جدلية المكان والانسان في رواية (القداحة الحمراء) للأديب حميد الحريزي


طالب عمران المعموري
2022 / 2 / 15 - 10:10     

لطالما نرى الرواية الحداثوية دائما في خلق جديد لارتباطها الوثيق بالتجريب حالها كبقية الاجناس الادبية فلابد من وجود قارئ له استراتيجية قرائية في فهم مداخل النص وبنياته السردية ومدى تفاعلها مع الواقع والتي تقترن ضمناً بفعل متعوي ينتهي بمحصلة اكتشاف لذة النص .
يقدم لنا الاديب حميد الحريزي شكلا من اشكال الكتابة الابداعية ضمن الحقل التجريبي في جنس أدبي غير شائع الرواية القصيرة جداً او ما يسمى (مكرونوفل) مجموعة من الروايات القصيرة جدا الصادرة من مطبعة حوض الفرات في طبعتها الاولى ،2019 .والتي تضمنت أربعة روايات قصيرة جداً( المقايضة، ارض الزعفران، القداحة الحمراء، المجهول ) تنوعت مواضيعها بين الواقعية والفنتازيا والغرائبية التي تهتم بتغيرات القيم الاجتماعية وتحولات البنية الاقتصادية والاثار المترتبة على سلوكيات افراد المجتمع .
جذبنا الروائي بأسلوبه الجميل حيث استطاع مسك زمام عمله الروائي وتطوير الحدث بما يمتلكه من مهارة من حيث الرصانة في الحبكة ودرجة كبيرة من التكثيف والاختزال والترميز.
استهلت روايته بحديث النفس للشخصية المحورية (عاصف ) وهو يتحدث عن نضاله وطبيعة الصراع الطبقي لطليعة البروليتاريا وهو واحد منهم في صراعها ضد البرجوازية: "نعم يا(عاصف) هذا هو طريق النضال، فهو ليس معبد بالورود. وهذه هي طبيعة الصراع الطبقي لطليعة البروليتاريا، وانت ـ طبعاـ من هذه الطليعة.." ص55
السرد وبناء المكان
فضاءه الروائي الذي يتضمن أمكنة متعددة ، فالمكان يلعب دورا هاما في البناء الفني للرواية وهو عامل اساسي التي يقوم عليه الحدث فان وصف محيط الحوادث وصفا دقيقا يساهم بشكل او بأخر في إعطاء نظرة شاملة عن الرواية ،فالمكان هو البيئة التي يعيش فيها الانسان ،
يصف الكاتب هذه الجدلية ما بين الناس وتلك الاماكن بما لها من تأثير مباشر التي "تحدث تحولا في عملية الوعي ، من مدركاته البسيطة الى مدركات معقدة متشابكة بمعنى آخر لا تتم النظرة الفنية لمثل هذه الامكنة بمعزل عن النظرة الجدلية لكل البناء الاجتماعي " 1
ملكة الروائي وقدرته العالية على الرصد وسبر اغوار الامكنة والفضاءات التي يمر عليها، فالمكون المكاني المشهدي مكون بنائي حيث نلمس تلك الجدلية، يصف السارد الامكنة في روايته (القداحة الحمراء) التي تتناسب طرديا مع كثرة القباب وأضرحة السادة ومقامات الاولياء مع حجم المآسي والآلام والبؤس الذي يعاني سكان الاهوار
فضاء رواية القداحة الحمراء ومجموعة العلاقات بين الاماكن والشخصيات وما يجري من احداث، يرصد لنا الروائي بعين ثاقبة مختلف العلاقات التي تجمع هذا المكون الحكائي بالإنسان فالأمكنة في الرواية متعددة ومتفاوتة(المقهى ،الهور ، الشارع، ناحية الفهود، ناحية الحمار ، قضاء الجبايش ،اضرحة السادة والاولياء ) حيث نراه مستطلعا جيدا على الامكنة والفضاءات والتي هي بمثابة المرآة العاكسة لصور الشخصيات وتنكشف خلالها الشخصيات ببعدها النفسي والاجتماعي حيث حول الروائي المكان كأداة للتعبير عن موقف الشخصية وتتجلى فاعليته :" في ناحية الفهود شارع يمتد في ناحية الفهود شارع يمتد الى ناحية الحمّار ثم الى مركز قضاء الجبايش هذا الطريق ابتداء من قبة (سيد نجف)ـ آمل أن لا نستغرب من كثرة قباب وأضرحة السادة ومقامات الاولياء في هذه المناطق ، عدد الأضرحة والقباب يتناسب طرديا مع حجم المآسي والآلام والبؤس الذي يعاني منه سكان الاهوار مما يدفعهم الى ان يتمسكوا بأكثر من حبل للنجاة والشكوى، فهمومهم لا يستوعبها ضريح واحد..." ص56

اعتمد الروائي اسلوب التعبير استنادا الى مجموعة من القيم الجمالية جعلته شكلا تعبيراً متميزاً فكلما كان وصف المكان وصفاً تعبيرياً بالإيحاء والتلميح يتناول وقع الشيء والاحساس الذي يثيره في نفس المتلقي
حيث هو اكثر التزاماً بقضايا الانسان وما يعانيه من قهر وقمع وكبت وغربة فقد كان اكثر ارتباطاً بالمكان حيث اعتمد تقنيات هذا المكون المهم الذي يلعب دورا اساسيا في بناء عالمه الحكائي بالإضافة الى العناصر الاخرى التي لا غنى عنها : الاحداث، الشخوص ، الزمان ، المكان ، السرد والوصف ثم الحوار والدلالة والرؤية الحكائية)

اعتمد الروائي في وصف مسرح الحدث بإيجاز بقدر الامكان واظهر سماته الاساسية بما يرتبط بالرواية القصيرة جداً فهو قدم لنا الامكنة بطريقة فنية يكشف مدى عمقه ودلالته الموضوعية وليس الافتراضية التخيلية لتماثله مع الواقع و الحياة الاجتماعية وارتباطه الوثيق مع الشخصيات التي ترتاده وتقطنه وعلامات ذلك المكان التي يحملها تدل على صفات الشخصية وطبيعة عملها وسلوكها الاجتماعي وبهذا يكون المكان انعكاس الواقع : "تظهر الفهود والحمار والچبايش عبارة عن چباشات كبيرة تحيط بها عدد من الچباشات الصغيرة تعتليها بيوت سكنة الاهوار المتناثرة على طول وعرض الهور، يتم التنقل من احدها الى الآخر بواسطة البلم." ص58

تزخر رواية(القداحة الحمراء ) بفضاءات مكانية تتسم بالتعدد والاختلاف فهو يوزع امكنته تبعا لتنوع الوقائع والاحداث التي يريد التحدث عنها، نجد تشكيله للأمكنة اعتمادا على الوصف تبعا للمشاهد الوصفية ومن خلال لغة المكان وتجلياته
وهذه المشاهد الوصفية لا تخلو من بعض الاسقاطات الذاتية والايديولوجية تبدو الناحية متعبة غير مهتمة لأناسها فتعطي احساساً بالغربة والضياع.
فتراه يقدم الناحية والچباشات والهور في وصفه بشكل أعمق في علاقتها الحميمة مع الناس ، فهو يعري الاشياء وتنكشف الغوامض وتبدو هذه الناحية بسيطة ومهمشة من قبل السلطة الشمولية :" كردي منفي لا يملك شبراً من أرض وطنه ولا مسكناً يؤويه، لا لذنب اقترفه سوى انه يحلم في ان يكون لامته الكردية المقطعة أوصالها بين الأمم وطن مثل كل امم وشعوب العالم صغيرها وكبيرها..." ص 70
يتضح من خلال هذه الامكنة كفضاء دلالي مدى تهميش واقصاء السلطات الشمولية المنصرمة لشعوبها والتحكم بمصائرها ومن ثمة تغدو هذه الامكنة باتساعها مبعثا للضيق والتعاسة :
وعبر هذه الملامسات المكانية يخوض في مختلف التناقضات الاجتماعية والنفسية فهو مبعث للخوف والاضطهاد .
معالم الامكنة الواردة في روايته والمرتبطة بالشخصية والحدث .المقهى ، الدكاكين، الشارع، البيت، الهور ،الصرائف المبنية من القصب والبردي، وهذه الامكنة التي تشكل بنيات صغيرة بمقارنة بالبنية الاكبر المدينة او الناحية، ويصف لنا العلاقات بين الطبيعة والانسان، يصف الناس الساكنين قرب الانهار وممارسة طقوسهم :
" هناك قهوة ابو راجي وكاظم (الوسخ) كما يسمونه أهل الناحية، وهناك الدكاكين للبقالة والقصابة ، ومحل الصابئة الذين يتميزون بصناعة ادوات الزراعة البدائية (المنجل والمسحاة والمذراة والكرك وأعوادها) وهم يفضلون السكن على ضفاف الانهار وحافات الاهوار ليكونوا قرب الماء الجاري المقدس لديهم، والذي تجري بعض طقوسهم فيه كما هو معروف" ص58
المقهى : تعد مقهى الناحية ( مقهى ابو راجي ) احدى العلامات المكانية البارزة في فضاء القداحة الحمراء، فهي مكان شعبي يستقطب اهالي الناحية والناس المهجرين والمبعدين من كل الفئات الاجتماعية على مختلف مستوياتهم الثقافية فيصف لنا الروائي حركة الشخصية المحوري (عاصف ) وتواجده في المقهى يقضي بعض الوقت ولقائه بالشخصية الرئيسية الثانية (كاكة حسن) ويتعرف عليه وهو من الافراد المهجرين من كردستان بعد انهيار الثورة الكردية ضد نظام البعث 1975 .
"كان عاصف يقضي بعض الوقت في مقهى( أبي راجي) نظرا لأريحيته ونظافته وحسن معاملته ومعرفته الواسعة بالمنطقة وتاريخها وسكانها ، لفت نظره ، في القهوة، تردد رجل تجاوز الخمسين من عمره يعتمر (چراوية) بغدادية ودشداشة عربية (وگيوه) يتكلم عربية (مكسرة)، ويتنكب مكنسته على طول النهار يدعى (كاكه حسن)" ص59
يتبين من خلال هذا الالتصاق الحميمي بين الانسان والمكان مدى الدور الهام الذي يقدمه هذا الاخير بمختلف تجلياته في بلورة مفاهيم ومنظومات ذهنية لدى البشر. يقدم لنا السارد خلال فترة مكوث عاصف في ناحية الفهود العناق الحميمي بين عوائل الكرد المهجرين في لقاءهم حيث يحتضن احدهما الاخر حتى يسقط ارضاً الذين فرقتهم الاحداث :
" كاكه هؤلاء الكرد من عائلة واحدة ، فرقتهم الاحداث ولا يعلم احدهم مصير الآخر عندما سفرتهم السلطة ووزعتهم على المناطق الجنوبية ووضعتهم في صرائف من القصب والبردي اعدت لهذا الغرض" ص60
اظهار الحالة الفكرية والنفسية لشخصية (كاكة حسن ) حين يسترسل عاصف واصفاً تفاصيل يومه وجولاته مع( كاكه حسن) وطبيعة العلاقة بينهما وهم يذهبان مساءا صوب (الروف) عبر الشارع الترابي العتيق الذي يربط الناحية بمركز ذي قار" يرقبا حركة الاسماك وتراقصها قرب حافات الهور ، يراقبان ويتمتعان بمراقبة طيور الماء وهي تسبح أسراباً غاطسة قافزة ناثرة المياه بأجنحتها في رقصة مسائية صاخبة مطلقة أصوات وزعيق كأنها حفلة عرس بهيج" ص65 .
وبهذا المعنى ، يتحول المكان الى بعد جمالي من ابعاد النص السردي لما يمنحه من امكانية الغوص في اعماق البنية الخفية في النص واجوائه ورصد تفاعلاته وتناقضاته وبرغم ذلك قد نرى علاقة الشخصية (كاكة حسن) مع هذا الفضاء المفتوح مكانا مغلقا مهما اتسع الفضاء لما تشعر الشخصية من حزن وضيق
اعتماد الروائي على اللغة استطاع خلق عالم من الكلمات تقترب من الواقع وفقا لعملية تصوير المشهد المكاني وعلى هذا الاساس يكتسب المكان بعدا واقعي كلما كان اكثر قرباً من الواقع .
المصادر
1- ياسين النصير، الموسوعة الصغيرة 195: الرواية والمكان ،دار الحرية للطباعة والنشر ،1986 . ص25 .
2- مجموعة من الروايات القصيرة جدا الصادرة من مطبعة حوض الفرات في طبعتها الاولى ، 2019 .