الثورة تنتظر الثوريين-2: كشف الحال والشهيد صديق محجوب منور


مجدي الجزولي
2006 / 9 / 6 - 10:43     

خرجت يوم الأربعاء 30 أغسطس 2006 جماهير من السودانيات والسودانيين للتعبير عن رفضها قرارات الحكومة زيادة أسعار السكر والبنزين والجازولين التي أعلنها السيد وزير المالية في مؤتمره الصحفي مساء الخميس 17 أغسطس 2006. كانت نية الجموع السير سلمياً إلى القصر الجمهوري برفقة قيادات حزبية وجماهيرية وفي معيتها مذكرة تحوي صياغة لهذا الرفض، ومن ثم تسليمها السيد رئيس الجمهورية. ما حدث أن السلطة واجهت هذه الحرية "الدستورية" بدرجة من "التسامح" تساوي صفر (zero tolerance) فقمعت الجماهير بشغف مرتعب قبل موعد سير المظاهرة السلمية. ضمن هذه الكلمة أورد ملاحظات مصدرها حوار حول مظاهرة الأربعاء جمع زميلات وزملاء وكنت من المشاركين فيه.

احتفائي الخاص بمظاهرة "البنزين" كما عمدتها الجماهير بهتافها الجارح "تجار الدين سرقوا البنزين" غالب على تقييمي الموضوعي وهذا لمس من الشوق لتغيير تقوده الجماهير بعملها الجماعي، وآفة تعتري المتفائلة. لكن استئناس الرأي عند أهل المحبة والوفاء صوب على القضية عين النقد والشك والتعلم بجانب عين الرضا، وهذا من عمار الجماعة ورشد الحوار إذا صلح الهدف وصدق العزم. كان الانتقاد الأول أن المظاهرة تأخرت عن ميعادها الواجب بأيام عديدة فالسيد وزير المالية أعلن قرارته مساء خميس تتبعه إجازة الجمعة، وذلك حتماً لغرض، ثم مضى وقت طويل سماه صديق عزيز فترة كمون (latency period) فاقت "يوم ويومين وجمعة" حتى التأم شمل القوى الوطنية واتفقت على صياغة بيانها وإعلان التظاهر وسيلة للاحتجاج. وذلك تأخير أضر بالقضية وأثبط من همة جماهير كانت ثائرتها تثور، خاصة وما من درب برلماني لإلغاء القرار فأغلبية المؤتمر الوطني البرلمانية يستحيل أن تخرج (dissent) على قرار السلطة التنفيذية، والحركة الشعبية تشريعيين وتنفيذيين زاهدة بتصوف غامض في أي جهد يحفظ ماء الوجه. كذلك كان من غير الموفق ربما إعلان الواحدة ونصف ظهراً ساعة لبداية المظاهرة، وذلك في يوم نظمت فيه الحكومة وأطراف تابعة لها مسيرة صباحية "دفع مقدم" أفرغت الخرطوم كيداً من الموظفين والعمال منذ بداية اليوم، وهم "أسياد وجعة" في البنزين المسلوب. كذلك فشل "المنشور"، وهو وسيلة مجربة ومعتمدة في تراثنا السياسي، فشل لدرجة كبيرة في تعبئة الجماهير المنتظرة، وأقتاد رجال البوليس بعض من قاموا بتوزيع منشورات في أحياء الخرطوم الجنوبية إلى الحراسات. الخيط الذي يجمع ما سبق أن رابط الإتصال بين القوى الوطنية والجماهير ضعيف وغير فعال، لقصور في الخطاب السياسي، وبطء في الاستجابة للمستجدات، وعلة في الوسائل، وذلك في زمان سرعته تقاس بصفع "النقل المباشر" على شاشات التلفزيون، والرسالة التلفونية الآنية.

في انتظار من تجمعوا ناحية ميدان الأمم المتحدة كانت كتائب من البوليس على صهوات "بكاسي" الدفع الرباعي، في أعداد مهولة حقاً فاقت مرات عدة عدد المتظاهرين، ومدججة بكل لوازم القمع: الدروع، والخوذات الواقية، والعصي، و"البمبان"، والأسلحة النارية. كما عبرت لحظات قبل بداية المظاهرة ثلاث شاحنات كبيرة بالشارع المقابل تفيض بالجنود المسلحين في استعراض شاخص للقوة. اللافت للنظر بالدرجة الأولى الكفاءة الفنية للبوليس، فقد كان رجاله في تمام الجاهزية المادية، عدة وعتاد. كذلك أغلقت مجموعات أخرى من البوليس مداخل ومخارج المنطقة، وانتصب آخرون فوق سطوح المباني، وهنالك طبعاً الذين لا يُدركون إلا بأفعالهم من غير أهل الزي الرسمي، فقد شُوهد منهم من يزجر أصحاب الدكاكين والمارة ويأمرهم بالاغلاق و"الشتات". أمر رجال البوليس الجمع بالتفرق فأبى وبدأ الهتاف بجملة أحدهم "لن ترعبونا" ثم إشتد وعلا: "عاش نضال الشعب السوداني"، و"تجار الدين سرقوا البنزين". على ذلك بدأ البوليس بإطلاق البمبان ثم الضرب والاعتقال. تفرق الجمع تلك الساعة ليلتقي مرة أخرى في موقف مواصلات أم درمان ناحية الجامع الكبير، وتعاد الكرة، ثم تفرق والتأم مرات أخريات حتى تمام قمعه. قضى مناضلاً في هذه "الكبسة" شيخ في المعاش، صديق محجوب صديق منور، من معاشيي السكة حديد عطبرة، وسكان حي جبرة. خرج صديق للتعبير "دستورياً" عن غضبه وسخطه وحقه، فأسكتت السلطة أنفاسه بالبمبان الذي أثار الربو عنده حتى غصت شعبه الهوائية قهراً وظلماً وأسلم الروح في الاسبتالية. لكن ثائرة الربو كانت علة ظاهرة وباطن الأمر وجع مزمن من ظلم السلطان، وقهر الزمان، وجحود الدولة. وأنكى من كل ذلك تخاذل القاعدين عن التضامن الجمعي من شياطين خرس ينظرون إلى تجاعيد وجهه الباسل ويظنونها ولدت معه، وقد وهب عمره أهله وشعبه عملاً مثابراً في صفوف السكة حديد ليموت كفاح الغلاء، ومعاشه ضنك لا يفي البقاء. أيدري الذي أطلق البمبان والذي أمر بذلك والذي أمر الآمر حتى آخر السلسلة أي ذنب اقترف، هل فكر أحدهم من يكون، أليس رحم أحد وجار آخر، أليس بشر؟ أيرضى أحدهم لوالد له أو جد أو قريب أن يموت هكذا "سمبلة" البنزين والسكر، وليس في فراش يتحلق حوله المحبون في رضى الود الأسري وكرامة آخر العمر وشرف العمل النافع.

إن مقارنة مظاهرة "البنزين" بسابقات لها في نضال شعبنا ضد ديكتاتورية الانقاذ يبرز مستجدات تستحق الانتباه. أول ذلك أن مظاهرات منتصف التسعينات كانت جميعها أو تكاد طلابية صرفة، حيث نهضت الحركة الطلابية الديموقراطية وحيدة تقاوم وتصارع. وذلك لشدة وطأة القهر الذي كبلت به الانقاذ قطاعات الحركة الجماهيرية الأخرى. هذه المرة تغير الحال فالمظاهرة جمعت فصائل مختلفة سياسية وشعبية وعمرية، وشاركت فيها قيادات حزبية وجماهيرية تطمئن لها الجماهير وتطمئن بها وتعرف فضلها وثقل ميزانها النضالي من بينها سكرتير الحزب الشيوعي أستاذنا محمد ابراهيم نقد. عليه تجاوزت المظاهرة مرتبة الاحتجاج الطلابي إلى مقام العمل الجماهيري كامل الدسم فأنضم إليها المواطنون على ثقة في تنظيمها ومقصدها، إذ تعذر تبخيسها كمحض فوضى طلابية، أو غضب شبابي. إن رؤية تيجان الشيب تكلل رؤوس ثلة مقدرة من المتظاهرات والمتظاهرين كان له أثر مقدر في صد هجوم البوليس، هذا من جهة، وفي تعزيز ثقة المتظاهرين في أنفسهم وفي قضيتهم من جهة أخرى. المرء ينظر يمنة ويسرة ليرى أمهاته وآباءه بجانبه ومن خلفه الأقران وقدامه، يهاله بأس الجمع ويكرم صمودهم بطرد خوف الذات على نفسها فيشمخ بهم ولهم. الجديد أيضاًَ بعض فضل التكنولوجيا و"العولمة"؛ الحماية الأساسية التي توفرت للمظاهرة كانت شاشات التلفزيون المباشر، فآلات التصوير العجيبة التي تبث الصور الحية إلى كافة أنحاء المعمورة حجمت عنف البنادق والهراوات نسبياً. لذا كانت الكاميرات المحمولة وكاميرات الموبايلات الهدف الأساس لهجمات البوليس، حيث قام رجاله أول ما قاموا بإطلاق البمبان على عربة وكالة رويترز للأنباء، كما استهدفوا فريق قناة الجزيرة، واعتقلوا مراسل بي بي سي العراقي المهذب الأستاذ صفاء.

من ناحية الميزان السياسي طرحت المظاهرة علامة استفهام يتبعها التعجب في وجه الحركة الشعبية شريكة المؤتمر الوطني الكتوم، أو بالأحرى قذفت بها قذفاً، فقد غابت نصيرة المهمشين ساكنة القصر الجمهوري عن حضرة الجماهير وتوارت بسلطتها التشريعية والتنفيذية أثقال تحملها خلف ركام الكلام. هذا بصدد "القيادة" لكن قواعد وفئات من الحركة الشعبية فضلت "الخروج" حيث وقعت على بيان مضاد للزيادات مسؤولة نسوية من الحركة الشعبية بجانب أخريات يمثلن منظمات نسوية وأحزاب سياسية. هنا لا بد من وقفة إجلال وإكرام وتقدير للمرأة السودانية التي كانت شريان المظاهرة النابض، تقود الرسن عاشت ودامت التي لا تغيب. هذا دأبها المعلوم عنها وليس استثناءاً، تناضل كل حين وساعة وفي كل "حارّة" من حلة الملاح إلى المظاهرة. كن هنالك الرائدات الناهضات المناضلات، قمعن القمع كما هي عادتهن النارية، هتافهن وزغاريدهن ملء الفضاء والفؤاد، ترسخ في الذهن صورهن و"التياب" جليلة من عبق، كمثال: ست الشاي التي "لفحت" ثوبها تزاحم الزحام وتزغرد فرحة مرحة بنصر وفتح قريب، وزميلة في ثوب أخضر هيبة وأي هيبة برزت تتقدم كسهم نافر ساعدها قامة السماء في الكر عند موقف مواصلات أم درمان بعد الفر من بمبان ميدان الأمم المتحدة.

اجمال الدروس من تمرين مظاهرة "البنزين" أن لا بد من تقصي وتجديد وسائل التعبئة الجماهيرية، ومن ذلك ضخ الحيوية في المنظمات الجماهيرية والفئوية. كذلك من الضروري الاستفادة القصوى من فعالية التغطية الإعلامية وإحكام قنوات الصلة مع شبكات التلفزيون الدولية ووكالات الأنباء، وشبكات التضامن الشعبي التي يضج بها الفضاء السيبيري. الدرس الأعظم ألا بديل للعمل الجماهيري سوى العمل الجماهيري، هذا هو الطريق، ومن أراد القصد فليعمل على إصحاح الخطأ. أما الحكومة فقد تعرت من دستورها ووقفت تستر عوراتها بالسلاح والخوذات والعصي والبمبان.. مكشوف حالها يستبد بها العنف والرعب وما استبد بالجماهير. آخر القول تحية وسلام لشهيدنا صديق محجوب دامت ذكراه أبداً، من السكة حديد إلى سكة الحياة الأبدية، إنضم إلى "الرفاقة" والزهو كساءه، فقد قضى دون حق شعبه في الحياة، وهو شيخ أتى الشيب مفارقه وتجاوز، لكن ما بالروح العطب.