي تحظى فيه المرأة بنسبة معتبرة واحتياج السودانيين للتوافق على وضع دستور لأهميته كركن اساسي من اركان الدولة الخ. (وعرضا، وحول الدستور بالتحديد، لم يورد التقرير أي معلومة حول مدى اتفاق أو اختلاف المشاركين بخصوص فكرة استبعاد الشريعة الإسلامية من الدستور، وهو شيء غريب لما لهذه الفكرة من مؤيدين وسط قطاع معتبر من المواطنين !!).

اما إزاء المنهج، فالتقرير مبنى على تفكير تجريبي سطحي يتسم بالبعثرة المنهجية اذ يلجأ الى نهج ”الخطأ والصواب“ مثل نصه على ان مجموعة ”ساحقة من أصحاب ”المصلحة“ قالت كذا وأخرى مالت لكذا، والى النظرة الذاتية المؤدية الى ان كل من المشاركين يغني على ليلاه ويحلم بالدولة التي يتخيلها وعيه الذاتي بمعزل عن حقائق الواقع وهذا يتضح من ملخص اجاباتهم عن أسئلة الاستطلاع.

ان نقد التقرير يكون بلا جدوى إذا ثبت عند نقد تجريبيته بمنطق شكلي. فالبعثة كما جاء في التقرير تضطلع بالقيام بموضوع سياسي – اجتماعي كبير يتمثل، كما ادعت، فيما أسمته” إعادة بناء الدولة السودانية على أسس الحضارة والديمقراطية “لهذا فان نقد التقرير، الذي من شانه ان يسلط ضوءا كاشفا على الدور الخفي الخطير لبعثة يونيتامس، هو دراسة موضوع مآل الدولة السودانية على ضوء الواقع السياسي والاجتماعي جوهره ومكوناته ومتغيراته الشيء الذي لم يحدث في التقرير.

التقرير يذكر ان البعثة استمدت وضع أسئلة استطلاعها من تقديرها لحالة الوضع السائد؛ فقد جاء في التقرير” قدمت يونيتماس ملاحظات تمهيدية لكل من الموضوعات الرئيسية، لشرح الأساس المنطقي للأسئلة وتقدير البعثة للسياق المطبق. “وهكذا فان بيرتس الذي يريد تعليم الناس كيف توضع الأسئلة المنطقية في مثل هذه الحالة، لم يخبرنا ماهية المنهج الذي اتبعه في تقدير السياق، المتعلق بحالة الجزء الذى يدرسه، الذى الهمه في تشكيل الأسئلة المنطقية.

ان الأسئلة الصحيحة حول ظاهرة أو موضوع ما، هي ما يقود لفهمهما بشكل سليم؛ لهذا جاء قول بعض الناس (الأسئلة مبصرة والاجابات عمياء). لكن، كما اوضحنا سابقا، فان أسئلة استطلاع بيرتس غير مبصرة وأدت الى إجابات بسيطة تتعلق بمسائل شديدة الأهمية (مكونات الدولة السودانية).

وكل أسئلة بيرتس جاءت لكي تبعد التقصي والبحث عن دائرة الأسباب الحقيقية لحالة مكونات الدولة السودانية.

فالسؤال الأول الذي يطرح نفسه على أي شخص يرمى لحل ازمة الدولة السودانية هو فحص أسباب فشل الدولة المراد إعادة بنائها؛ لكن تنعدم أي محاولة في التقرير لأثارة التساؤل في هذا الخصوص الذي يكتفى بالإشارة للنظام السابق (نظام الإنقاذ) ولا توجد أي فذلكة لتاريخ تطور الدولة السودانية، وحتى الإشارة لنظام الإنقاذ لخصها التقرير في عبارة واحدة” النظام الاستبدادي“.

وتتواصل الأسئلة غير المبصرة، فمثلا في موضوع الجيش فان المسألة أعمق من قضية إعادة بنائه التي لا يعرف أحد ما المقصود بها تحديدا؛ اذ ان السؤال الصحيح هو ما هي الديناميكية السياسية التي تجعل الجيش تتطاول آماد هيمنته على السلطة السياسية في السودان. وفى قضية المرأة فالسؤال الصحيح لا يتعلق بما هي انسب القوانين (التي توضع قَبْلِيّا) لرد حقوقها المسلوبة، بل بما هي الانساق الاجتماعية والسياسية التي تقف أمام تحرر المرأة، وما هو السبيل لإزالتها وما هي الانساق الجديدة، المطلوبة في هذا المضمار، التي تهيئ المناخ لاستيعاب منظومة القوانين المرغوب فيها في هذا الشأن.

ومن أوجه قصور التقرير هو انعدام تقصى موضوع الدراسة بالنظر للصورة الكلية للواقع ووضعه في إطار نظري شامل. فالتقرير بحث في الأجزاء بتجاهل للكل وبمعزل عن الإطار التاريخي والبناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي: وبالتالي انعدم الإطار الفكري (conceptual context) الذي يربط الأجزاء، والنتيجة دولة بلا عنوان.. بلا محتوى!!

لكن في نهايات التقرير ينفضح أمر بيرتس وتتضح نوايا بعثته عندما يحدثنا عن الدور الدولي الإيجابي في حل الازمة السودانية؛ وان كل ما ورد حول نتائج الاستطلاع عن مكونات الدولة السودانية كان حرف للأنظار (red-herring) عن مهمة اليونيتماس الحقيقية. فالتقرير في الصفحة 36 تحت عنوان ” دور الجهات الدولية الفاعلة“ يذكر ”لتجسيد الدعم الاوسع للمجتمع الدؤلي للعملية في السودان، انشأ مجلس الامن التابع للأمم المتحدة في قراره -2425- في 2020 بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان -اليونيتماس- المكلفة بالمساعدة في الانتقال السياسي والتقدم نحو الحكم الديمقراطي وحماية حقوق الانسان وتعزيزها وتحقيق السلام المستدام“ ويواصل التقرير مشيدا بدور التدخل الأجنبي في السودان خلال فترة الحكم الانتقالي ويذكر ” أدت الجهود الأخرى الذى بذلها أعضاء المجتمع الدؤلي بما ذلك الدول الأعضاء والمؤسسات المالية الدولية بالعمل مع الحكومة الانتقالية الى تخفيف العقوبات برفع السودان من قائمة الولايات المتحدة الامريكية للدول الراعية للإرهاب. وفى يونيو 2021 أصبح السودان مؤهلا للإعفاء من الديون في إطار المبادرة المتعلقة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون“

يتضح من المقطع السابق أن الهدف الذي تسعى له بعثة يونيتماس هو تكريس تبعيه البلاد للقوى الاستعمارية الغربية بالحديث عن النتائج الإيجابية للجهود الدولية (الغربية) في السودان خلال الحكم الانتقالي. ان بيرتس لم يخبرنا عن أي استبيان لآراء المشاركين حول الحكم الانتقالي قبل وبعد انقلاب 25 أكتوبر 2021. ولكن مثل هذا الاستقصاء لا يعضد رواية بيرتس التي تمجد الحكم الانتقالي من زاوية ارتهانه غير المشروط لمؤسسات التمويل الدولية وتطبيعه مع الدولة الصهيونية؛ فالشعب السوداني لا يحمل شغفا للحكم الانتقالي الذى أذاقه ويلات الأذى وزاد معاناته من الفقر والجوع والمرض؛ كما ان احتقار الشعب للحكم الانتقالي تثيره اللصوصية التي مورست على مستوى الجهاز التنفيذي وما يسمى ب ”لجنة إزالة التمكين“ ؛ لكن يبقى السبب الرئيس لغضب الشعب من الحكم الانتقالي والعذاب الذى ألم به خلال هذه الفترة هو النهج الذى سلكه الحكم الانتقالي في التعامل مع الخارج (الدول الغربية) ومؤسسات التمويل الدولية اذ أن ” الحكومة منحت، بصورة غير مسبوقة، تلك المؤسسات شيكا على بياض (carte blanche) لوضع كل ما يعن لها من شروط، وكانت النتيجة تخفيض سعر صرف الجنيه السوداني في فبراير 2021 مؤديا الى زيادة في سعر صرف الدولار بنسبة تقدر ب 700%، ورفع الدعم عن السلع الأساسية بنسبة 100% دون مراعاة لواقع الشعب السوداني الذي يقبع 75% من افراده تحت خط الفقر أو للآثار التضخمية التي دمرت حياتهم المعيشية.‬‬‬‬‬‬“

وختاما، أولا، ان مصير بعثة اليونيتماس لا يتضح بصورية جلية على ضوء التدخلات الحالية للاتحاد الأفريقي ومنظمة الايقاد وبعض الدول العربية والأوربية في الشأن السوداني بالتزامن مع التدابير (التآمرية) التي تجرى لتصعيد محمد حمدان حميدتى، قائد مليشيات الجنجويد، للسلطة السياسية والخطوات الجارية لتعميق العلاقات بين السودان وروسيا. ولكن أيا كان، فان اليونيتماس تهدد سيادة السودان. وان أولى مهمات النضال التي يواجها الشعب السوداني هي تحرير السيادة الوطنية من التغول الأجنبي الجائر.

وثانيا، كلمة أخيرة حول فولكر بيرتس الذي جاء للخرطوم ليعلم الناس كيف يطرحون الأسئلة المنطقية عند تناول قضاياهم. فان هذا الشخص عادى لا قيمة له أو وزن في الأوساط السياسية والثقافية الغربية وان المنظمة العالمية تستغله لرعونته التي تحركها عنصريته اذ انه معروف، من خلال مواقفه في مهمة سابقة بسوريا وبعض الكتابات التافهة، بإيمانه ان الدول الفقيرة لن تنهض الا باعتناق أفكار واخلاق الغرب. وبيرتس الشخص يمثل المسخ "لفلاسفة" مؤتمر برلين الاوربيين (1884) الذين غلفوا الدافع الاقتصادي لاستعمارهم لأفريقيا بالحاجة الى تمدين وجلب التحضر لشعوبها؛ بيرتس تتقمصه الفكرة القديمة للأديب البريطاني كيبلينغ: " عبء الرجل الأبيض-white man’s burden-". فيكتب بيرتس في تقريره بان الباب أصبح مفتوحا” لإعادة بناء الدولة السودانية على أساس الحضارة.. “- ان التاريخ في حالة بيرتس هذه يعيد نفسه ملهاة لأن وعى الشعوب في الدول الفقيرة أصبح يسد عين الشمس بحيث لا تنطلي عليه المحاولات الساذجة في ترديد الحيل الاستعمارية القديمة.