ألعاب اللغة-5-، ما بين الشعري والتدوالي.


محمد فرحات
2022 / 2 / 6 - 08:30     

"٥"
وفي فصل "الشعري والتداولي" تتحول لغة د"الجزار" إلى ما يشبه الشعر. أو هي شعرٌ حقيقةً.
تعلن ذاته انحيازه الكلي لل"شعري" بكل ما تحمله الكلمة بجذورها اللغوية ومشتقاتها ومنحوتاتها بجنوح نحو التمرد ضد أي إطار مؤسساتي، وعشق بلا تخوم لكل ممارسة حرة، تتحول لفلسفة حياة كاملة لدى د"الجزار".
يقول"إن ذاتا حرة بحاجة إلى لغة حرة كذلك، و"الشعري" هو الإمكان الوحيد لالتقائهما."
يتغزل" فهنا"الشعري" وحسب. وحتى الرموز اللغوية-لغة كلامنا- ليست هي هي، ولا وظائفها هي هي، وكأنها لم تستخدم من قبل. إننا، هنا، إزاء البداية في كامل تحققها بهية مدهشة محيرة موغلة في الغرابة…"
مندهشا بسر قد باح له بكنهه، بعدما حط برحاله دهورا منعزلة على بابه الذي لم يحتضن بمصرعيه سواه " بين كلمة وأخرى، غواية رغبة أكثر منها علاقة نحو. وبينها وبين ثالثة أخرى نفرة ريبة أكثر منها شرط معجم. ومن جدلية الرغبة والريبة، تصطفى جسدانية "الشعري"، من جسدانيتها، حواسها لتنفتح على تاريخانية ملامستها(مقاربتها) مكتظة بكل الاحتمالات، فمن أرادها معنى، وحسب، كانت كما أراد ثم احتجبت بمراده منها. ومن رآها خطابا جسدا أو جسدا خطابا، كشفت له عن حقيقة مفاتنها وسِرَّانية شهواتها، فَعَلِق بها منتقلا من الإحساس الواعي بلذته إلى الضياع في متعته…"
يفصح د."الجزار" عن شغفه وتوقه وهيامه وافتتانه محققا وعده الذي قطعه على نفسه بتحطيم كل القيود التي أرادت تكبيله كعالم لغويات مقتدر، لتنعته الدوريات النقدية ب"رولان بارت" العرب، ليزهد في كل ذلك، ويعرب عن ذاته كشاعر، ليس بمعنى الكلمة المحدد مؤسساتيا بقافية ووزن، وإنما شاعر جديد، بأدوات وحيدة من نوعها.
والبداية أن "الشعري" يأنف بخصائصه أن يُؤَطرَ ضمن أي نماذج تواصلية بنيوية، ليُحكم عليه باستحالة إحراز أي نجاح تواصلي كان.
فيُدهش "الشعري" الجميع بكونه قد حقق نجاحا تواصليا مذهلا، لتفشل النماذج المعرفية التواصلية كنموذج "جاكبسون" سبر غوره تحليلا بمقاربة معلبة جاهزة من قبل "المؤسسة" الرسمية. فكانت أقصى طموحات تلك المقاربات توظيفا بسيطا ساذجا.
الإشكالية تكمن بتلك التناقضية الواضحة، فهناك تواصل شعري فائق البراعة، ولا وجود لمعرفة تواصلية حقيقية بذات الوقت.
يعجز التواصل المعرفي عن مقاربة التواصل "الشعري"، ليعلن النموذج "الجاكوبسوني" البنيوي عجزه، ليقر الجميع، بمن فيهم، المؤسساتيون بأن الشعري رسالة لاتشبه أي رسالة أخرى.
ليظل المنهج حائرا بين سؤالي "كيف" و"لماذا"، وكأي ظاهرة علمية قنع علماء الطبيعة بإجابة السؤال "كيف" بعدما فشل فلاسفة الميتافيزيقا دهورا بإجابة سؤال"لماذا" اكتفى علماء الطبيعة،مثلا، بوصف كيفية نبضات القلب، ولكن ما هي القوة المعجزة التي تدفع القلب لهذا الفعل الا إرادي الجبار فهذا أمر عجزوا الكشف عن علله.
كذلك "الشعري" فلنقنع بوصف كيفية تأثيره، ولكن العلة الكامنة وراء هذا التأثير فتعجز كل المقاربات المعرفية المنمذجة وغير المنمذجة عن إسدال أستاره.
و"الدهشة" مففتح كيفية تأثير"الشعري"، "تلك الدهشة التي "تمنع الرموز من أن تذوب في إحالة ما، أو تتلاشى في معنى ما…"
فتواصل"الشعري" مع الذات المبدعة أو المتلقية تحيل إلى ذات "الشعري"، ولا تعني غير ذاتها، يفرض ذلك حضورا من نوع خاص، والحضور بالضرورة يفرض وجودا، وهذا الوجود لا يسفر عن كيفية تأثيره إلا بانخراط كل من المبدع والمتلقي انخراطا حرا (لعبا حرا) قصدية وتأويلا، لتسفر التجربة الشعرية عن وجودها فتولد المتعة لا للمتلقي وحسب، وأيضا للمبدع وكأن ما أبدعه غريبا عنه، يقرأه ويتفاعل معه كأنه يقرأ لغيره، يقرأه على مسامع من لا يأبه توجهاتهم أو "مللهم"، وترى المتلقي بعد لا يمل قراءة و ترديد النص "الشعري" وربما كانت، بل حتما كانت تباينية تجربة كل متلق، لنص شعري واحد.
الدهشة أولا، ثم اللذة ثانيا، ثم التواصل ثالثا، عبر لعب حر مع النص الشعري هو وصف لكيفية تواصلية الشعري.
"ليس ثمة خارج للشعري؛ لا سياق ولا مقام و لا زمان أو مكان" تلك العوامل غير اللغوية والتي يختص بها التداولي دون التواصلي، ومن ثم ف"الشعري" هو الحالة النادرة والجلية ليتميز بها التداولي عن التواصلي.
ومع ذلك "فأي حديث عن تداولية شعرية هو جمع بين متناقضين يمحو ماهية الطرفين معا. وإذن، فلن تبقى التداولية تداولية، ولن يظل الشعري على شعريته…".
هل كان مقصود "نيتشه" في هجائيته البليغة لتشكل وعي"القطيع" أن يظهر انحيازه للشعري دون المعرفي التواصلي الواعي؟
فالتواصل عند "نيتشه" ضرورة اجتماعية، وما يظهر في الوعي الفردي يُعَبَّر عنه لغويا، وبالتالي يتلازم عند "نيتشه" تلازم الوعي واللغة القطيعيين نسبة للقطيع. بخلاف "الشعري" الامعرفي، الاواعي، الفردي البعيد تماما عن سلوك القطيع.
بعد "الدهشة" و "اللذة" يكون "النزق" الشعري فيخرج بذلك عن كل التواطئات الاجتماعية، بخلاف التواصل أحد تجليات الضرورة الاجتماعية في المقام الأول. ربما كانت استحالة التحليل التواصلي المعرفي ناشئة في الأصل من اختلاف انتماءات التواصلي الاجتماعية، والشعري الفردية الذاتية.
"يستشكل المظهر(الوجود) اللغوي للشعري على تصورنا للشعرية بوصفها نزقا، ولكن متى طابق وجود الشئ ماهيته!!...في الشعري، لا تغادر اللغة أدتيتها لكنها أداتية من نوع خاص جدا…".
ليبق عجز بلورة فهم معرفي تواصلي للشعري، في ظل تناقض ما بين الشعري والتداولي بالرغم من توفر كل ما يعني التدوالي بالشعري هو العنوان الأبرز للدرس النقدي الأكاديمي.
فمراوغة "الشعري" أنتج أيضا مفردات مراوغة لتناوله كالدهشة، واللذة، والنزق، السِرَّانية.
فيخرج الناظر لظاهرة "الشعرية" كالظامئ بين طيات سراب غير منفك أو زائل.
لايخرج إلا بروعة التأثر، واكتمال نشوة هزة المتعة ولا شئ خلاف ذلك.
#ألعاب_اللغة_د_محمد_فكري_الجزار