الماركسية ومسألة القيمة: مُقاربة نظرية


مالك ابوعليا
2022 / 2 / 12 - 00:00     

كاتب المقالة: الماركسي السوفييتي فلاديمير فلاسوفيتش شيفيرنادزة*

ترجمة: مالك أبوعليا

ان مسألة تطوير نظرية القيمة الماركسية اللينينية، والحاجة الى تعريف علمي دقيق وصارم للموضوع المُراد بحثه، وأداوته المفاهيمية ومقولاته الفردية، وتحديد مكان هذه المقولات في منظومة المعرفة العلمية، هي أُمور تطرح نفسها فيما يتعلق بعددٍ من المسائل المُلحة التي تشغل بال العديد من الفلاسيفة الماركسيين. ليس أقل أهميةً بمكان، في هذا الصدد، حقيقة أن هذه المسائل تحتل مكانةً بارزةً في الأدب الفلسفي والسوسيولوجي البرجوازي المُعاصر. تُعالج النظريات الاكسيولوجية البرجوازية المُختلفة الموجودة الآن، والتي لا تتضمن "مفاهيم القيمة" (أنظمة نظرية) فقط، بل و"مُقاربات حول القيمة" (المسائل في منهجية البحث) كذلك، نقول، تُعالج مجموعةً كبيرةً من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية-النفسية والأخلاقية والجمالية والدينية وغيرها. يقوم الآيديولوجيين البرجوازيين بتشويه هذه المشكلات بطريقةٍ مثالية، في حين يكتسب تفسيرها نبرةً مُعاديةً للشيوعية بشكلٍ مُتزايد، ويستمرون في مُمارسة تأثير مخفي على ملايين من الناس غير المُتمرسين فلسفياً في البلدان الرأسمالية.
طَرَحَت الحاجة الى النضال ضد الايديولوجيا البرجوازية أمام الفلاسفة الماركسيين مهمة تقديم تفسير نقدي لـ"نظريات القِيَم" التي تطورت على نطاقٍ واسعٍ في الكتابات البرجوازية. تتضمن هذه المهمة البحث عن تعريف علمي صارم لمفاهيم أساسية مُعينة، والتي كان الكثير منها يُطبّق في العادة حتى الآن فقط في معناها اليومي ولم تتطلب تعريفاً صارماً(1). يتعلق هذا بمفهوم "القيمة" نفسها، وكذلك بالمصطلحات المُشتقة منها: "القيمة الايجابية" و"القيمة السلبية"، الخ. ستطرح هذه المقالة فقط مُقاربة عامة لمسألة القيمة ولحل بعض المسائل الأساسية.
إن كُلاً من طرح مسألة "القِيَم" وحقيقة أن الفلاسفة البرجوازيون يعالجونها بطريقة خاصة للغاية، لهما جذور في العلاقات الطبقية ذات الطبيعة الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية، وفي تقاليد مُعينة.
يُمكن ايجاد مفهوم "القيمة" في بواكير الفلسفة القديمة، ولكن تطور هذا المفهوم، وحتى الوقت الذي تمايزت فيه "مسألة القيمة" كجزء من الفلسفة، ثم تحولها الى "نظرية القيمة" باعتبارها مجالاً مُستقلاً "الاكسيولوجيا"، كان له تاريخ استثنائي للغاية. يُمكن للمرء أن يقول أن طرح وتطوير "نظريات القيمة" البرجوازية، والمُقاربة الاكسيولوجية لهذه المسألة في الفلسفة البرجوازية الأوروبية بدأ في النصف الأخير من القرن التاسع عشر (رودولف هيرمان لوتزه Rudolf Hermann Lotze 1817-1881، وفريدريك نيتشه 1844-1900، فيلهلم فيندلباند W. Windelband 1848-1915، ماكس فيبر 1864-1920، هينريك ريكرت 1863-1936، ماكس شيلر Max Scheler 1847-1928، نيكولاي هارتمان Nikolai Hartmann 1882-1950، وآخرين). كان أول عمل تركيبي الى حدٍ ما حول مسألة القيمة في السوسيولوجيا البرجوازية الأمريكية، على الرغم من أنه لم يكن دراسةً خاصةً في الاكسيولوجيا، هو كتاب فلوريان زنانيكي Florian Znaniecki وويليام توماس William I. Thomas (الفلاح البولندي في أوروبا وأمريكا) الذي نُشِرَ عام 1918.
في البداية، تضمّنت "مُقاربة القِيَم"، في مُعظمها، المجالات الأخلاقية والاجتماعية والدينية فقط، وتألفت من جهود لتقديم تحليل لِقَيَم مُعينة (اجتماعية، ثقافية، علمية، أخلاقية، جمالية، دينية، الخ) زُعِمَ أنها مُحددات نهائية لسلوك الانسان في المُجتمع وللتطور الاجتماعي نفسه، ووُضِعَت مقابل نظرية القوانين المادية الموضوعية للتطور الاجتماعي.
وهكذا، اعتبر توماس وزنانيكي القيمة كأي شيء له أهمية لأي مجموعة اجتماعية. قام المؤلفون باعتبار "قواعد السلوك الرسمية الواضحة الى حدٍ ما والتي تُحاول المجموعة من خلالها المُحافظة على أنواع السلوك المُلائمة بين أعضاءها وتنظيمها ونشرها"(2)، باعتبارها القيمة الأساسية. تم التأكيد مراراً وتكراراً على أن هذه القواعد أرست معايير السلوك، وهي تختلف عما كان يُسمى "المواقف" Attitudes و"الوضعيات" (التوجهات الشخصية). وبقدر تزايد الاستخدام المُكثّف لمفهوم "القيمة" في السوسيولوجيا البرجوازية الأمريكية، فقد تم "تحريره" بشكلٍ مُتزايد من أي مُحتوىً موضوعي. علّق السوسيولوجي الأمريكي ويليام كولب William kolb قائلاً: "من تعريف القِيَم ككيانات لها أهمية للذات، مع التركيز على القواعد كقِيَم مُهمة للسوسيولوجيين، حَدَثَ تغيّر تدريجي في مفهوم القِيَم بالنسبة للسوسيولوجيين، بحيث أصبَحَ وضع المعايير Norm-setting المُميّز للقواعد، معياراً للتعريف، أكثر من كونه عُنصراً يمت بصلة للموضوعية"(3).
انطلاقاً من نظرية القيمة، بدأت دراسة السلوك البشري وأفعال المجموعات الاجتماعية مثل المُجتمع والعائلة أو تعاونيات المُنتجين باعتبارها تعبيرات أو نتاجات لـ"علاقات القيمة". ما وصلت اليه هذه المُعالجة هو أنه تم منح مكانة هائلة لأي حقيقة اجتماعية أشارت اليها أكثر التمظهرات سطحيةً. لقد استُبدِلَ البحث العميق في جوهر القوانين الاجتماعية بوصف الانطباعات الذاتية المُكتسبة من ملاحظة أشكال الحياة الاجتماعية الخارجية الصرف. يبدو ان هذا الجانب بالذات من "مُقاربة القيمة" هو المسؤول بشكلٍ خاص عن الدرجة الكبيرة غير المُعتادة لقبوله من قِبَل الفلاسفة والسوسيولوجيين البرجوازيين.
مُلخصاً لنتائج مُعينة لمناقشاتٍ مُطوّلة الى حدٍ ما مُكرسة لتعريف مفهوم القيمة، طَرَحَ السوسيولوجي الأمريكي هوارد بيكر Howard Becker في عام 1957، "تعريفاً" لهذا المفهوم ربطه بشكلٍ وثيقٍ وعضوي بالاحتياجات. كتب بيكر: "قد تكون القيمة محسوسة وغير محسوسة، جذابة أو مُنفرة، خاصة Private أو اجتماعية، مشوشة أو واضحة، الخ. تكمن طبيعتها ككيان في حقيقة أنه تم تحديدها هكذا من قِبَل الكائن الحي الذي يشعر بحاجةٍ شديدةٍ لها. الجبن السويسري، المملكة السماوية، الغِنى، الفقر، الكبرياء، سيارة باهظة الثمن توفر الهيبة لصاحبها، جندي العدو، الشر، المجد والدين. كل هذه أشياء لها احتياجات مُعينة، وأيضاً قِيَم بالمعنى الذي نستخدم به هذه الكلمة"(4).
لقد حوّل الفلاسفة البرجوازيين، الذين ضخموا مسألة القيمة واستخرجوها من كل شيء، حولوها الى شيءٍ فضفاض وغير محدود. هذا هو الشكل الذي ظهرت فيه القيمة في المؤتمر الدولي الثالث عشر للفلسفة (المكسيك 1963)، حيث واصَلَ الفلاسفة البرجوازيين التحدث بشكلٍ رئيسي عن أهمية هذه المسألة والحاجة الى دراستها بعناية. لكنهم لم يهتموا بتقديم أي تعريفٍ دقيق لمفهوم "القيمة".
ومع ذلك، لا يُمكن النظر الى مسألة القِيَم على أنها مُجرّد ثمرة لخيال الايديولوجيين البرجوازيين. ان حقيقة طرحها لم تكن نتيجةً لمنطق الصراع الايديولوجي وحسب، بل لأسباب اجتماعية-اقتصادية. أصبحت تناقضات الرأسمالية، في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، مثل التناقضات بين الفرد والمُجتمع، وبين المُنتجين المُباشرين للسلع المادية وغير المادية من ناحية، وعواقب هذا الانتاج من ناحيةٍ أُخرى، حادةً للغاية لدرجة أنه لم يكن من المُمكن تصور التطور اللاحق لهذا المُجتمع دون ايجاد حل لتلك التناقضات. نشأت الحاجة العملية لإزالة المستوى المُتطرف من اغتراب العمل البشري وثماره-السلع المادية والفكرية- من المُنتج المُباشر، من الانسان نفسه، وللتغلب على التناقض شديد الخطورة بين المُجتمع والفرد، لكي يُمكن للانسان في النهاية "السيطرة على جوهره وعلى حياته ونشاطاته الانسانية الفعلية"(5).
لقد أثبَتَ الفلاسفة البرجوازيون أنهم غير قادرين على تقديم حلٍ مُناسبٍ لهذه المسائل التي تطرحها الحياة نفسها. كانت "نظريات القيمة" و"مُقاربات القيمة" في الواقع مُجرد اعدادٍ للانسانية الزائفة بلمعةٍ أكاديمية مُحترمة. أدت هذه النظريات الى تشويه المسألة الحقيقية-مسألة موقف الانسان من ثمار نشاطه، أي من تلك النتاجات الثقافية والمُكتسبات الانسانية التي حققها المُجتمع في سياق تطوره التاريخي.
تكشف المُحاكمة النشوئية-التاريخية لـ"نظرية القيمة" البرجوازية نفسها عن التطور المُميز للغاية (من حيث النطاق والمُحتوى) الذي مر به هذا المُصطلح في الفلسفة البرجوازية خلال القرن التاسع عشر. على الرغم من غياب الصرامة العلمية في طرح هذه المسألة والغموض الناتج عن التفسير، كانت أهميتها الحقيقية هي توضيح مكانة ودور الانسان في المُجتمع والكشف عن ميكانيزم وبُنية "الأفعال الاجتماعية" للفرد. في حين أن التطور اللاحق لمفهوم القيمة قد أدى الى تفسير أكثر فضفاضيةً وغالباً ما كان سكولاستيكياً، فإن عملية توسيع نطاق المفهوم كانت مصحوبةً بتضييق محتواه، أو بالاشارة اليه حيث يُشير معناه ان أردنا الدقة. أصبحت المشكلة الرئيسية-مشكلة الفرد والمُجتمع- والتي تتخلل المسائل والمناهج المتعددة والمتنوعة للبحث في الفلسفة البرجوازية، بداءً من التفسير "الانساني الحق" للعقائد الدينية الدوغمائية، الى التحليل السكولاستيكي لـ"الأحكام القِيَمية"، نقول أصبحت أكثر وضوحاً، أكثر من أي وقتٍ مضى.

***

لم يتم العثور على حل علمي حقيقي لهذه المُشكلة الا في الفلسفة الماركسية. كَشَفَت الماركسية اللينينية عن القوانين الموضوعية الأعمق للتطور الاجتماعي وأظهرت حتمية الغاء المُلكية الخاصة والتقسيم الرأسمالي للعمل. أظهر هذا امكانية تقديم حل علمي لمسألة سيطرة الانسان على جوهره وتملّكه للقِيَم المادية والفكرية التي يُنتجها، المُغتربة عن العمال في المُجتمع الرأسمالي. على عكس المُقاربة المعيارية في دراسة القوى الدافعة للتقدم الاجتماعي، والذي يتطلب في التحليل النهائي انتقاءاً تعسفياً لدوافع وحوافز تطور العضوية الاجتماعية، تشددالماركسية، قبل كل شيء، على الاشتراط الموضوعي للسلوك الانساني، وتعتبر الحياة الاجتماعية كعملية في التاريخ الطبيعي. بطبيعة الحال، يُشكّل التقييم الحقيقي للعوامل الاجتماعية المُختلفة شرطاً أساسياً لعمل الفرد الواعي. خلاف ذلك، فان تغيير وتحسين تلك العوامل سيكون مُستحيلاً. ومع ذلك، فإن كل تقييم صحيح، وكل تحديد لقيمة ظاهرة مُعطاة، يفترض مُسبقاً وجود مقياس موضوعي ما، وإلا فلن يكون هناك سوى أهمية ذاتية محدودة، وفي هذه الحالة سيتشكل هنا خطر حقيقي من إقامة "نماذج مشوهة" للعملية الاجتماعية. على الرغم من أن كل قيمة مُرتبطة بعملية التقييم، فإن ليس كُل ما يتم تقييمه هو قيمة. في هذا الصدد، يجب مُلاحظة أن تقسيم القِيَم الى "ايجابية" و"سلبية" المقبول في الاكسيولوجيا البرجوازية، لا يقوم على أي أُسس علمية. إن الاعتراف بالقِيَم "الايجابية" و"السلبية" لا يؤدي الا الى خلق ما يبدو أنه مُقاربة عيانية (ملموسة)، الا أن هذا يؤدي في الواقع الى اللاتحددية واستحالة تفسير الظاهرة المُعطاة بشكل علمي وموضوعي صارم، وعدم امكانية التحقق الموضوعي من التقييم. بما أن الحقيقة هي مقولة تاريخية، فإنه لا توجد قِيَم أبدية، أي أنه مع مرور الزمن ونتيجةً لتغيّر الظروف تتوقف ظاهرة مُعينة عن أن تكون قيمة. ومع ذلك، هذا لا يعني أن القيمة "الموجبة" تُصبح "سالبة".
بالإضافة الى ذلك، فإن الاعتراف بالقِيَم "الإيجابية" و"السلبية" يخلق امكانية التحديد الذاتي للقِيَم، وتصنيفها "حسب الذوق". يترتب على ذلك أن التقييمات الرجعية والتقدمية، البرجوازية والبروليتارية، سوف تختلف تعسفياً. جوهر الأمر أن التحزب البروليتاري يستلزم الموضوعية العلمية. لذلك، فإن تحديد القِيَم ليس شيئاً يُمكن القِيام به من انطلاقاً من "وجهات نظر" مُتنوعة. لا توجد سوى وجهة نظر علمية واحدة، هي نفس وجهة نظر التحزّب البروليتاري. وبالتالي، فإن كل ظاهرة ليست اليوم قيمة من وجهة نظر البروليتاريا (أي من وجهة النظر الموضوعية العلمية) هي ليست قيمةً على الإطلاق.
هل هذا ينفي وجود قِيَم انسانية عالمية؟ بالطبع لا. يفترض التقييم البروليتاري التحزّبي الاعتراف بالقِيَم الانسانية العامة الأساسية التي طورتها الجماهير على مدى آلاف السنين في النضال ضد الاضطهاد الاجتماعي.
إن مُحاولة تناول مسألة القِيَم الانسانية العامة بطريقة لاتاريخية تدفع بالفلاسفة البرجوازيين الى المُبالغة الواضحة في إمكانيات جعل الاكسيولوجيا كـ"جسر فكري" مزعوم بين الايديولوجيات الطبقية المُتنوعة. قام الفيلسوف البرجوازي الأمريكي هنري مارجيناو Henry Margenau بإحدى هذه المحاولات في المؤتمر الدولي الثالث عشر للفلسفة.
طَرَحَ في ورقته (التواصل الفكري لللأحكام الأخلاقية) شديدة التعقيد، فكرتين رئيسيتين: 1- العلم مُحايد فلسفياً، لذلك تُشكّل الحقائق المُعترف بها بشكلٍ عام جسراً بين الشرق والغرب. 2- ان كنا نريد أن نُنشئ "نظاماً أخلاقيا" علمياً، أي للعمل على مبادئ يُمكن من خلالها قياس قِياس قِيَم الثقافات المُختلفة والحُكم عليها، فإن هذا سيبني "جسراً ثانياً" سينضم الى قاراتنا الثقافية، مُكملاً جسر الحقائق الموجود مُسبقاً(6).
لكن هذا يتطلب، من وجهة نظر مارجيناو، الاعتراف بحيادية العلوم: "تفسير العلم هو مسألة ذوق فردي. أن تكون مُحايداً هو سمة من سمات العلم"(7). هذا يعني، فيما يتعلق بالأخلاق، أنه يجب تحديد بعض المبادئ الأخلاقية (املاءات)، والتي يجب تقييم السلوك البشري وفقاً لها. تفتقر هذه المبادئ الى أي أساس موضوعي وهي مُنتقاة بطريقة تعسفية، والذي "يُبرره" حقيقة أن "التفسير مسألة ذوق"، ويُمكن أن يتم تكييفه مع آراء المرء "المثالية أو الواقعية" و"الوضعية أو العقلانية". نحصل، بنتيجة ذلك، على ما يلي: في العلم هناك بديهيات، وفي الأخلاق هناك املاءات. في العلم يوجد نظريات، وفي الأخلاق يوجد قِيَم. في العلم يوجد استنتاجات، وفي الأخلاق يوجد التقييم. إن وجود التقييم في علم الأخلاق، في رأي مارجيناو، مشروط بأن مبادئ بناءه (المبادئ الأخلاقية) لا تمتلك أساساً موضوعياً، بل أساساً تقليدياً.
بتأكيدها على الحاجة الى فهم القانون الموضوعي للتطور الاجتماعي كعملية تاريخية طبيعية، تُعارض الماركسية التفسير المعياري لقوانين التطور الاجتماعي والتقسيم التقليدي الذي لا أساس له من الصحة لموضوع الفلسفة الى ثلاث مجالات: الواقع، الحقيقة والقيمة. لكن الماركسية لا ترفض أو تتجاهل على الاطلاق المعايير والمعيارية. على العكس من ذلك، يُمكن تحديد موقعها الصحيح ومصدرها ووظيفتها في العملية الاجتماعية على أساس المنهجية الماركسية.
القيمة هي مقولة اجتماعية تدل على الظواهر المادية والفكرية التي أنشأها واستخدمها الانسان في النضال من أجل التقدم الاجتماعي، ومن أجل حرية الشخصية الانسانية وتطورها. ان القانون الموضوعي للتقدم الاجتماعي يعمل كمعيار موضوعي للتقييم، في التحليل النهائي. لا يُمكن للقيمة أن لا ترتبط بمصالح الطبقات التقدمية والمجموعات الاجتماعية في المُجتمع. ومع ذلك، فإن هذه المصالح بالذات، بغض النظر عن شكلها الذاتي، تمتلك أساساً موضوعياً وتُعبّر عن علاقات اجتماعية موضوعية، اقتصادية قبل كل شيء. تتجلّى العلاقات الاقتصادية في كل مُجتمع في المقام الأول على شكل مصالح(8).
قد يبدو أن تحديد القِيَم "من خلال" القوانين الموضوعية للتقدم الاجتماعي هو تحديد عام الى حدٍ ما. هذا صحيح. ولكن في المقام الأول، مفهوم التقدم الاجتماعي مُحدد بما يكفي لتقديم معنىً مُحدد لمفهوم القيمة. وفي المقام الثاني، فإن تجريدية هذا التحديد للقيمة تُبرره حقيقة أنه يُمثل تعبيراً ايجابياً عن جوهر المسألة ويتضمن معيار انساني موضوعي عام.
من الضروري التمييز بين القِيَم المادية والفكرية، ولكن هذا التمييز من وجهة نظر مبدأية، مشروط، لأنه لا يتعامل مع تعريف وفِهم القِيَم ذاتها، ولكن فقط مع علاقتها بالمصالح المادية أو الفكرية للمُجتمع (الطبقة). لا تُركز الماركسية، لدن تطويرها مسألة القيم، على انشاء "نظرية عامة ما حول القِيَم"، ولكن على دراسة تلك القوانين الاجتماعية والطبيعية الموضوعية، التي يُسهّل استخدامها العملي التطور الاجتماعي والشخصي، والتحرر التاريخي للإنسان.
وغنيٌّ عن القول، أن القِيَم لا توجد خارج الانسان وبدون الانسان. لكن هذه الحقيقة لا تجعلها تفقد طبيعتها الموضوعية بأي حالٍ من الأحوال، لأن الأشياء المادية "توجد" بالنسبة للإنسان فقط بقدر ما يتم دمجها في قطار الحضارة، ويتم "أنسنتها". ومع ذلك، يبدو لنا أنه من غير الدقيق تفسير القيمة كشيء صرف استعمالي أو قيمة استعمالية. هذه الأخيرة هي خصيصة تمت بصلة فقط للسِلَع المُنتجة خصيصاُ لهذا الغرض. لذلك، فإن وضع "نظرية القِيَم الاستهلاكية" في المُقدمة، يعني أولاً وقبل كل شيء، مُقاربة حل المُشكلة من اتجاهٍ خاطئ.
هذا لا يعني أنه يجب التخلي تماماً عن تشخيص قيمة (أو المعرفة الصحيحة حول هذا الموضوع) من وجهة نظر استخدامها (المقصود نفعها). ولكن، لا يتضمن اختزال القيمة الى مدى استخدامها ونفعها فقط عدداً من الأخطاء الجوهرية والأساسية (الذاتية، التسطيحية، الخ)، ولكنه أيضاً غير مُتسق منطقياً. النقطة المُهمة هي أنه لا يُمكن للإستخدامية أن تكون معياراً، لأنها هي نفسها تتطلب معياراً لتحديدها. وبالتالي، من الضروري، وجود معيار أكثر عمومية وموضوعية لتحديد كُلٍ من الاستخدامية والقيمة معاً. لاحَظَ لينين، في انتقاده لاختزال البراغماتيين للحقيقة الى منفعتها، لاحظَ، أن المعرفة يُمكن أن تكون نافعةً للإنسان فقط ان كانت انعكاساً مُطابقاً للواقع الموضوعي.
بالرغم من أننا نفهم شرطية أي تشبيه ومحدوديته، فإننا مضطرون مع ذلك الى استخدام أحدها’، مع العلم أنه ليس أكثر من مُجرّد مقارنة. بالضبط مثلما "الحقيقة"، على سبيل المثال، هي مقولة ابستمولوجية، فإن القيمة هي مقولة اجتماعية. الحقيقة موضوعية، أي أن محتواها مُستقل عن الأفراد وعن الجنس البشري. لكنها ذاتية في الشكل ولا يُمكن أن توجد بدون الذات التي تعكسها. وبالتالي، من الخطأ مُساواة الحقيقية بالكيانات المادية الموجودة موضوعياً. القيمة كمقولة تنشأ في عملية الترابط بين الذات والموضوع، وتمتلك خصائص مُشابهة لمقولة الحقيقة. ولكن، القيمة لا تتجلى في العلاقة الابستمولوجية بين الذات والموضوع، بل في العلاقة الاجتماعية.
ان الماركسية، التي تتخذ موقفاً مُضاداً لكل التأكيدات المثالية بأن القيمة موجودةً بشكلٍ سابق للعلاقات الاجتماعية، وأنها "مُحايدة"، تكشف بالتالي، من ناحية، الديماغوجية الاجتماعية التي يلجأ اليها الايديولوجيين البرجوازيين في تفسير مسألة القِيَم، ومن ناحيةٍ أُخرى، تكشف الجهود المبذولة لاستبدال المقولات الاجتماعية العيانية بالمفهوم العام والجماعي لـ"القيمة".
لكن الماركسية لا تقصر نفسها على ذلك. يشمل البحث الإبداعي في مُشكلة القِيَم التطور العلمي لتلك الحقول الماركسية المُتخصصة، حيث يُمكن ايجاد حلول ايجابية للمسألة المطروحة بشكلٍ مُشوه في النظريات الاكسيولوجية البرجوازية.

* فلاديمير فلاسوفيتش شيفيرنادزة 1926-1990، فيلسوف سوفييتي مُتخصص في تاريخ الفكر الاجتماعي الغربي ومنطق وفلسفة السياسة. دكتور في الفلسفة، واستاذ وعضو مراسل في أكاديمية العلوم السوفييتية في قسم الفلسفة والقانون منذ عام 1984. شارك في الحرب الوطنية العُظمى. عضو في الحزب الشيوعي السوفييتي منذ عام 1945. تخرّج من كلية الفلسفة في جامعة تبليسي عام 1953، وأكمل دراساته العُليا في معهد الفلسفة التايع لأكاديمية العلوم السوفييتية. حصل على دكتوراة في الفلسفة عام 1957 حيث تقدم بأطروحته المُعنونة (المبادئ الفلسفية لنظرية المعرفة الفلسفية: مقال نقدي). عَمِلَ في معهد الفلسفة كباحث أول، ورئيساً للمعهد ونائب مدير ممن عام 1979-1989. ورأس قسم المسائل الفلسفية السياسية عام 1989-1990. كان مديراً لقسم التنمية الدولية للعلوم الاجتماعية في الأمانة العامة لليونيسكو منذ عام 1972-1978، وكان رئيس المجلس العلمي لأكاديمية العلوم السوفييتية حول مسائل الفلسفة والثقافة والاتجاهات الآيديولوجية. ومن أعماله الرئيسية: (التيارات الرئيسية في الفلسفة البرجوازية المُعاصرة) 1961، (فلسفة الوضعية الجديدة والسيمانطيق) 1961، (العداء للشيوعية سلاح المحكوم عليهم بالفشل) 1964، (الفلسفة البرجوازية المُعاصرة في الولايات المتحدة: استعراض نقدي) 1966، (ماركسيين أجانب في النضال ضد الايديولوجيا البرجوازية) 1971، (العداء للشيوعية-ايديولوجيا وسياسة الامبريالية) 1973، (المسائل القائمة في النضال ضد العداء للشيوعية) 1973، (الفكر الفلسفي والسوسيولوجي التقدمي المُعاصر في الولايات المُتحدة) 1977، (الوعي السياسي البرجوازي المُعاصر- الجانب الفلسفي) 1981، (الفلسفة الاجتماعية-السياسية البرجوازية المُعاصرة) 1984، (الفلسفة والثقافة) 1987.
ومن مقالاته: (المادية المُعاصرة- فلسفة التعاون بين الشعوب) 1955، (فلسفة الوضعية الجديدة-مسائل فلسفية) 1957، (الفكر الفلسفي في كندا) 1961، (العداء للشيوعية هي انعكاس للانحلال الشديد للايديولوجيا البرجوازية) 1962، (العداء للشيوعية هي عدو للثقافة) 1963.

كُتِبَت هذه الورقة خصيصاً لمناقشة المسائل المنهجية للعلوم الاجتماعية في مؤتمر عموم الاتحاد حول مسائل الفلسفة الماركسية.

1- أُنظر في هذا الصدد الى الأعمال المُكثفة التي قام بها الفيلسوفان السوفييتيان أوليغ غريغوريفيتش دروبنيتسكي وفاسيلي يتروفيتش توغارينوف، وأخرون.
2- W. Thomas and F. Znaniecki, The Polish Peasant in Europe and America, Boston, 1918, Vol. 1, p. 31
3- see H. Becker and A. Boskoff, Modern Sociological Theory in Continuity and Change, Russ. ed., Moscow, Foreign Literature Press, 1961, p. 115
4- ibid., p. 159
5- Marx and Engels, From the Early Writings [ Iz rannikh proizvedenii], Moscow, 1956, p. 591
6- simposium sobre informacih v comunicaciih. Mexico, 1963, p. 67
7- ibid., pp. 66-67
8- Marx and Engels, Soch., Vol. 18, p. 271

ترجمة لمقالة:
V. V. Mshvenieradze (1965) Marxism and the Problem of Values: An Approach (1), Soviet Studies in Philosophy, 4:2, 50-55