-تفكيك الاشتراكيّة العربيّة-


نايف سلوم
2022 / 2 / 10 - 23:35     

هذا عرض "التمهيد" لكتاب علي القادري" “تفكيك الاشتراكية العربية" الذي تستهل بدايته القول: يمكن تصور ثقل البنية التاريخية القائمة من زاوية فلّاح معدم في بيت طيني تكلفته لا تتجاوز حفنة من الدولارات، تسقط عليه من السماء قنبلة ذكية أميركية تكلف الملايين. وبالرغم من عدم عقلانية الحالة لأول وهلة، فإن التاريخ له عقل وعقلاني.
كلما ضعفت الناحية الاستعمالية امام الناحية التبادلية ضعفت قوة العمل أمام صاحب العمل فيتقمص التاريخ دور السلعة المستلبة، وللسلع التي تساوت بالتاريخ عقل كامن في قانون تطورها ألا وهو التوسع باي ثمن.
السلعة-التاريخ ليس لها أخلاق ولا جماليات لأنها نفي للإنسان كما الصهيونية التي لا يمكن أن تؤنسن.
يقف العالم اليوم وفي غياب أيديولوجيا بديلة اشتراكية وكأنه عبد للسلعة، فبيئياً يتطلب انتاج السلع استهلاك الطبيعة بأبخس الأثمان، واجتماعياً يتطلب انتاج السلع إعادة إنتاج الانسان بأبخس الأجور. في عملية الإنتاج الرأسمالية نجد أنفسنا أمام عملية انتاج تستهلك الانسان وبيئته على حد سواء في دورة انحدارية من دون قرار. ولأول مرة في التاريخ يكون الانسان مسلوخاً عن تقرير مصيره. والبنية الإيديولوجية التي تزن أطناناً على اكتاف البشر كُيفت لتسويغ تطور السلعة. هذا الإرث الفكري المتحول لتسويغ تطور السلعة ذاتياً يتخذ أشكالاً مختلفة، فهو يستقي من التراث والدين تارة ومن العلوم تارة أخرى في عملية شاملة لتسليع البشر والإنتاج المعرفي. كان لا بد لعملية إنتاج السلعة أن تنتج الانسان المسطح الذي يستهلك نفسه بالاستهلاك. هذه الحركة الهدرية الانحدارية مع استثناءآت إن بالحروب او التقشف أو الجوع يزيد أضعافاً على نسبة الثراء المنتج منذ خمسة قرون في ظل حكم العلاقة الرأسمالية. وكلما سلبت القيمة وتحولت إلى نقد تكونن العالم وتجانس وزادت بذلك عملية الافراط والتفريط وهذا الافراط بالتحديد هو السمة الرئيسية للتاريخ الرأسمالي
وبما أن النوع الاجتماعي الحاكم هو رأس المال المالي تصبح دورة القيمة هذه دورة هدرية بأولوية تاريخية. إن هذا بالذات الفارق بين ماركسية غربية (اشتراكية ماركسية) وبين اشتراكية البلدان المتخلفة أو الاشتراكية العربية العقائدية التي ترفع الشعار الاشتراكي وهي تعبد المال وتعبد العلاقة الرأسمالية، في حين يقول لسان الاشتراكية الماركسية: لم تكن ولا يمكن ان تكون الرأسمالية كحقبة تاريخية تقدمية، ليس فقط بسبب مجازر الإبادة منذ القرن السادس عشر إنما بسبب ما بعد الحدث، الا وهو الأزمة الوجودية التي نعيشها اليوم. وقد علق ماركس على قصر فترة الثورات البورجوازية بالقول: أن الثورة البرجوازية، كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر، تندفع كالعاصفة من نجاح إلى نجاح، وآثارها الدرامية تفوق بعضها بعضًا، ويبدو فيها الأشخاص والأشياء في إطار باهر وهاج، ويكون كل يوم مشبعًا بالحماسة والنشوة. بيد أن عمر هذه الثورات قصير، فسرعان ما تدرك هذه الثورات نقطة الأوج وتخيم على المجتمع وخمة السكر الطويلة الممضّة قبل أن يستطع أن يهضم بتعقل واتزان نتائج فترة الضغط والاندفاع العاصف تلك"(الثامن عشر من برومير) لم تعطِ البورجوازية ثورات 1848 في البر الأوربي خاصة فرنسا سمتها الديمقراطية، بمقدار ما اكتسبت هذه الثورات سمتها هذه بفعل النضالات السياسية للبروليتاريا الوليدة والتي عبّرت عن نفسها سياسياً عبر هذه الثورات؛ أي دشنت هذه الثورات التحركات الديمقراطية للبروليتاريا في البر الأوربي لأول مرة.
بما أننا انتجنا هدراً بيئياً وإنسانياً وسُمّاً سمّم بيئة الانسان، فإننا أعدنا إنتاج الانسان بالهدر. وهذا قبيح وغير أخلاقي ومميت. ففي حالة التسليع القصوى يصبح الهدر مرادفاً للقيمة لأنه يستجيب لفرط الاستهلاك. نحن لا ننتج قيماً لرفاه البشر نحن نهدر حياتهم ونفسد بيئتهم الطبيعية والاجتماعية بحجة ذلك. هكذا تغدو الطبقة الرأسمالية الحاكمة مُهْدرة وتغدو الطبقة العاملة مهدورة.
أشد أبعاد التراكم بالهدر وأصفاها هو التراكم بالعسكرة، الحالة التراكمية التي تجسد بالحرب والحرب منتوجها القتل على نطاق صناعي، وهي الهدر الصافي. يكتب ج.م البرتيني في كتابه "لفهم الاقتصاد العالمي": "إن أهمية النفقات العسكرية قد أثرت في جميع البلاد الرأسمالية الصناعية، عدا اليابان، لكن اليابان استفادت فيما بعد كثيراً جداً من حروب كوريا وفيتنام. وغدت النفقات العسكرية حافزاً هائلاً للنمو الصناعي. فمن عام 1954-1969 أي من نهاية حرب كوريا إلى حرب الهند الصينية الثانية أنفقت الولايات المتحدة 450 مليار دولار لغايات حربية. ثم عرفت الولايات المتحدة اقتصاد حرب حقيقياً، إن حمولة القنابل التي ألقيت على فيتنام معادلة لزنة القنابل التي ألقيت على الألمان بين 1939-1945. وكان أكثر من 10% من العمال يعملون بلا انقطاع مباشرة أو بصورة غير مباشرة من أجل الدفاع الوطني. واشترت الدولة الأميركية 93% من انتاج الطائرات والصواريخ التي تنتجها الشركات الأميركية و 60% من انتاج السفن الحربية و38% من انتاج الراديو والإذاعة و 21% من الإنتاج الكهربائي " أما بوخارين فيقول في كتابه الهام "الإمبريالية والاقتصاد العالمي" الذي كتبه قبيل الحرب العالمية الأولى وقبيل اندلاع الثورة الروسية 1917: "ففي عصرنا الراهن ومع بلوغ الصراعات الاقتصادية درجة غير اعتيادية من التوتر فإننا نشهد عربدة تسلح مجنون لم يسبق لها مثيل .. وهكذا يتضمن قانون رأس المال المالي، كلاً من الإمبريالية والعسكرة، وبهذا المعنى فإن العسكرة لا تقل عن رأس المال المالي في كونها ظاهرة نموذجية تاريخية" (الامبريالية والاقتصاد العالمي)
يقول القادري: لا قيمة استعمالية للموت إلا إذا كانت هناك شريحة اجتماعية تستهلك الموت! شريحة الكوكاكولا وشريحة الحرب كلاهما يهدد وينتج سُمّاً، لكن في التراتب ضمن الكلية الرأسمالية تبقى الأولوية لشريحة الحرب والعسكرة. الهدر والعسكرة مرتبطان بالدائرة الأولى والأخيرة من دوائر إعادة الإنتاج الاجتماعي الرأسمالي. هناك دائرة إنتاج وسائل الإنتاج والماكينات ودائرة إنتاج السلع الاستهلاكية، لكنهما مرتبطتان بالدائرة الرئيسية ما قبل الأولى وما بعد الثانية، وهما إنتاج الإنسان المنسلخ عن مصيره المستهلك لذاته. وبما أن الاستهلاك بالهدر يمثل تحقق جوهر القيمة فالعسكرة كالهدر الصافي تمثل الممارسة المفضلة لقانون القيمة الرأسمالي، فعندما تتحول القوى المنتجة إلى سلع ويجري تسليع الناس يعلو معدل الربح بأكبر قدر من جراء استهلاك الناس الأحياء كقوة عمل في معامل السلاح، حيث الحرب بمكننتها العالية باستغلالها الانسان الحي لكي تميت يكون الانسان فيها مدخلاً ومخرجاً ويموت إما من هدر طاقته وقوته في ورشات تصنيع السلاح أو يموت في أرض المعركة بقصف أمريكي. هكذا يتماثل العمل الحي والميت بأنهما كلاهما هدر للإنسان وطاقاته. الشعوب العربية مطلوبة كمدخل ومخرج بحيواتها في عملية تراكم هدريه، وهي باستهلاك حيواتها تدعم مستوى الأرباح الدولي والريع الإمبريالي.
الشعوب العربية بكل بساطة مدخل بحيواتها في عملية الإنتاج الكوني المترابطة عضوياً. وكلما ابتعدت الشعوب عن خيار حرب الشعب، الخيار الوحيد للبقاء، هلكت في هذه الدورة الهدرية التي تهلك البنية المادية والمباني والمعامل والبشر بما في ذلك ارثهم الحضاري، وحتى طبقاتهم الكومبرادورية التي سهلت أصلاً عملية التبديد. بتعبير مجازي الإمبريالية تحفز ربحيتها باستهلاك الحجر والبشر. العنف عملية انتاج ملاصقة للإمبريالية في زمن الاحتكار وراس المال المالي. من دون إعادة صياغة البنية المادية المنتجة والاجتماعية بما في ذلك المرونة على التكيف في وجه الهجمة لن يكون للأمة العربية وجود والمعادلة الأساسية هنا هي الأيدولوجيا التي تتحكم بأنماط التفكير فالاشتراكيات القومية العقائدية العربية استبطنت الفكر الإمبريالي الرأسمالي قبل ان تتفكك.
إن جبروت راس المال مبني على انقسامات الشعوب، الرد يكون بإعلاء الاصطفاف الطبقي الذي يولد العنف الثوري. لكن ليس كل عنف اجتماعي ثورياً، فأسباب الثورات كثيرة وتسم كل البنى الاجتماعية المفقرة منها والثرية. معظم الثورات مرتبط أولياً بأزمة الطبقة الحاكمة أكثر من استعدادات الطبقة المحكومة. الثورة الاجتماعية تغيير في موازين الصراع الطبقي يعكس اتجاه البنية ويعيد توجيه التنظيم الاقتصادي للمجتمع. هذه الحركة يتوجب أن تقودها الأيديولوجيا البديلة التي كما هو شائع تترنح في ازمة لم تعرفها الإنسانية منذ القرن التاسع عشر. لا تنجح الثورات الاجتماعية في غياب الإيديولوجيا البديلة، إذا ما أخذنا في الحسبان قدرة الأيديولوجية السائدة المستبطنة لرأس المال على تحريك فئات من الشعب من أجل انقاذ سلطة راس المال بثورات ملونة أو قدرة رأس المال على تحريك الشارع بشكل مضاد لمصالح الشعب كما حدث في الانقلاب على مصدق في إيران منتصف الخمسينات من القرن الماضي. إن بإمكاننا أن نضع الأمور في الربيع العربي ضمن سياقها التاريخي، أي الحركات المستبطنة لسلطة رأس المال ومقياس هذا الانتكاس هو التهلهل البنيوي الناتج عن فقدان الطبقة العاملة حقها في الناتج الاجتماعي وفقدان أمنها وفقدان قدراتها في حرب الشعب والسيادة التي تتلخص في عملية استبعاد جماعي للشعوب من خلال سلب إرادتها وتدمير دولها. وبما أن الحرب والهدر عملية مترابطة في ذاتها مع عملية الاستبعاد الجماعي تصبح حركة التاريخ ذات معدل عنف عال، مع أزمة وجودية انتحارية.
يقول القادري عن كتابه: هذا الكتاب يتعلق بعلم الاقتصاد السياسي المتبع للمنهج البنيوي. عندما اذكر حقبة ذلك الرئيس العربي أو ذاك، نحن نتكلم عن حقبة لا عن شخص، الشخص ممكن أن يكون جيداً ويريد الخير لشعبه، لكن دراسة الشخص تخص علم النفس، نحن نريد أن نقيّم البنى المؤسسية والإيديولوجية التي رسخت أو لم ترسخ قدرات حرب الشعب
الإمبريالية لا تخلد إلى الثبات في الوقت الذي يتطور فيه العالم المتخلِّف.
ونقول: لو كان جلجامش حياً لقال يا ليتنا بقينا على قبض ريح فالإمبريالية الرأسمالية لوثت حتى الريح.
مراجع
1-علي القادري: تفكيك الاشتراكية العربية، ترجمة فكتور سحاب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت كانون الثاني 2020
2-كارل ماركس: الثامن عشر من برومير لويس بونابرت، دار التقدم موسكو
3-ج.م. ألبيرتيني-آ. سيليم: لفهم الاقتصاد العالمي، ترجمة مصطفى عدنان السيوطي، مراجعة عيسى عصفور، منشورات وزارة الثقافة دمشق 1986
4-نيكولاي بوخارين: الامبريالية والاقتصاد العالمي، ترجمة رجاء أحمد، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي نيقوسيا-تشيكوسلوفاكيا، الطبعة الأولى 1990