الإرهاب، النموذج الأمريكي - نعوم تشومسكي،


بلال العمر
2022 / 2 / 23 - 22:40     

كاتب المقالة: نعوم تشومسكي، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
المترجم: د. بلال العمر، جامعة كورنيل.
الإرهاب، النّموذج الأمريكيّ
لقد اطّلعت على مقالة روبرتو توسكانو باهتمام. أنا متأكّد من أنّها كانت بنيّة حسنة، لكنَّني لا أتّفق معه على أنّه (تعريف الإرهاب) قضيَّة إشكاليّة بسبب اللغة. إنَّها إشكاليّة، لكنّها ليست نتيجة لافتقار اللغة إلى الوضوح.
يوجد تعريفات ممتازة للإرهاب، ومن هذه التّعريفات التي تتّسم بالإيجاز في الولايات المتحدة تعريفُ الجيش الأمريكي الذي يعرّف الإرهاب بأنَّه "الاستخدام المدبَّر للعنف، أو التّهديد به من أجل تحقيق أهداف ذات طبيعة سياسيّة أو دينيّة أو أيديولوجيّة... وذلك من خلال التّرهيب أو الإكراه أو بثّ الرّعب".
أما في قانون الولايات المتّحدة الأمريكيّة فيعرّف الإرهاب تعريفاً أكثر تفصيلاً، حيثُ ينصُّ على أنّ "العمل الإرهابي" يعني نشاطاً:
١. ينطوي على عمل عنيف، أو عمل خطير، يهدّد حياة الإنسان، ويشكّل انتهاكاً للقوانين الجنائيّة في الولايات المتّحدة، أو أيّة دولة أخرى.
٢. يبدو أنّه يهدف إلى:
أ. تخويف السّكان المدنيّين أو إكراههم.
ب. التّأثير على سياسة الحكومة عن طريق التّرهيب أو الإكراه.
ج. التّأثير على سلوك الحكومة عن طريق الاغتيال أو الاختطاف .
أمَّا الحكومة البريطانيَّة، فتعرّف الإرهاب تعريفاً مشابهاً للتّعريف الأمريكي فـ "الإرهاب: هو القيام أو التّهديد بالقيام بعمل عنيف أو ضارّ أو تخريبيّ، يهدف إلى التأثير على الحكومة، أو تخويف النّاس بشكل عامّ؛ بغية النّهوض بقضيَّة سياسيَّة أو دينيَّة أو أيديولوجيَّة".
بدأتُ استعمال هذه التّعريفات والاقتباس منها في كتبي ومقالاتي منذ أن بدأت الكتابة عن الإرهاب عام 1981، وذلك بمجرّد تولّي إدارة ريغان السّلطة معلنةً أنَّ الحرب على الإرهاب، وخاصّة الإرهاب الدّوليّ الموجَّه من الدّولة "طاعون العصر الحديث"، و"العودة إلى الهمجيّة في عصرنا"... ستكون محوراً رئيسيّاً لسياستها الخارجيّة. وما زلت أستخدم هذه التّعريفات بعد أن أعاد بوش الثاني إعلان "الحرب على الإرهاب" بعد 11 أيلول.
يثير استخدام هذه التَّعريفات، ولأسباب مقنعة، غضباً عظيماً، ذلك أنَّه إذا ما استخدمنا هذه التّعريفات فإنَّه سوف يترتَّب عليها حتماً أنّ الولايات المتَّحدة كانت رائدةً في الإرهاب بشكل كبير، ليس فقط في عهد ريغان، بل في السَّنوات التي تلت حقبته أيضاً. وهذا استنتاج غير مقبول. لذلك، وقع بالضّبط ما وصفه توسكانو وهو: وجود محاولات دقيقة لتعريف "الإرهاب"، وتخلٍّ عن هذه الجهود لأنَّه أمر صعب للغاية، فمن الصّعب صياغةُ تعريفٍ للإرهاب ينطبق فقط على الإرهاب الذي ينفّذه الآخرون ضدّنا وضدّ عملائنا في الوقت الذي يستبعد فيه ذلك التعريفُ الإرهابَ الذي ننفّذه نحن وعملاؤُنا ضدَّهم، وغالباً ما يكون أشدَّ سوءاً. تنشأ المشكلة عينها مع العدوان، فالتّعريفات الرّسميّة غير صالحة للاستعمال، لأنَّها تسفر عن استنتاجات خاطئة.
فلنأخذْ حالةً واحدةً يجب ألّا تكون مثيرة للجدل: وهي حرب الرّئيس ريغان ضد نيكاراغوا . فقد أدانت محكمة العدل الدّوليّة تلك الحرب ووصفتها بأنَّها "استخدام غير قانونيّ للقوَّة" وقد دعم قرارَ المحكمة قراران آخران لمجلس الأمن، ولكن الولايات المتَّحدة استخدمت حقَّ النَّقض ضدَّه. من الجدير بالذِّكر أنَّه ليس لدى المحكمة تعريف رسميٌّ "للإرهاب"، لكن، يتضّح أنَّ الحكم يندرج تحت التَّعريفين الرَّسميين للولايات المتَّحدة والمملكة المتَّحدة.
قضيَّة نيكاراغوا مثيرة جدَّا للاهتمام. كان المستشار الرَّئيسيّ لنيكاراغوا هو أبرام تشايس، أستاذ القانون بجامعة هارفارد، الّذي قدّم القضيَّة تقديماً واسعاً جداً، لكنَّ المحكمة رفضت كلَّ ذلك تقريباً، لأنَّ الولايات المتَّحدة أعفت نفسَها من جميع المعاهدات المتعدِّدة الأطراف، بما في ذلك مواثيق الأمم المتَّحدة ومنظَّمة الدُّول الأمريكيَّة، بعد أن وافقت على اختصاص محكمة العدل الدُّولية في عام 1946، ـــ بالطّبع، انسحبت إدارة ريغان من اختصاصات المحكمة جميعها عندما رُفِعت القضيةُ إلى المحكمة، لكنّ المحكمة استمرَّت على أيّة حال ــ فاضطرّت المحكمة إلى الاعتماد على معاهدة ثنائيَّة بين الولايات المتَّحدة ونيكاراغوا، بالإضافة إلى الأعراف الدّوليّة. أفترض أنّه يمكن للمرء أن يجادل إذا ما كان تلغيم الميناء يُعَدُّ عدواناً (سنعدّ دون شكّ تلغيم الميناء عملاً حربيّاً دون الحاجة إلى ذكر العواقب). لكن حرب الكونترا تتناسب بشكل لا لَبس فيه مع العدوان، كما حدَّده القاضي جاكسون في نورمبرغ، وكما أكَّدته قرارات الجمعيَّة العامَّة لاحقاً .

وتتمحور المناقشة التّقليديّة الرّئيسة حول الإرهاب والعدوان حول الرَّفض المستمرّ لأحد أبسط المبادئ الأخلاقيَّة، ألا وهو: أن نطبّق على أنفسنا المعاييرَ ذاتَها التي نطبّقها على الآخرين، بل إنْ لم يكن أكثر صرامةً، من هنا، تصبح التّعريفات المقبولة للمصطلحات مسألة صعبة.
أحياناً، يكون رفض المبدأ دراماتيكياً. أحد الأمثلة الصّارخة حدث في عام 1999، حيث كان الغضب عارماً إزاء الجرائم الصربيَّة في كوسوفو ، فمع الأسف الشديد بشأن التّساهل مع وقوع مثل هذه الجرائم بالقرب من حدود الناتو، إلّا أنّه كان هناك صمتٌ فعليّ بشأن الجرائم داخل حلف شمال الأطلسيّ، في جنوب شرق تركيّا، التي كانت أكبر كثيراً من تلك التي حدثت في كوسوفو، ومن الواضح أنّ ذلك حدث قبل قصف الناتو الذي أدّى إلى تكثيف الجرائم الصّربيّة بشكل حادّ كما كان متوقعاً. ردّة الفعل المتباينة حيال المثالين السابقين لم تكن مستغربة، إذ كانت الولايات المتّحدة، إلى جانب أعضاء آخرين من حلف الناتو، تقدّم الجزء الأكبر من الأسلحة لقمع تركيا العنيف للأكراد، الخلل الجذريّ في الاهتمام والتّغطية يتبعُ النّمط المتوقّع.
للتأكيد على الاستنتاج السَّابق بشكل أكثر دراماتيكيَّة، ففي أوائل عام 1999، تصاعدت الجرائم الإندونيسيّة في تيمور الشَّرقيَّة مرة أخرى . كانت الجرائم أكثر حدّة من تلك الّتي حدثت في كوسوفو في ذلك الوقت، حيث وصلت إلى مستوى كارثيّ في آب، بدعم دائم وقويّ من الولايات المتَّحدة. وكما هو الحال في السّنوات السّابقة، عندما كان من المؤكّد أن يُطلق على المذبحة "إبادة جماعيّة" إذا ما كان العدوّ هو المسؤول، ولسنا نحن. لذلك كان القلق والتَّغطية طفيفين.
كان إنهاء هذه الجرائم سهلاً جدّا. لم تكن هناك حاجة للقصف أو العقوبات. كلّ ما هو مطلوب إيقافُ الدّعم، كان ذلك جليّاً طوال الوقت، وقد ثبت ذلك بشكل بيّن في 11 سبتمبر 1999، عندما أشار الرّئيس كلينتون أخيراً، تحت ضغط دوليّ ومحليّ هائل، إلى الجيش الإندونيسيّ أنّ اللعبة قد انتهت. فانسحب الإندونيسيّون على الفور، تاركين الأرض يباباً بعد 25 عاماً من الفظائع المدعومة أمريكيّاً وبريطانيّاً حيث انخرطت الأخيرة بنشاط مع بلوغ الفظائع ذروتَها عام 1978 حتّى النّهاية.
فوفقا لأيّ معيار عقلانيّ، فإنَّ ما حدث قبل عام 1999 في تيمور الشّرقيّة يعدُّ أسوأ بشكل منقطع النّظير من أيّ شيء حدث في حروب البلقان. لكنّ المشكلة ذاتها تتكرّر ألا وهي: اختيار الوكيل غير المناسب، ونتيجة لذلك، تكون ردّة الفعل إمّا الصّمت، أو الإنكار. ليس لأن الحقائق كانت غامضة، بل بالحريّ لأنّها كانت جليَّة، ولأنّنا تعلمنا منها العبرة الخاطئة بوضوح .
باختصار، إنَّ مشكلة إيجاد تعريف لـ "الإرهاب" تعكس مشكلة أشدّ عمقاً تظهر أثناء مناقشات الشؤون الدّوليّة، وأعتقد أنه لا ينبغي أن تكون هذه المعضلة مصدرَ قلقٍ بسيط.

نعوم تشومسكي.


• ملحوظات:
1. يناقش نعوم تشومسكي مقالة ربرتو توسكانو، المعنونة بـ "حرب ضدّ من" والمنشورة في World Policy Journal ربيع 2007.
. United States Code Congressional and Administrative News, 98th Congress, Second Session, Oct. 19, 1984, vol. 2 par. 3077, 98 STAT. 2707.
3. قام الرّئيس الأمريكيّ دونالد ريغان بدعم قوَّات المعارضة النيكارغويَّة (الكونترا) تمويلاً وتدريباً ضد نظام الساندينيين اليساري، بعد أن تمكن الساندينيون من الإطاحة بنظام سوموزا المدعوم أمريكيَّاً عام 1979م. (المترجم).
4. قامت قوات المعارضة النيكراغويّة (الكونترا) بمساعدة قويَّة من وكالة الاستخبارات الأمريكيّة بتفجير ثلاثة موانئ في نيكارغوا لزعزعة نظام الساندينيين اليساريّ. (المترجم).
5. الاسم الذي أُطلِق على المعارضة النيكراغويّة والكلمة مأخوذة عن الإسبانيّة. (المترجم).
6. See Howard Friel and Richard Falk, The Record of the Paper (New York: Verso, 2004).



. حرب كوسوفو وقعت بين الجيش اليوغسلافيّ وجيش تحرير كوسوفو (1998/2/28ــ 1999/6/11) (المترجم).
. قامت القوّات الإندونيسيّة باحتلال تيمور الشّرقيّة بين عامي 1999-1975. (المترجم)
. فيما يتعلق فيما كان معروفاً في السّنوات الأولى من المجازر، انظر تشومسكي وإي. س. هيرمان، الاقتصاد السّياسيّ لحقوق الإنسان، المجلّد. 1 (1979) ، تشومسكي، نحو حرب باردة جديدة (1982). ولمعرفة ما حدث طوال الفترة كاملة، انظر جوزيف نيفينز، الرّعب ليس بعيداً (2005). أمّا فيما يتعلّق بأحداث عام ١٩٩٩، انظر تشومسكي، الإنسانيّة العسكريّة الجديدة (1999) والجيل الجديد يرسم الحدود (2000).