عن ما هو موجود و ما ينبغي أن يكون


احمد المغربي
2022 / 2 / 22 - 11:06     

يظل فهم الواقع كما هو ضرورة ملحة لا تنحصر في الحياة السياسية بل تشمل الحياة كلها إلا أن الشروخ العميقة تبدأ بالظهور حين ننتقل للضرورة الأكثر أهمية التي تتجلى في "ما بعد فهم الواقع كما هو" و لتحديد دور الانسان فيه و يمثل حاملو راية "ما هو موجود" الادعاء الواقعي مقابل حاملي راية "ما ينبغي أن يكون" المتهمين بالطوباوية و مع ذلك فنظرا لأن الواقع يثبت بشكل قاطع أن المسألة لا يمكن أن تُختزل في طرف محق مقابل طرف مخطئ فسنقدم في هذا المقال مساهمتنا المتواضعة حول هذه المسألة التي نادرا ما تمت معالجتها كما ينبغي (أي التعامل معها باعتبارها تعبر عن رؤيتين مختلفتين لعلاقة الانسان بالواقع)
*******
لا يخفى عن كل المهتمين بالشؤون العامة و عن كل من شاركوا في أحداث سياسية معينة أن أغلب السياسيين الاصلاحيين يبررون انهزاميتهم بمبدأ أن السياسة هي "فن الممكن" و يثير هذا المبدأ استنفار كل المناضلين الحقيقيين لا فقط الثوريين لكن هذا المبدأ الذي له نتائجا عملية حتمية له أيضا أسس نظرية و فلسفية على أساسها يبرر من يتبنونه ممارساتهم حتى بعد أن تؤدي للهزيمة فيدعون أن هذه الأخيرة كانت قدرا حتميا لم يكن تجنبه ممكنا حتى لو تم تبني الاقتراحات الثورية التي يطرحها خصومهم
و في الواقع فإن الأسس النظرية التي يستند عليها ذلك المبدأ لها نفوذ قوي في الساحة السياسية فحتى بعض الثوريين الرافضين لذلك المبدأ يتبنون بعض مبادئها(النظرية) فنجدهم في العديد من الأحيان يرددون المبدأ الذي انتقدوه علنا بصيغة أخرى أما من ناحية أخرى فقد مهدت تلك الأسس لولادة نقيضها فتكوّن عن طريق التفاعل الجدلي مفهوم بلغ في عدائه لها تطرفا شديدا و قد كان منطقيا و حتميا أن يكون التطرف هو شكله الممكن الوحيد و هكذا فكاحتجاج على المفهوم الذي يلغي فعالية الذات و دورها نتج المفهوم الذي منح الذات فعالية و دورا مطلقا و غير مشروط بأي واقع أو ظروف خارجها و مثلما نتج عن المفهوم الأول مبدأ "فن الممكن" نتج عن الثاني مبدأ "كل شيء ممكن"
لكن إن كنا ندرك النتائج السلبية للمفهوم الأول الذي يجعل الذات خاضعا سلبيا لما هو موجود و الذي يُجرِّدها حتى من حق التفكير في ما ينبغي أن يكون فعلينا أن لا نهمل خطورة ما قد ينتج عن الثاني الذي يقذف الذات في معركة الصراع من أجل ما ينبغي أن يكون و هي مجردة من سلاح معرفة ما هو موجود الذي لا غنى عنه لانتصارها
و اعتقد أنه من الضروري أن نوضح قبل كل شيء أن كل نشاط في الحياة السياسية أو في الحياة بشكل عام هو نشاط يهدف بطبيعته الانسانية الواعية لما ينبغي أن يكون و يعود هذا لأن الانسان كائن دائم السعي نحو الكمال كما وضح الفارابي و العديد من الفلاسفة من جهة و لأن السياسة مثل المعركة العسكرية لا يمكن للمنخرط فيها أن يزعم أنه لا يهتم بما ينبغي أن يكون من جهة أخرى أما هؤلاء الذين يختبئون وراء "ما هو موجود" هم في الواقع محافظون و اصلاحيون يتلخص ما ينبغي أن يكون بالنسبة لهم في الحفاظ على ما هو موجود الذي يرى بعضهم أن استمراره هو أهون الشرين(البؤس أو الفوضى) و يتصور البعض الآخر أنه الشكل الأزلي الذي لا يمكن أن يوجد غيره
لكن إن شبهنا السياسة(وأحيانا الحياة أيضا) بالمعركة العسكرية فهذا يعني أن العلاقة بين "الذاتي و الموضوعي" التي ترتبط بمبدأ فن الممكن و العلاقة بين "ما هو موجود و ما ينبغي أن يكون" تطرح نفسها بقوة كأسئلة لا يستطيع أي مناضل أو ناشط سياسي اهمالها و التغاضي عنها فهل يمكن لمخطط استراتيجي وضع خطته دون اكتراث بموارده و موارد عدوه أو بكل التفاصيل الاساسية للواقع السياسي و العسكري في بعض الاحيان
أعتقد أن الجواب عن السؤال السابق واضح إلا أن المشكلة التي نواجهها في المجال السياسي عند التعامل مع المسائل السابقة هي وجود بعض الانهزاميين الذين تتلخص خطتهم في عدم القتال بمبرر أن ما هو موجود لا يتيح امكانية خوضه و ما هو أسوء من هذا هو أنهم يتعاملون مع ما هو موجود كقدر أو كشيء ثابت لا يمكن للإنسان تغييره و مثلما يُحرِّم الكهنة على أتباعهم التفكير في تغيير ما يعتبرونه قدرا إلاهيا يُحرم العجزيون على الناشطين التفكير في ما ينبغي أن يكون و يتهمونهم بالطوباوية إن تجرأوا على ذلك لكن ما يعجز هؤلاء عن إدراكه هو أن "ما هو ممكن" يكون أكبر مما يتصورون من ناحية و أن ما هو موجود يحمل تناقضات و امكانات تتيح تحقيق ما ينبغي أن يكون من ناحية أخرى و قد أشرت في مقالتي عن "الموضوعي و الذاتي" لأن :
"الجانب الآخر الذي يتغاضى عنه أنصار العجز و الانتظار في تعاملهم مع العلاقة بين الموضوعي و الذاتي هو درس “ما بعد الحرب العالمية الثانية” الذي قدمته البلدان المتخلفة التي اختارت الطريق الاشتراكي فقد كانت الظروف التي كان على البلدان المتخلفة أن تبني في ظلها “اشتراكيتها” مثل الظروف التي كان على الفقير أن يكافح في ظلها ليتجاوزها و يصبح ثريا و رغم عجز تلك البلدان عن بناء الاشتراكية مثلما يعجز أغلب الفقراء عن التحول لأثرياء فالمهم هو أنهم في طريق كفاحهم تجاوزوا نقطة التخلف و الفقر و ساروا بعيدا عنها في حين أن العجزيين و الانتظاريين في الدول المتقدمة التي كانت فيها الطروف جد ملائمة لبناء الاشتراكية كانوا مثل الميسور المقامر الذي لا يعجز فقط عن تطوير ثروته الموروثة بل كذلك يفقدها و يعجز عن الحفاظ عليها لينتهي به المطاف للإفلاس"
و ما أقصده هو أنه بغض النظر عن القدرة عن تحقيق "ما ينبغي أن يكون" في حد ذاته فالسعي الثوري لتحقيقه يتيح لنا تجاوز "ما هو موجود" انطلاقا من تحويل ما هو موجود بالقوة(الممكن) إلى موجود بالفعل(حقيقي و واقعي) و بدون السعي الثوري نحو الأفضل و ادراك فاعلية الذات في تفاعلها مع الواقع الموضوعي سيستحيل تحويل الممكن إلى حقيقي إذ سيتم التعامل مع الواقع بقَدَرية و عجزية تسلِّمُ مسبقا بعدم جدوى بذل أي مجهود انطلاقا من تعاملها مع "ما هو موجود" بالفعل فقط ولعل دراما الثورة الروسية(و في الواقع الحياة كلها...) تمثل مادة مهمة لتقديم العديد من الأمثلة المفيدة عن الذاتي و الموضوعي من جهة و الموجود بالقوة و الموجود بالفعل من جهة أخرى فخلال مفاوضات بريست ليتوفسك رد تروتسكي على خصومه(خدام القيصر الألماني) الذين أرادو التأكيد على وضع روسيا آنذاك(أي ما هو موجود) خلال محاولتهم فرض شروطهم المذلة قائلا :"لا يمكننا – و لا نريد – أن نحاول إنكار أن السياسة التي اعتمدتها الطبقات الحاكمة في بلادنا حديثا قد أضعفتها. إلا أن موقع بلد في العالم لا يحدده الوضع الحالي لجهازه التقني وحسب؛ ينبغي أن تؤخذ بالحسبان أيضا الطاقات الكامنة فيه"(اسحق دويشتر –النبي المسلح)
لقد وضحت الحرب الأهلية التي فُرِضت على الثورة الروسية رغم أهوالها الكارثية الامكانات الباطنية التي كانت تحملها و تُخَزنها الثورة و كذلك قدمت لنا الثورة الكوبية العظيمة مثالا مهما يوضح الفرق بين الموجود بالقوة(الممكن) و الغير موجود تماما فبفضل صمود المغاوير في البداية رغم تكبدهم خسارة كبرى خلال الانزال استطاعوا الاستفادة من الامكانات التي كانت مدفونة تحت سطح الخنوع و الهدوء فأثبت جيش الاثنا عشر بعزيمته و إرادته تهافت العجزيين و الواقعيين الجبناء لكن غزو خليج الخنازير وضح أيضا بدوره مصير الذين يزدرون الواقع بإغراء من الارادة الجاهلة فالامبرياليين وعملائهم الذين كان عددهم حوالي 1500 كانوا من ناحية التجهيز أفضل تسليحا و أكثر عددا من ال82 الذين أبحروا مع فيديل في الغرانما سنة 1956(و الذين لم ينجوا منهم سوى 12) لكن العملاء تكبدوا هزيمة مذلة و سريعة من طرف القوات المسلحة الثورية و الميليشيات الشعبية في وقت وجيز جدا فلم تتح لهم حتى الفرصة لخوض صراع جدي لأن الامكانيات الحقيقية للقيام بعملهم كانت منعدمة إذ أن الشعب الكوبي الذي كانوا ينتظرون دعمه لعمليتهم استقبلهم بالرصاص
و يمكن للعديد من الأحداث الأخرى أن تقدم لنا دروسا ثمينة عن "ما هو موجود" و ما ينبغي أن يكون" و عن الممكن و الغير ممكن إلا أننا سنرى إن تأملنا جيدا أن مبدأ الصراع من أجل ما ينبغي أن يكون ضد ما هو موجود يلعب دورا تقدميا و إيجابيا حتى على صعيد الحياة الفردية إذ أن "الأنا المثالي" مثلا يلعب دورا تنمويا حقيقيا في حياة من يسعى لتحقيقه و الوصول لتحويله لواقع حقيقي بجدية و بفضل "الأنا المثالي" يتمكن الفرد من تطوير ذاته على الصعيد الأخلاقي و العملي من ناحية و يتمكن من تحصينها من تأثيرات الظروف التي تشوهها من ناحية أخرى فيغدوا الفرد المكافح من أجل تحقيق الأنا المثالي الذي يؤسسه انطلاقا من وعيه الحقيقي فاعلا و متفاعلا إيجابيا في صنع واقعه لا نتيجة سلبية للظروف المستقلة عنه
لكن "الأنا المثالي" كتعبير عن ما ينبغي أن يكون ليس مستقلا عن الواقع الموضوعي استقلالا تاما و ككل "ما ينبغي أن يكون" فإن الأنا المثالي يخضع للقوانين الموضوعية و قوتها بالرغم من أنه يمنح لصاحبه قوة تتيح له مواجهة الواقع و التفاعل معه بشكل إيجابي يُجنِّبه أن يكون مجرد نتيجة سلبية له و يجب الإشارة أيضا لأن التأثير الإيجابي للأنا المثالي و النموذج المثالي لما ينبغي أن يكون مشروط بشكلهما الملموس لأنهما بطبيعتهما مفهومان مجردان يتجسدان في صور و أشكال ملموسة مختلفة و متناقضة فالأنا المثالي الذي أسعى لتحويله لواقع حقيقي فد يكون النقيض المطلق للأنا المثالي لشخص آخر و فقط النموذج الذي له انسجام منطقي و عقلاني مع الواقع الموضوعي و قوانينه هو الذي يكون له تأثير إيجابي على صاحبه أما النموذج الذي يكون له مثلا تناقض موضوعي وعدائي مع الطبيعة البشرية(الحقيقية لا المزيفة) فقد تصل تأثيراته السلبية للتسبب في اضطرابات شديدة الخطورة للفرد الذي يسعى لتحقيقه و تكون هذه الآثار السلبية نتيجة حتمية تلازم النموذج الرجعي و لا تفارقه
و كهذا إذن فقد وضحنا أهمية السعي الثوري لما ينبغي أن يكون من خلال الإشارة للأنا المثالي الذي يمثل تجسيدا له و من خلال توضيح ما يمثله و ما يمكن أن يمثله بالنسبة للفرد إلا أنه يجب أن لا نتغاضى أيضا عن أن الأنا المثالي مجرد مثال لا يمكن حصر "ما ينبغي أن يكون" فيه إذ أن تغيير فرد أيسر من تغيير الواقع الأوسع ففي هذا الأخير يغيب الوعي و عكاز الارادة الذي يستند عليهما الفرد أما حين يحاول الأفراد تغييره بقوة الارادة فهم يصطدمون بجداره الصلب لذي لا تتزحزح و في الواقع فلا يمكن كسر أو زحزحة جدار الواقع إلا من خلال اكتشاف ثغرة الحلقة الأضعف بين حلقاته و تركيز كل جهدنا نحوها إذ يمكننا مثلا التأثير في الواقع السياسي و الواقع الثقافي من خلال استغلال اختلال الواقع الاجتماعي في ظرفية معينة كما يمكننا استغلال نضج الامكانات في جزء آخر دون الأجزاء الأخرى في ظرفية أخرى للتأثير في الكل من خلال تركيز قوانا على ذلك الجزء الأضعف
وكمناضلين بمختلف توجهاتنا فنحن نصطدم خلال نشاطنا مع "ما هو موجود" بالفعل و نحدد تغيراته و حركته بالصيغة العامة التي تعبر عن حركته بالنسبة لنا "بالمد و الجزر" إلا أن التمايز بيننا يبرز أساسا أثناء تحديد الكيفية أو الطريقة التي ينبغي علينا التعامل بها مع هذا الاتجاه الذي نتفق و نجمع على أنه مد أو جزر خلال تلك المرحلة و لا تنبع هذه الاختلافات من الانتهازية أو القصور الذاتي دائما بل في العديد من الأحيان يكون الاختلاف نابعا من تباين تقدير ما هو موجود "بالقوة" أي من ذلك "الممكن" الذي يستند عليه كل طرف لتبرير موقفه و أعتقد أن هذا الاختلاف بين المناضلين الصادقين في حد ذاته يفرض علينا أن ندرك أن هذا الموجود بالقوة الذي يستند عليه نشاط ثوري يكون أكبر مما قد يبدوا و أدرك أن المبالغة(أي الخطأ) في تقدير ما هو ممكن قد تدفع المناضل للتهور لكنن أدرك أيضا أن التغاضي أو المبالغة في الاستخفاف بالإمكانيات(أي ما هو موجود بالقوة) يصيب المناضل بوباء المحافظة و الجبن و التردد
و كتلخيص و إضافات حول هذا الموضوع الذي قد نغوص في التطرق له بتفصيل أكبر حين تحين الفرصة ف:
1. لا يوجد سور صيني بين "ما هو موجود" و "ما ينبغي أن يكون" بالنسبة للثوري بل يعتبر هذا الأخير الثاني مجرد نقطة ينطلق منه لتحفيز نضاله و نشاطه الايجابي لتغيير الأول
2. يفيد الاستناد على "ما ينبغي أن يكون" المناضل الثوري على بناء وعي نقدي لا يُسلم بشرعية وجود "ما هو موجود" فلا يستسلم له على غرار من يتعاملون معه كشيء "طبيعي"
3. يتعامل الثوري مع "ما هو موجود" بمنهج ديالكتيكي يرى الجزء في ارتباطه مع الكل فيدرك العلاقة السببية الموجودة في الواقع و يستوعب بذلك امكانية و "وسائل" تغيير ما هو موجود
4. لا يتعامل التقدمي والثوري مع ما هو موجود بالفعل فقط بل يبحث أيضا عن ما هو موجود بالقوة فلا يحصر رؤيته في الحدود الضيقة للواقع بل يستوعب أيضا الامكانات الواسعة التي يحملها ذلك الواقع
5. نظرا لأن "ما ينبغي أن يكون" مفهوم مجرد قد يتخذ أشكالا ملموسة متناقضة أحيانا فمن الضروري التأكيد على أن فعاليته الايجابية مشروطة بمدى انسجام الشكل الملموس الذي سيتخذه مع الامكانات الموضوعية الحقيقية
6. لا يتجاهل الثوري أنه لا غنى عن قوة موجودة بالفعل لتحويل ما هو موجود "بالقوة" إلى موجود "بالفعل" و بالتالي فيجب أيضا أن نتساءل خلال نشاطنا عن قدرتناعلى تحويل الممكن إلى واقع لأنه ستوجد دوما إمكانات كامنة في الواقع لكن لن يكون ممكنا تحويلها لواقع بدون قوة متباينة(حسب الحالة) لازمة لذلك
7. خلال محاولته العبور لما ينبغي أن يكون لا يتجاهل الثوري "ما هو موجود" و لا يتعامل مع "ما ينبغي أن يكون" و كأنه موجود بالفعل قبل وجوده لكنه "أحيانا"(وأؤكد على أحيانا بشدة) يتعامل بفلسفة الثورة الكوبية التي لخصها غيفارا بقوله "ليس من الضروري دائمًا انتظار وجود جميع الظروف المواتية للثورة ؛ الانتفاضة نفسها يمكن أن تخلقها."
8. يمكن أن توضح لنا العلاقة بين التشريع و "ما هو موجود بالفعل" ما أقصده إذ أن تشديدي على ضرورة عدم الانحصار في ما هو موجود بالفعل لا تعني أنني أقصد تجاهله فالتاريخ يؤكد أن تجاهله لن تَنْتج عنه سوى المآسي و التشريع بطبيعته يجسد الواقعية الشديدة في أبسط و أوضح صورها إذ أنه ينطلق في عمله من الناس كما هم في اللحظة المعينة كما هي و يمكن أن نقول حتى أن هذا هو القانون الرئيسي لكل قانون و تقدم لنا الكوارث التي نتجت عن استهواء بعض قادة الحزب البلشفي لقوانين شيوعية الحرب مثالا مهما يكشف لنا عن نتائج خرق ذلك القانون
لكن رغم هذا لا يجوز للثوري الولع بالنزعة التشريعية لكونها محافظة بطبعها و لأنه لا يجب أنْ يتغاضى أيضا عن أنّ هناك لحظات يتبنى فيها التشريع مبدأ "ما ينبغي أن يكون" وقد سبق لمونتيسكيو أن أشار لأن القوانين تُصْنَع من طرف البشر لكنها تَصْنعهم بعد ذلك
كما أنه و بعد كل شيء لا يمكن أن نتعامل مع القوانين بمعزل عن العوامل الأخرى التي يعمل لأجلها كل مشرع إذ أن كل مشرعٍ يعمل بارتباط مع غايات و أهداف محددة و المشرع الثوري(أو التقدمي بشكل عام) لا يمكنه أن يعمل بروح المشرع المحافظ لأن غاياتهما النهائية مختلفة بكل بساطة فإن أخدنا السجون كمثال (يوضح لنا قليلا استحالة إلغاء مؤسسة الدولة المقيتة عشية الثورة) يمكننا أن نفترض أن كل تقدمي سيهدف لإلغائها بخلاف المحافظ الذي يفترض أنها و بالرغم من أن الضرورة الجزئية ستفرض العمل بنظام العقاب و السجون على التقدمي مثل المحافظ إلا أن الضرورة الكلية و العامة للتقدمي ستفرض عليه النضال من أجل إزالة الاسباب التي يرتبط وجود السجون بوجودها و نحن نرى هنا مجددا أنه بحكم طبيعة الضرورة التي تحرك الثوري فلا مفرّ من انتقاله من "ما هو موجود" إلى "ما ينبغي أن يكون" إذ أن الثوري يعيش في الحاضر دون الانفصال عن المستقبل و هو يتعامل مع الناس كما هم في الظروف المعينة كما هي دون أن يغفل أنهم يمكن و يجب أن يتغيروا للأفضل في ظروف أخرى و بهذا فإن عمل الثوري هو نشاط مستمر من النضال من أجل "ما ينبغي أن يكون"


ملاحظات و توضيحات
مقال "الموضوعي و الذاتي": https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=722304
عن الوجود بالقوة: كان لأرسطو الفضل في توضيحه لانقسام الموجودات لما يوجد بالفعل (و كان يقصد بها الواقع) و لما يوجد بالقوة (و كان يقصد بها الامكانات الكامنة فيه) وقد انطلق في نظريته هذه من استحالة تكوّن الأشياء من العدم و تتيح لنا نظريته فهم العديد من الظواهر فاستسلام مناضل و انسحابه من السياسة مثلا لا يأتي من العدم بل يكون كامنا فيه لكن لا يعني تحوّل ذلك الميل الموجود فيه بالقوة إلى واقع موجود بالفعل أن الأمر بالبساطة التي قد يفترضها البعض فحدوث ذلك التحول مشروط بعوامل تحدث في الواقع الموجود بالفعل و هي عوامل تخضع أيضا للزمان و عموما فالأمر معقد نوعا ما بحيث يمكن مثلا أن يصمد مناضل ما أمام تلك العوامل لمدة أقل و آخر لمدة أكثر انطلاقا من تباين الامكانات الخاصة لكل فرد معين و قد نقول أن أحدهم سيستسلم بسرعة(أحيانا قد يكفي إرشائه و أحيانا أخرى قد يكون نزيها لكن عواملا بسيطة كالنميمة و الدسائس السائدة قد تكفي لدفعه لما يتجاوز الاشمئزاز و يصل للانسحاب) بينما يلزم استسلام الآخر و احباطه عواملا و وقتا أكبر(أي لا ينحصر الأمر في السجن والتعذيب بل يمتد لعوامل أخرى منها ما أسميه بِرِهان المناضل)
عن الأنا المثالي: أقصد به ذلك النموذج الذي يمثل بالنسبة للفرد "هكذا يجب أن أكون" مقابل ما أنا عليه بالفعل" و قولي بخضوع ذلك الأنا المثالي للواقع الموضوعي له أبعاد متعددة منها أن سعي الفرد لتحقيقه يشترط نضجا معينا لديه(نلاحظ غيابه في حياة العديد ممن لا يكترثون به أصلا) كما أنه(الأنا المثالي) يظل مشروطا بالمستوى الذي بلغه وعي ذلك الفرد فانطلاقا من معايير معينة سنجد أن درجة قرب الأنا المثالي من الكمال تكون متباينة بين الأفراد و الجماعات
عن شيوعية الحرب: هي سياسة دافع عنها بوخارين و رفاق خطه بالخصوص و في الفصل الثاني من كتاب الثورة المغدورة قدم تروتسكي(الذي كان "الرجل الثاني" في الدولة و الحزب آنذك) نقدا عميقا و مهما لكل الأسس التي كانت تستند عليها شيوعية الحرب لتبرير ذاتها كوسيلة للانتقال المباشر للمجتمع الشيوعي و تضمن نقده تفنيدا ساخرا لتهمة القفز عن المراحل التي روّج لها أعداؤه
عن مونتيسكيو و القانون: أتفق اتفاقا مطلقا مع تأكيد الفكر الماركسي أن فعالية القوانين تظل مشروطة بالقاعدة الاقتصادية اللازمة لتحقيقها إذ أن الثورة الروسية تقدم لنا مثالا مهما يوضح أن أفضل القوانين و أرقاها تظل حبرا على ورق إن غابت القاعدة الاقتصادية لتطبيقها حتى إن وُجِدتْ الارادة الصادقة التي لا غنى عنها في المسألة إلا أنني أرغب أن أوضح انطلاقا من واقع بعض دول المنطقة و انطلاقا من الطابع المركب للتطور أنه في حين أن غياب القاعدة الاقتصادية لتطبيق قانون ما يعني أنه سيظل أسير الورق الذي كُتب عليه فإن وجود القاعدة الاقتصادية اللازمة لتحقيقه لا يعني أن تطبيقه سيلازمها بشكل عفوي أو بدون صراع...