حين سرقوا تمثال شاعر أوكرانيا تاراس شيفشنكو من منتزه كندي وقطعوا رأسه للبيع


جاكلين سلام
2022 / 3 / 3 - 23:21     

تماثيل وطرقات ويوميات وصفحات من سيرة شاعر
المهاجرون من الجالية الروسية والاوكرانية كبيرة في تورنتو ولها حضور منظم في مدينة تورنتو التي تكثر فيها الأقليات من كل العالم. يخاجرون ومعهم ثقافاتهم ولغاتهم ورموزهم الحضارية وأحيانا المتخلفة عن كل الحضارات.

ويحقّ لهؤلاء المهاجرين أيضاً أن ينصبوا تماثيل لشعراء من البلاد التي قدموا منها في بعض الحالات. ونذكر منهم تمثال الشاعر تاراس شيفشنكو الروسي الاوركراني (9 مارس 1819ـ10 مارس 1861) والذي كان يتيماً وعبدا مملوكاً من قبل الإقطاعي. الشاعر فقير، واشترى الأصدقاء والمعجبون حريته بالنقود، من خلال لوحة فنية رسمها فنان مؤمن بموهبة هذا الفتى. كان المبلغ كبيراً في ذلك الوقت لأن المالك كان يدرك أن هذا الشخص يمتلك موهبة وقدرات خاصة.
عاش الشاعر منفياً لسنوات لأنّ صوته الرافض ونقده للسطلة القعمية الحاكمة في تلك الفترة كان مسموعاً وغير مستحب. ولم يستطع “شيفشنكو” اكمال دراسته الفنية الاكاديمية إلا من خلال المساعدات والقبول التشريفي وبدعم من قبل كبار الشعراء والفنانين المعروفين في ذلك الزمن.
بعض البلاد تُحار في صياغة هوية لها. وبلاد أخرى لها هوية متجذرة في الأرض والتاريخ، يحاولون نفيها وطمرها، لكنها تتجذر بالكلمة وبالصورة، بالحجر وبغضن الزيتون. بعض البلاد، لايحتلها الغريب القادم من شتات الأرض بل يقوم أبناؤها باستعباد أبنائها الأدنى في السلم الإجتماعي والاقتصادي. يستعبدون أبناء مدينتهم وقراهم، بشر مثلهم لهم نفس لون الجلد ونفس اللغة والجذر منغرس في العظم والجينات ذاتها. تتضخم سطوة السلطة الحاكمة ويبقى صوت الشاعر أكثر عشقاُ للحرية والأرض، يشهد الشاعر بكلمات بعيدة المدى والصدى تبقى مزرعة في الوجدان الكوني. لأنها “في البدء كانت الكلمة” التي تخبر وتبوح، وتحمل دمعة الوطن وصنوبراته وثلوجه، ضبابه وجماله.
كثيرون يمرون بتمثال الشاعر المنفي يتنهدون ويقولون: هنا شاعر كتب لنا صفحة في الحب، غازلنا بها حبيباتنا اللواتي لم نستطع أن نحتفظ بهن. هذا شاعر علمنا كيف نغني ملحمة عن امرأة أضناها العشق وحملت بذرة الحب في جسدها، فرجمها الحبيب بخيانة النكران، ونفت المرأة نفسها عن البلاد لتبحث عن بيت تحتمي به هي وجنينها من “عارها”. يذكر أن الملحمة الغنائية الشعرية “كاترينا” التي كتبها تاراس شيفشنكو، والتي كانت تحكي قصة امرأة تعرضت للطرد بعد حملها ـ المنكر ـ دون زواج.
وفيما بعد أصبحت هذه الشخصية ملهمة لكثير من الرسامين الروس، وترجمت القصيدة الطويلة إلى لغات عدة.
إنه التاريخ وما أكثر زلاّته. دوماً هناك شعب، فقير وبخيل وسلطة وتخلف ورجعية وطغاة، صغار طغاة، وسارقو لقمة عيش ووطن. وهناك شعر وشاعر وحلم مكسور، علم ممزق وأرض مستباحة، أرض تحرسها الأقلام والقصائد والروايات والفنون. بعضهم يرى في التمثال تاريخاً ووطناً وجمالاً وإجلالاً لصوت يقاوم دون سلاح ويبتكر صوراً للحياة البديلة، وبعضهم يرى فيه كتلة حديد أو برونزاً أحمر أو أسود. هنا في تورنتو تسلل بعضهم في الليل إلى المنتزه وانتهك وقفة الشاعر المنفي، تاراس شيفشنكو، في حديقة العالم وحيدا تحت البرد وتحت الريح وتحت الشمس. تسلّل السارقون، وضعوا سلماً خشبياً أوصلهم إلى رقبة الشاعر، جعلوا الشاعر يترجل عن ملكوته، جروه في ساحة المنتزه، أدخلوه إلى شاحنة كبيرة، سرقوه عن أبناء جاليته وعشاق الفن. في المصنع قطعوه إرباً إرباً، ثم باعوه قطعا برونزية (خردة) للتجار، فيما كان البوليس مشغولا بالبحث عن التمثال المسروق. بقي رأس الشاعر التمثال مصيبة أقلقت السارقين. أين سيذهبون برأسه؟ رأس الشاعر مشكلة، في الحياة وبعد الممات. حاولوا تقطيع الرأس بالمنشار، ثم عدلوا عن ذلك، ذهبوا ليبيعوه على أنه تمثال “لينين” لكن القدر وضعهم في قبضة البوليس واستعاد عشاق الشاعر ما تبقى من رأسه المقطوع لينضم إلى المتحف الصغير الذي يقيم في دوان تاون تورنتو، لينام على الأرض محاطاً بشراشف اوكرانية الصنع. ليستلقي بشاربه الكث وسحنته القاسية، ينظر في عين الزائر ويشير إلى صفحات من تاريخ الرق والعبودية والحرية واستعادة الحياة بعد الموت. استعادة ذاته وفردوسه المفقود بالكلمة الشاعرة التي جعلته فرداً في “أسرة الحرية” التي يسمع عنها الكثيرون في القرن الحادي والعشرين ولايتذوقون نعمها.

كان صباحاً جميلا ( 2008) حين أخذتني الصدفة إلى ذاك الشارع واستوقفني اسم المتحف الصغير الذي ترعاه وتدعمه الجالية الاوكرانية في تورنتو، وبدعم من بلدية تورنتو. قرعت جرس الباب بعد تردد، فتحت لي سيدة شابة روسية، وقدمت لي جولة لأكثر من ساعة وهي تستعرض حياة الشاعر، لوحاته المعلقة على الجدار، وآخر ما استجد في قضية محاكمة سارقي التمثال.
وحين لاحظت اهتمامي بالموضوع، زودتني بجرائد ومعلومات عن الشاعر، ثم نسخت لي إحدى قصائد الشاعر مترجمة إلى العربية، والسريانية أيضاً.

ألتقطت صوراً لما تبقى من رأس التمثال. كان وقع أسنان المنشار عليه موجعاً يمتد من الرقبة ويتوقف قبل أن يصل الفم.

قليلة تماثيل الشعراء والفنانين وكثيرة جدا تماثيل الطغاة في العالم، شرقا وغربا.