119 الإسلام والحضارات


حميد المصباحي
2022 / 2 / 19 - 23:48     



وصل الإسلام إلى كل القارات، بل الحضارات، ولنميز بينهم من خلال الطرق التي وصل إليهم بها، فما كان حصيلة تفاعل ثقافي واقتناع فردي تحول إلى جمعي، يختلف عما فرض بالغزو والجزية، فاعتنقه الناس عادة أو خوفا وتجنبا لإرهاقهم بجزية تفرض عليهم دون باقي المسلمين، وبذلك، اختلف إسلام القناعة عن إسلام الخضوع والإكراه، لكن هناك عامل آخر، له تأثيره البليغ، وهو طبيعة الحضارة التي كانت سابقة عليه في تلك المجتمعات والحضارات، فالذين عرفوا الفكر وخبروه، عقلنوا الإسلام لاستيعاب أبعاده الأخلاقية، فجعلوا في العرفان سموا بالروح ليستأنفوا ديانات الشرق الحكمية به، كما عاشها زراديشت وبوذا وكونفشيوس، فبحثوا عن النبي في أنفسهم مستحضرين تجاربه الروحية لا القتالية ولا حتى الطقوسية، فكان إسلامهم زهديا في أبعاده، طهروا به ذواتهم فجعلوا الذات طهرانية لتتقدس فتكون جديرة بأن يزورها الله أو يقترب منها روحا لروح، هنا كانت بهجتهم واحتفاؤهم بروحانية الإسلام، التي عزلوها عن الغزو والتمكن وكل قيم الصراعات والانتصارات العنيفة، فشكلوا جماعات الله ولم يعنفوا ولم يهددوا، بل دفعوا الناس للإنصات إلى ذواتهم بعيدا عن أي إكراه أو وعظ تخويفي أو إغراء شهوي حسي أو ما فوق حسي، أما ذوا العقول، فجعل الإسلام مدركا عقليا بغاياته الأخلاقية، فاعتبروا ما يصدر عن الله، يمر ضرورة من عقل فعال، هو المفيد بما عظم فهمه تدبرا، فكان هذا العقل الكوني موجها لعقول بشرية تأهلت بجهدها وتفانت تأملا لتصله حيث عالم الغيب فيه متاح لأهله ممن اتسعت رؤاهم فطالت عالما ليس لغيرهم يرى أو يدرك إلا تشبيها أو لغة وتواترا وحتى تقليدا، أما الفئة الثالثة وهم الكثر جماعات واتجاهات، فلم يجدوا في الإسلام إلا طقوس العبادة وعنف إكراه الناس على الإيمان بأجسادهم لأنهم لا يملكون غيرها، فحولوا الدين لدين في أعناق الناس يلوونها به ويشدونها غلظة وتشريعا كأنهم على الشرائع أوصياء، وهم بما هم كانوا، حيث لم يعرفوا قبل الإسلام إلا قيم الغزو والتهجم التي أورثتها لهم قساوة جغرافيتهم، وشح أراضيهم، ومن احتكم لغير ما أرادوا هجروه بالقوة وطردوه خارج مجالهم، فكان لهؤلاء إسلام البداوة معه تطبعوا ولم يسمحوا بتمدينه إلا لماما، فظهر مجتهدوهم على غير اجتهادات غيرهم، وما يزالون بقوة مالهم يفرضون ما يعتقدون أنه الإسلام الحق مختلفين عمن سواهم من المسلمين، والحق أن المسلم يتأثر بالحضارة التي كانت سابقة على إسلامه، بل لنقل أنه يكيف جماعيا وفرديا الإسلام مع طبيعته الحضارية التي زمنيا لا يمكن تجاهل فعلها وتأثيرها الغير مصرح به، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلا، ما الذي شد بلاد فارس للإسلام الشيعي؟
أليست العقلانية العرفانية متأثرة بحكمة تهب الحكيم مكانة بحكمه وأقواله، فلا عجب أن يعجبوا ببلاغة علي وحكمته ويجدوا فيه من حكم زراديشت ما استهواهم به، فاعتقوا الإسلام الذي كان هو المؤول لحكمه دون غيره من الصحابة، الذين لم يتجرأ أحد على جداله، حتى قيل أن الحكمة هي النبوة بمحمد، وعلي بابها، وما يزالون يعتبرون الباب هو حاجب الإمام، سواء كان حاضرا أو غائبا محجوبا، أما الدول السنية فقد رأت في التوارت مقياسا للصحة حتى تتفادى إكراه الفكر، فقبلت بما صح تواتره حتى إن كان العقل رافضا له، وبينهما اتجاهات أخرى، كالعلوية والصابئة وعنف الخوارج وحوارية المعتزلة والمهدوية وصوفية الطرقية....