من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأُخرى (5)


مالك ابوعليا
2022 / 2 / 11 - 00:22     

الكاتب: الصحفي السوفييتي أوليغ ايفانوف

ترجمة مالك أبوعليا

الاستفزاز على الجبهة
كانت السياسة التي تبنتها القيادة الماوية لإحداث توتر في العلاقات السوفييتية-الصينية واضحة بشكلٍ خاص في مسألة الحدود المُشتركة.
كان كل شيءٍ هادئاً على الحدود التي تمتد أكثر من 7500 كيلومتراً، خلال السنوات العشر الأولى بعد قيام جمهورية الصين الشعبية. قدّم كلا الجانبين المساعدة لبعضهم البعض في مُكافحة الكوارث الطبيعية في المنطقة الحدودية، وكانت السلطات السوفييتية تُلبي دائماً مطالب الجانب الصيني في السماح للمواطنين الصينيين برعي الماشية وقطع الأخشاب وصيد الأسماك في بعض مناطق الحدود السوفييتية. تم اجراء أبحاث مُكثّفة بهدف دراسة موارد الأنهار الحدودية واستخدامها المُشترك.
لم يعد سراً أن صارت الحكومة الصينية راغبةً، منذ الستينيات، لاخراج ملف "القضية الحدودية" على الملأ. ومما له دلالة أن المُطالبات المُتعلقة بأراضي سوفييتية التي تم طرحها عام 1957 على صفحات العديد من الصحف الصينية الرسمية لم تتلقى رفضاً مثلما تستحقه سواءاً في ذلك الوقت أو لاحقاً. كان هذا واضحاً بشدة. بدأ المُمثلون الصينيون الرسميون يخوضون في هذه الادعاءات بصراحة، والتي تقدمت بها بادئ ذي بدء عناصر برجوازية في الصين أثناء مظاهراتهم المُعادية للاشتراكية عام 1957(3).
تُظهر الحقائق أنه منذ أوائل الستينيات صدرت تعليمات للمواطنين وحرس الحدود للسيطرة على المناطق الحدودية السوفييتية وجُزُرها على نهري آمور Amur وأوسورUssuri. بدأوا، بناءاً على أوامر مُباشرة من سلطات بكين، بإثارة حوادث حدودية وتوجيه تهديدات مُسلحة ضد المواطنين السوفييت والقيام بهجمات وهمية على نقاط حدودية ومحاولات لاختطاف حرس الحدود السوفييت. كان الهدف من كل هذه الاستفزازات هو خلق توترات حدودية وبالتالي استثارة المشاعر الشوفينية بين السكان الصينيين وإثارة الكراهية للشعب السوفييتي. كَشَفَت الآحداث اللاحقة مثل الاستفزاز الصيني المُسلّح في جزيرة دامانسكي Damansky وفي منطقة جالانشكول Zhalanshkol في آسيا الوسطى عام 1969، كشفت بالكامل عن مخططات الماويين. كان الماويون يستخدمون الاستفزازات الحدودية ضد الاتحاد السوفييتي والدول المُجاورة الأُخرى كوسيلة لزيادة المواجهة السياسية.
كان الهدف المُباشر من ذلك هو تأسيس عقيدة مُعاداة للسوفييت طويلة الأمد يتبناها الحزب والدولة، وقد تحقق هذا في مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني التاسع والعاشر والحادي عشر وخلال اعتماد دساتير الجمهورية لعامي 1975 و 1978. كانت الأهداف غير المُباشرة والبعيدة هي زرع الشكوك الوقائعية، إن لم يكن التشريعية حتى، بشأن الوضع الحدودي السوفييتي-الصيني القائم، من أجل تعزيز اطروحة ماو تسي تونغ الاحتيالية التي تزعُم "...مصادرة الروس لـ 1.500.000 كيلومتر مربع من الأراضي الصينية" (مُقابلة ماو مع اختصاصيين يابانيين عام 1964).
استمر عدد الاستفزازات الصينية في الازدياد: من 400 استفزاز عام 1960 الى أكثر من 5000 استفزاز عام 1962. وقام الصينيون عام 1963 بأكثر من 4000 هجمة استفزازية على الأراضي السوفييتية في ضواحي أنهار آرغون Argun وآمور Amur وأوسوري Ussuri لوحدها. وقد عَمِلَ المتدخلون بناءاً على تعليمات مكتوبة من بكين والتي تجاوز عددها الاجمالي الى 100 الف.
تجدر الاشارة الى أن القادة الصينيين حتى أوائل الستينيات لم يُشككوا في حالة الوضع الحدودي القائم. هكذا أجاب تشو انلاي على سؤال طُرِحَ عليه في مؤتمر صحفي عُقِدَ في كاتماندو Katmandu في 4 نيسان عام 1960 حول ما ان كانت هناك أقسام من الحدود الصينية-السوفييتية لم يتم رسمها بوضوح: "هناك تناقض بسيط يُمكن تسويته بالوسائل السلمية".
أظهرت الحكومة السوفييتية، مُسترشدةً بمبادئ الأُممية وحُسن الجوار، تسامحاً استثنائياً في مواجهة استفزازات السلطات الصينية التي لا تُعد ولا تُحصى. أظهر الاتحاد السوفييتي، منذ الأحداث الأولى التي تعود الى بداية الستينات، استعداده لإجراء مشاورات ودية مع الجانب الصيني من أجل ترسيم حدود دولتهم وتطبيع الوضع. تم تضمين هذا الاقتراح في مُذكرة وزارة الخارجية السوفييتية في 29 تشرين الثاني عام 1960 والتي لم تُقدّم الحكومة الصينية أي رد عليها. فقط في 19 نيسان عام 1963 وافقت وزارة الخارجية الصينية على المقترحات السوفييتية العديدة لإجراء المشاورات. تم عقدها عام 1964 وفشلت فعلياً في تحقيق أي نتائج. والذنب في ذلك يقع على عاتق الصين.
غالباً ما تُشير بكين الى أن حكومة روسيا القيصرية قد فَرَضَت معاهدات غير متكافئة مع الصين. ومع ذلك، فمن المعروف أن الحكومة السوفييتية قد ألغت جميع المعاهدات غير المتكافئة التي فرضتها القيصرية على البُلدان الأُخرى، إما بشكلٍ مُنفصل أو بالإشتراك مع قوىً امبريالية أُخرى. تخلت روسيا السوفييتية عن مناطق نفوذ روسيا القيصرية في الصين، وألغت حق الحصانة والقنصلية، وسلمت جزء من التعويضات المُستحقة على روسيا لاحتياجات التعليم في الصين، وألغت الامتيازات وأعادت الى الصين حقها في طريق السكك الحديدية الصينية الشرقية، ووضعت حداً لجميع عناصر اللامساواة في العلاقات بين البلدين. لم يُلاحظ صن ياتشينغ Sun Yatxieng هذا وحسب، بل لاحظها ماو تسي تونغ وقادة صينيون آخرون كذلك. يجب التأكيد على أنه لم يكن هناك أي حديث في أيٍ من أعمال لينين ولا في أي وثائق أُخرى للحزب الشيوعي والحكومة السوفييتيتان عن مُراجعة المعاهدات أو الاتفاقيات الحدودية.
ان سياسة رفض الحدود المرسومة بين البلدين تاريخياً وتلفيق "قضية اقليمية" هو اختلاق محفوف بخطرٍ كبير. قال لينين في أيامه "دعوا البرجوازية الصغيرة تقوم بمشاجراتها القذرة وتجارتها عبر الحدود، فلن يتشاجر العمال من جميع البلدان والجنسيات حول هذا النوع من الأشياء"(4).
من المناسب أن نتذكر هنا ما قاله تشو انلاي للصحفي الأمريكي إدغار سنو Edgar Snow في تشرين الأول عام 1960. قال انه إن كان الجميع سيصفّون حساباتهم بالعودة الى مثل هذه الأزمنة التاريخية البعيدة، فسيغرق العالم في الفوضى. سيتعيّن على الولايات المتحدة أن تعود تحت الحكم البريطاني، باعتبار أن البلاد قد حصلت على استقلالها قبل أقل من قرنين من الزمان.
تؤكد الصين باستمرار على حقيقة أنها نجحت في تسوية مشاكلها الحدودية مع جميع جيرانها تقريباً: بورما ونيبال وأفغانستان وباكستان ومنغوليا. ولكن لا يُمكن انكار أن الماويين لم يتوقفوا عن التحريض على الاستفزازات الحدودية ضد العديد من الدول المُجاورة واستمروا بالمُناداة بمُطالبات اقليمية ضدهم. لا يسع المرء، عند تحليل موقف الماويين بشأن المسائل الحدودية، الا أن يُلاحظ أنها تنبع من المُطالبات الشوفينية للقوميين الصينيين مع طموحاتهم في استعادة "العصر الذهبي" الصيني عندما كانت امبراطورية أخضعت العديد من المناطق المُجاورة. بالمناسبة، ان اتبّع المرء منطق بكين الخطير المتجذر في هذه الطموحات، فلن يكون هناك بديل سوى إعادة رسم خريطة آسيا. السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي الفترة التاريخية التي يجب أن تُستخدم كـ"مُرشد للعمل". أهو الزمن الذي احتلت فيه الصين أرضاً صغيرةً نسبياً، ام في زمن الصين الاقطاعية التي امتد نفوذها الى المناطق والشعوب المجاورة؟ هناك شيء واحد واضح، وهو أن الماويين يسعون، من خلال مُطالباتهم الحدودية، وراء اهدافٍ افتراسية بعيدة المدى حيث تتشابك مُعاداة السوفييت مع طموحات قبائل الهان الهيمنية الصينية القديمة.
أصبَحَ الاتجاه الى خلق توترات على الحدود السوفييتية-الصينية وابتكار ذرائع للمواجهة مع الاتحاد السوفييتي واضحاً من خلال عملية النزوح الجماعي من منطقة شينغيانغ Xinjiang المُتمتعة بالحكم الذاتي. عَبَرَ أكثر من 90 ألف شخص من سكان هذه المنطقة وخاصةً الكازاخ والايغور الى الأراضي السوفييتية. وفسّر النازحون ذلك من خلال عدم قدرتهم على تحمل المزيد من التمييز والقمع القومي الذي كانوا يتعرضون له في بلادهم.
عندما تدفّق اللاجئين المُجوّعين ومُمزقي الملابس، ومن بينهم العديد من النساء والأطفال وكبار السن فجأةً عبر الحدود، واجه الجانب السوفييتي مُشكلة مُعقدة للغاية. تم عمل كل شيء لتقديم المساعدات الطارئة لهؤلاء الناس. طَلَبت الحكومة السوفييتية على الفور من الحكومة الصينية اتخاذ اجراءات عاجلة ضد الانتهاكات الجماعية للحدود، وطالبت بارسال مُمثلين صينيين الى هذه المناطق بهدف القيام بعمل توضيحي بالاشتراك مع ممثلين عن الاتحاد السوفييتي بهدف تحقيق عودة سريعة للاجئين الى وطنهم.
كان يجب على المسألة ان تكون واضحةً بدرجةٍ كافية. كانت هناك انتهاكات جماعية للحدود السوفييتية. اقترحت الحكومة السوفييتية، وفقاً لمعايير حُسن الجوار، تسوية الأمور على أُسس ودّية. كيف كان رد فعل الحكومة الصينية؟ لقد رَفَضَت رفضاً قاطعاً الأُسلوب المُقترح للتشاور والتسوية الانسانية للمسألة. ودون اتخاذ أي اجراءات لوقف النزوح الجماعي لسكان شينغيانغ الى الأراضي السوفييتية، والذي استمر لأكثر من شهر، طالبت الحكومة الصينية "بإعادة اللاجئين بالقوة". أثار هذا بطبيعة الحال السؤال التالي: لماذا لم تقم السلطات الصينية، التي كانت بالتأكيد تعرف أن عشرات الآلاف من سكان شينغيانغ كانوا مستعدين للفرار من بلادهم، لم تفشل فقط في منعهم من القيام بذلك وحسب، بل وحتى استفزتهم وحثتهم على اتخاذ مثل هذه الخطوة، كما أكد شهود عيان؟ ووفقاً لأدلة التي قدمها اللاجئون، فإن سلطات الحدود الصينية التي كانت شاهدة على العملية بأكملها، لم تفعل شيئاً لوقفهم وحسب، بل قدمت لهم كل مساعدة في عبورهم. في كولجا Kuldja وتشوغوتشاك Chuguchak (شينغيانغ)، أخبرت السلطات الصينية المواطنين الذين يتقدمون للحصول على إذنٍ بالمغادرة الى الاتحاد السوفييتي بأنهم "لا يحتاجون الى تأشيرات"، مما يعني أنهم يُمكنهم العبور على الحدود ببساطة. قامت المؤسسات الصينية ببيع تذاكر السفر بالسيارات الى النقاط الحدودية بالمجّان وساعدت اللاجئين على حمل أمتعتهم الثقيلة في مركبات البريد. كانت هناك من 10 الى 20 شاحنة تُغادر يومياً مُحملةً بـ40-50 شخص في كل شاحنة تُغادر كولجا متوجهةً الى المناطق الحدودية. ألقى اللاجئون أمتعتهم على بُعد كيلومترات قليلة من الحدود حيث بدأوا سيرهم اليها تحت "الأعين" الصينية الأبوية.
من الواضح تماماً أن الجانب الصيني قد سعى عمداً لحدوث هذه الانتهاكات الجماعية للحدود ونظّم كل "حَدَث" في متناول اليد لمُفاقمة العلاقات السوفييتية الصينية، وبالتالي تنفيذ خطة ماو سيئة السُمعة لتخريب صرح الصداقة السوفييتية-الصينية العظيم التي أقامها الشعب الصيني والشيوعيين، ومن أجل إرساء أُسس سياسة القوة العُظمى الموالية للإمبريالية على أنقاضه، وهي الخطة التي رعاها ماو منذ الخمسينيات.
كانت الذرائع المُتنوعة التي استخدمها الماويون لمُفاقمة العلاقات السوفييتية الصينية موجهة في كل مرة الى المُهمة العملية الحالية القائمة. وهكذا استغلت السُلطات الصينية حادثة اللاجئين لتطهير الجزء الأكبر من اقليم شينغيانغ، الذي كان من المُفتَرَض تحويله الى ساحة اختبار للأسلحة الذرية، من شهودٍ غير مرغوب فيهم من سكانها الذين لا ينتمون الى قبائل الهان. وهو عمل استفزازي شريرٌ بطبيعته وفي طريقة تنفيذه.
من المُثير القول أن الحكومة الصينية كانت قد بدأت بوصف الهجرة الجماعية لسكان شينغيانغ رسمياً بأنه "حدث صدفي"، ولكنها بعد ذلك بدأت باتهام الاتحاد السوفييتي بإرتكاب "أنشطة تخريبية في المناطق الحدودية للصين" و"تحريض عشرات آلاف من المواطنين الصينيين للفرار الى الاتحاد السوفييتي" وهلم جرا.
فَشِلَت قيادة الحزب الشيوعي الصيني في خداع شعوبها أو شعوب الدول الأُخرى، وتحميل المسؤولية عن أخطاء سياستها الداخلية الى أطرافٍ أُخرى، وهي أخطاء دَفَعَت آلاف من الناس، وبشكلٍ رئيسي من الأقليات القومية، الى الفرار من الصين. فرّ آلاف من المواطنين الصينيين من البلاد، ليس فقط الى الإتحاد السوفييتي ولكن الى البلدان المُجاورة الأُخرى أيضاً منذ عام 1960-1962. هل يتحمل الاتحاد السوفييتي مسؤولية ذلك أيضاً؟ ماذا عن آلاف الصينيين الذين فرّوا وما زالوا يفرون الى هونغ كونغ وماكاو Macau؟ هل استدرجهم مُمثلوا الاتحاد السوفييتي الى هناك؟
أجرت هيئات الدولة السوفييتية أعمالاً توضيحية متواصلة بين اللاجئين من شينغيانغ، وهي تبذل جُهودها لإقناعهم بالعودة الى الصين، وبنتائج جيدة: وافق أكثر من 500 شخص على العودة الى الصين في صيف عام 1963. كان من المُمكن أن يكون قرارهم قدوةً حسنةً لغيرهم من اللاجئين، لكن السلطات الصينية رفضت عودتهم. بالإضافة الى ذلك، رفضت الحكومة الصينية بإصرار لمدة عامين جميع المُقترحات السوفييتية لإجراء المُشاورات اللازمة، ورفضت المُشاركة في أي اجتماعات مع اللاجئين. رفضت وزارة الخارجية الصينية رفضاً قاطعاً، رداً على مُقترح سوفييتي في 19 حُزيران عام 1964، قبول عودة اللاجئين الذين وافقوا على العودة الى الصين، وطالبت بالعودة "غير المشروطة" لجميع المواطنين الصينيين البالغ عددهم 60 ألف شخص والذين عبروا الحدود في ربيع عام 1962. أصرت الحكومة الصينية أن تقوم الحكومة السوفييتية بـ"مُمارسة القوة" على عشرات آلاف الأشخاص واعادتهم الى الصين "بقوة السلاح"، مُدركةً جيداً أن الشعب السوفييتي لن يوافق أبداً على مثل هذا العمل الإجرامي. رفضت وزارة الخارجية الصينية المُقترح السوفييتي بإرسال مُمثلين للقيام بعمل توضيحي بين اللاجئين، قائلةً أن الحكومة الصينية "لن توافق أبداً على ذلك". من الواضح هنا أيضاً أن الماويين كانوا يريدون خلق طريقٍ مُغلق من أجل غرضٍ سياسيٍ مُحدد.

4- Speech At The First All-Russia Congress Of The Navy
November 22 (December 5), 1917
https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1917/nov/22.htm

ترجمة من كُتيّب:
Who is to blame? How differences arose between china s Maoist leaders and the USSR and other Socialist Countries- Oleg Ivanov
Novosti Press Agency publishing House 1981