منطق و مآلات الصراع بين روسيا و منظومة حلف الناتو


حسام تيمور
2022 / 2 / 15 - 08:33     

ينظر الى الأزمة الأوكرانية حاليا على أنها معركة "تكسير العظام" بين قطبين غير واضحي المعالم، لكن الروس هنا بالذات يدركون جيدا "معنى" ما هم مقدمون عليه !
و بلغة المصالح و الاستراتيجيا، و محاذير البراغماتية، فإنه لا حماقة و لا تهور في الاندفاع الروسي الغير مسبوق، نحو استعادة مجال حيوي يعني الكثير للاستمرار و الوجود الروسيين !
بهذا المعنى تحديدا، فالقضية الاوكرانية وعكس النظرة السطحية و المنطق الوضيع الذي يتبناه انصار أمريكا و توابعها، هي قضية وجود بالنسبة للروس، على المدى القريب و المتوسط و البعيد، و ذلك لاعتبارات عدة .
إن المسألة هنا تتجاوز ما يصطلح عليه كلاسيكيا، بنطاقات النفوذ و السيطرة و ذلك لسبب بسيط، يتمثل في كون أن "معايير الحرب الحديثة لم تعد مرتبطة ميدانيا، بمفاهيم الحرب التقليدية، و الاستراتيجيات الكلاسيكية"، التي تعتمد على نطاقات السيطرة و هوامش الفعل و رد الفعل العسكريين، و هو ببساطة ما ينتج بطلان الفعل "التاكتيكي" الموازي و الناتج بالضرورة عن هذا التحليل السطحي،و الذي يقول بأن النزاع هو نزاع "حدود" و "مناطق نفوذ"، او ما يعني التواجد العسكري و الاداري و السياسي، و الثقافي حتى!
هكذا فإن السردية التقليدية المشخصة لذاك الاستقطاب الثنائي، هي سردية متهالكة مازالت تستهلك لشرعنة تحركات القطبين المتصارعين ! او ادارتهما للنزاع !
إن خطة منظومة حلف "الناتو" قائمة بالدرجة الأولى على دحرجة خطوط الاشتباك الى اقرب نقطة من العدو الفعلي، أي جعله مرتبطا في جميع الحالات بعبئ ثقيل، يتمثل في دولة معادية بنظام يمكن تسميته نظام "سخرة" و عمالة، أو في حالة اخرى، قد تتولد مستقبلا نتيجة اجتياح كامل لاوكرانيا، فإن العبئ سيكون ادارة دولة تستوجب تواجد جزء مهم من الجيش الروسي بكافة فروعه و تشكيلاته ؟! بما يعني كذلك عبئا اقتصاديا و امنيا و ديموغرافيا !
إن الامر هنا يشبه ورطة المنظومة الاستراتيجية للدولة اليهودية، و التي لا تستطيع ايجاد حل لمعضلة "قطاع غزة"، سواء بالاجتياح الكامل، او الجزئي، او استمرار الوضع كما هو، و هو موضوع عقود من التفكير و التخطيط و الفعل دون نتيجة تذكر ؟!
إن هذه بالضبط هي الورطة التي يجد الروس انفسهم امامها في اوكرانيا، و هم مدركون جيدا لخبث هذه السياسة، كما أنهم لا يتوقعون مقاومة كبرى، من طرف الامريكيين و منظومة الحلف، باستثناء الجانب "المظلم" متمثلا في العقوبات الاقتصادية و منظومات المرتزقة و العمل الغير نظامي و الغير معلن، و هو تجارة امريكا التي لا تبور !
و كل هذا طبعا مواكبا بحملة اعلامية شرسة، تقودها وسائل الاعلام في مناطق النفوذ و دول الحلفاء، من اوروبا و جزء من اسيا وصولا الى الشرق الاوسط، و هنا تنتهي خطة "الناتو" العسكرية، و تبدأ المنظومة في حصد النتائج السياسية و الاقتصادية !
جدير بالذكر كذلك، ان حالة الازمة و النفق المسدود في "روسيا" ليست اسوء من نظيرتها في اوروبا و الولايات المتحدة. و إذا كان اندفاع "روسيا" جادا في اولى مراحل استفحال "الازمة الاوكرانية"، فإن التزام اوروبا و امريكا بالوقوف في وجه هذا الاندفاع ضعيف جدا، و ليس بالجدية التي ينتظرها البعض، و هو درس "حلفاء امريكا" الذي يتكرر دائما ودون فائدة، عكس درس "حلفاء الروس" و الرهان على "الروس" و الذي يظل الأقل سوءا على الأقل خلال العقد و النصف الأخير، و الحافل بتساقط الانظمة و خيبات البيادق و الحلفاء و العملاء !

الاندفاع الروسي هنا بهذا المعنى هو دفاع استباقي و اضطراري يمليه ناقوس الخطر الذي صار يدق بشكل مزعج، استراتيجيا و جيوستراتيجيا، و في اكثر من نطاق، بسبب التغول العميق و المدروس لمنظومة حلف الناتو، و هنا نتحدث بالمعيار الوجودي و الحرب الحديثة المباشرة، عن تصادم حتمي و مؤكد قد يحصل في أي لحظة و عند أي منعطف أو رجة.
إن التصعيد المؤدي الى الصدام المباشر هنا صار ضرورة حتمية، و هو بالمعايير الاستراتيجية و الجيوستراتيجية، لعبة النفس الطويل التي من مصلحة الناتو و الولايات المتحدة تأخيرها ما امكن، بينما يعلم الروس أن الوقت يلعب ضدهم.
و هنا بالذات تختبى دولة اليهود، داخل نفس الوقت و نفس اطراف الازمة و الصراع، ممسكة بعصى عارها الخاص و الابدي من الوسط، بعلاقات متينة مع امريكا، و ضبابية مع اوروبا و منظومة حلف الناتو، و اخرى مستقرة مع الروس، و تعاون و تفاهم ناشئ مع الصينيين، او الوافد الجديد على موانئ الارض المقدسة !

يمكن القول بأن روسيا و الصين اليوم على يقين و قناعة بأن الحل الوحيد للاستمرار في الوجود هو الغاء الآخر، و تحييده، أي الذهاب الى اقصى و اقسى الحلول، و هو الحل "النووي" ، و الحرب التي لا تبقي و لا تذر !
و لا غرابة هذا المنطق، اذا كان هذا هو نفسه نهج "الآخر"، او ما تسعى اليه منظومة الولايات المتحدة و دول "حلف الناتو"، في اكثر من نطاق و جبهة، بشكل متصاعد لم يعد مستترا !
و بمعنى آخر قد يتضح في القادم من الزمن، فإن "العار" القادم على روسيا و الصين لا يمكن تجنبه او غسله الا بالحسم "النووي"، و الأزمة في أوكرانيا هي بالضرورة اولى ارهاصات هذا العار القادم و المستفحل، و على روسيا و الصين ادراك هذا الأمر جيدا !

و على قول الشاعر "سميح القاسم"
...
مســـلك نــــاعــم بثــــت مصــائـره
أعـــز منـه المسـلك الـــوعــر

هــل هــزت الـريح في ضوضائها جبلا
وهــــل تصعــد حتـى ربه .. شجر ؟؟؟