ألعاب اللغة-4- نقد جاكبسون.


محمد فرحات
2022 / 1 / 31 - 18:04     

"٤"
إذا كان الاجتماع ضرورة وجودية للبشر، فكان التواصل هو لازمة لهذه الضرورة.
بل إن الاجتماع والتواصل على حد عبارة د.الجزار"قانون كوني ينظم كل كائنات هذا الكون، وكل اجتماع يقوم على تواصل ما يفرضه. وبالتالي، فكل ما في هذا الكون محكوم بالتواصل عرفنا كيف يكون أو جهلنا."
والتباين التواصلي بين الإنسان وغيره يكمن فقط في الكيفية الموغلة في التعقيد، ويتطور هذا التعقيد(أنظمته ورموزه ووسائطه) بدينامية يفرضها تعقد الإنسان ذاته، بفعل"هذا الجزء من الجسد:الدماغ Brain والذي لايكتفي بإدارة الجسد بل يتجاوز هذا إلى إدارة سلوكياتنا بما في ذلك سلوكنا التفكري، سواء في العالم أو فيما ورائه."
"التفكر" يحيل الإنسان إلى كائن مركزي يدور حوله الكون، في مخيلته التي تفرضها ذاته المفكرة بالطبع، وهل يشعر بنا الكون في الأساس، كما نشعر به؟!، إلى حد جعل ديكارت يثبت وجود العالم، بوجود ذاته المفكرة، كخطوة مُؤَسِّسَةٍ نحو إثبات وجود العالم، بل وجود الله. (الكوجيتو الديكارتي Cogito).
يقول د."الجزار" إن التفكير هو الصورة الأولى لتخارج الذات تجاه عالمها تفكر في ذاتها من خلاله، وتفكر فيه من خلالها…".
وإذا كان التواصل غريزة، فإنه يتحول واقعا بتواصل الذات مع الآخر، والتواصل مع الآخر ليس لغويا فحسب، فكل مفردة بنسيج الحياة الاجتماعيه يحمل رسالة تواصلية ما. "من...إلى: الزي-الأثاث-الأطعمة-الألوان-الروائح-الحركة-الإشارة-...".
فيمكن، على ذلك، وصف المجتمع بأنه شبكة تواصلية معقدة، "تشمل كل محتويات ما اصطلح عليه ب"الثقافة"، ولها ملامح نوعية مستمدة من خصوصية هذا المجتمع.".
ويعد التواصل اللغوي، محمولا على هذه الأنواع التواصلية أو بعضها، نوعا من أنواع متعددة داخل تلك الشبكة التواصلية الموسعة، محمولا عليه، أي التواصل اللغوي، التواصل الشعري، ليتميز الشعري عن اللغوي في غاياته ووسائله، وأيضا درجة تعقيده، ولأن كل نوع تواصلي مَحْمُولٌ على نوع آخر، فإن هذا المحمول سيكون، بالضرورة، أكثر تعقيدا من حامله.
وعلى الرغم من اختلاف د."الجزار" مع "جاكبسون" "فهيكله التواصلي صالح للبناء عليه في مقاربة أي نوع من أنواع التواصل، وليس اللغوي فقط، فضلا عن الشعري، فحسب." ومع تأكيد د"الجزار" على أنه لاتغيير في العوامل الستة بنموذج جاكبسون، غير أنه سيميز بين العوامل البنيوية والشروط الوظيفية فيما بينها.
فالعوامل البنيوية هي المرسل والمرسلة والمرسل إليه، والشروط الوظيفية هي السنن(الشيفرة) والسياق وقناة الاتصال.
يؤكد د."الجزار" على أن تسوية "جاكبسون" بين العوامل الستة، وجعلها على قدم المساوة والمصيرية لإتمام عملية التواصل، نوعا من التبسيط والسذاجة، وأكثر تبسيطا وسذاجة أن جعل لكل عامل وظيفة تراسلية مستقلة به، "ولم تفلح فرضية الوظيفة المهيمنة في إنقاذ نموذجه ووظائفه من بساطتهما وسذاجتهما" على الرغم من إدراك "جاكبسون" كناتج بديهي لرؤيته أنه حصر بذلك أنواع المراسلات اللغوية في ستة أنواع فقط، "يحدِد كل نوع الوظيفة المهيمنة فيه على الخمس الباقية.".
بيد أن العملية التواصلية في مجملها العام تعتمد فقط على العوامل البنيوية(المرسل، المرسلة، المرسل إليه) بدونها أو بدون أحدها تسقط عملية التواصل تلك من جذرها، في حين إمكانية نجاح عملية التواصل بفقد أحد الشروط الوظيفية(السنن، السياق، قناة الاتصال).
لم يلتفت "جاكبسون"، ربما لكونه لسانيا، إلا للغة (المرسلة) كعنصر مهيمن بعملية الاتصال، ليفند د."الجزار" تلك الأطروحة بأن "المرسلة" ناتجة في الأصل على قصدية "المرسل" التي جعلتها على ما هي عليه، وفي ذات الوقت فإن"المرسلة" مزودة بقابلية ذاتية فيها لتأويل "المرسل إليه"، ف "المرسلة" إذن ليست عاملا قائما بذاته، مهيمنا في خصائصه، كما حدد "جاكبسون"، وهي في النهاية مرتهنة بقصدية "المرسل" و تأويل "المرسل إليه".
ويوضح د."الجزار" بأن "مرسلا" أرسل رسالة عبارة عن ورقة بيضاء فتسلمها "المرسل إليه" فإن فهم "المرسل إليه" لدلالة الورقة البيضاء تحددها قصدية "المرسل" والذي يعرفها "المرسل إليه" مسبقا، وعلى قاعدة تلك المعرفة المشتركة سيأولها إلى "الامبالاة من قبل "المرسل" أو الاستهزاء، أو إعلان لانقطاع علاقة ما، أو غفران لذنب ارتكبه المرسل إليه في حق المرسل، أو أن المرسل يضرب موعدا للمرسل إليه بشروق الشمس...".
" إن المرسل يحدد نوع الرسالة قبل أن ينجزها، والمرسل إليه يتلقى نوعها قبل أن يؤولها.".
واعتمادا على معرفة "المرسل إليه"، فالمعرفة وإن كانت شرطا عند "سيرل" للترميز، إلا أن "سيرل"، كما سيأتي قد قصر تلك المعرفة على "المرسل" دون "المرسل إليه"، ولكن ما أظنه أن المعرفة لابد أن تكون متبادلة بين المرسل والمرسل إليه.
نلحظ في مثال رسالة الورقة البيضاء، الخالية من أي كلمة يمكن تصنيف انتمائها إلى أي من عوامل "جاكبسون"، أنها تقدم نموذجا جديدا مغايرا لنموذج"جاكبسون"، "فلدينا طرفا تواصل، وأيضا هناك قناة اتصال تمثل رسالة افتراضية بلا سنن، وأيضا فهو سياق افتراضي كذلك، وفي ظل العناصر المُحِيلة إليه فهو بلا وظيفة، لذا يمكن أن نصنفه بالنفسي: السياق النفسي…"
إن خطأ "جاكبسون" كما حدده د."الجزار"
" أنه نظر إلى التواصل اللغوي منقطعا على أساسه الاجتماعي العام والموسع الحامل له، فحين يُقلص نوع من أنواع التواصل الفعلي من عدد عوامله أو شروطه، وغالبا ما يحدث هذا لغاية، يكون قد اتكأ على هذا التواصل الاجتماعي العام، والموسع في ملء الفراغات، وتعويض ما فرضته خصوصيته من غيابات وتغييرات، ويفتح إمكانية التأويل...لنضع هذه القاعدة أولا: إن التواصل لا يُدرس في تحققه الفعلي في ذاته، بل إن فهم ما قبل التواصل الفعلي حيث قصدياته ضرورة لفهمه، وخصوصا في الحالات التواصلية المماثلة للرسالة الخالية من أية محتوى رمزي.".
إذن فالتواصل الرمزي معتمدا في الأساس على القصدية، والقصدية كما حددها "سيرل" مُشَكَلَةً من عناصر ثلاثة أولها: معرفة عامة جامعة، أو خاصة تفصيلية بالمرسل إليه أو إليهم، ثانيها: معرفة بموضوع الرسالة، ثالثها: وجهة نظر للموضوع الذي سيُشفر رمزيا داخل الرسالة.
ويعرف "سيرل" القصدية Intentionality " بأنها صفة للحالات العقلية والحوادث التي يتم بها التوجه إلى موضوعات العالم الخارجي وأحواله أو الإشارة إليها"
ويسوِّر"سيرل" هذا التعميم بوجوب أن تشمل القصدية كل تلك الحالات؛ فأي قيام لأي فعل عند "سيرل" هو في ذاته صورة من صور القصدية، والقصدية،بالبداهة، دوما فردية ذاتية.
إن توفر المعرفة، عند "سيرل" بالمرسل إليه/إليهم سواء كانت مجملة عامة أو مفصلة خاصة توفر سياقا نفسيا، هذا السياق النفسي يُغْنِي عن كثير من العوامل، أما العامل الثاني (معرفة موضوع الرسالة) والثالث (توفر وجهة النظر للموضوع الذي الذي سيُشفر رمزيا داخل الرسالة)، فيشتاركا، أي العامل الثاني والثالث، في تشفير الرسالة"بأي طريقة كان هذا التشفير إلى حد يكون معه غياب السنن نوعا من السنن الذي يبرره هذان العنصران."
وعليه، يُجمِل د."الجزار"، أولا: مكونات بنية التواصل عند"جاكبسون" ليست لازمة في كل تواصل، فالأهم لدى د."الجزار" أن تكون العوامل القائمة فعليا في التواصل متماسكة بنيويا، فالتماسك البنيوي هو المسؤول عن نجاح عملية التواصل، وليس عدد العوامل الداخلة فيه، أو نوعها سواء كانت بنيوية أو شرطية.
ثانيا: كل غياب لعامل أو لشرط يمكن تعويضه وظيفيا في أي تواصل لغوي فعلي، وينجح الاتصال برغم غيابه.
ثالثا: "توافر القصدية بعناصرها الثلاث، غطاء لبعض ما لايتم تعويض غيابه"
وكل ما حلله د"الجزار" كان تأكيدا على أن "الشعري" ما هو في ذاته إلا تجسيدا لغياب أحد العوامل التواصلية بنوعيها، والتي حددتها نظريات "المؤسسة"، ف"الشعرية" تمرد حر على كل النماذج المتبناة مؤسسيا، وما "الشعري" إلا بَوتقةٌ تلتقي بها الذات الحرة مع اللغة الحرة، وتهدِيدٌ لكل محاولات نمذجة التواصل اللغوي" المؤسساتية.
#ألعاب_اللغة_د_محمد_فكري_الجزار