يظل للكتاب الورقي سحره وحميميته


شكيب كاظم
2022 / 1 / 30 - 11:19     

وما دمنا في حضرة الكتابة والكتاب فلا مشاحة من أن أرصع حديثي هذا، بالمقولة التي ظلت تدوي في ضمير الزمن، والتي أطلقها المتنبي الخالد( وخير جليس في الزمان كتاب) وعلى الرغم من تطور الحياة المتسارع، وتحول العالم إلى قرية كونية على حد وصف عالم الاتصالات الكندي ماكلوهان، ودخول النت في حياتنا والكتاب الإلكتروني، لكن يظل للورق سحره، فعلى الكتاب الورقي تستطيع تدوين ملاحظاتك، فضلا عن حميمية الورق وشعورك بالقرب منه، لذا فإن المراهنة على ضمور زمن الكتاب الورقي، قد تكون مراهنة خاسرة، كما راهنوا على خفوت تأثير المذياع بعد اكتشاف التلفاز، أو تراجع عوالم السينما مع ظهور الأجهزة الحديثة، فيظل لكل لون سحره وحميميته.
أكثر الباحثين والأدباء يقتنون الكثير الكثير من الكتب، واعجب من الأعداد الهائلة التي تحتويها مكتبات بعضهم، وكأنها نوع من الغواية والمباهاة، مثلما دأب العديد من الروائيين على كتابة روايات تعاني بدانة وترهلا، ظانين أن كثرة الورق دليل موهبة، وما دروا أن رواية (الشيخ والبحر) التي حاز الروائي الأميركي إرنست همنكوي عنها جائزة نوبل للآداب سنة ١٩٥٤،لا تزيد على المئة صفحة إلا قليلاً، فضلا عن أن رواية (الراية الإنكليزية) للروائي المجري (إمره كرتيس) التي فازت بجائزة نوبل للأدب سنة ٢٠٠٢ وعدد صفحاتها تسع وسبعون صفحة، ولن أذكر رواية (صمت البحر) لأديب المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الهتلري؛ (جيان مارسيل برولير) الذي كان يكتب باسمه المستعار ( فيركور) وتقع في اثنتين وستين صفحة، وأتساءل مع ذاتي، هل بمكنة الإنسان مهما أوتي من وقت وصحة وتفرغ، هل بمكنته أن يقرأ كل هذه الكتب؟!
حتى إذا انطوى العمر، رأيت الحسرة بادية على الوجوه، أن لم يستطع قراءة جل، ولا أقول كل هذه الكتب التي اقتناها، لذا أؤكد ضرورة الدقة في اختيار الكتاب المقروء والاستغلال الأمثل للوقت، وها هو المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، يطلقها حسرات مدويات أن لم يستطع قراءة كل ما رغب في قراءته، والأمر ينسحب على روائينا السامق المتألق عبد الخالق الركابي، الذي يلوم نفسه، متطلعا إلى عديد الكتب ولا سيما الروايات، التي لم يقرأها بعد، واقفا عند رأي الأستاذ عباس محمود العقاد، أن ليس ثمة كتاب لا يستفيد منه، حتى الكتاب التافه، ليعرف من خلاله كيف يكتب الكتاب التافهون؟!
لا مرية قد تستهوينا الكتب واقتناؤها ومطالعتها، ولكن يجب التوفيق بين الإقتناء وبين إنجاز القراءة، ولطالما كبحت جماح نفسي عن الإقتناء وكثرته، لأني أرى ضرورة أن يُقرأ الكتاب المُقتنى، لا أن يظل يرنو إلي متسائلا معاتبا متى يحين دوره في القراءة؟! وهذا مما يؤلمني حقا، لذا أنا سميت الكتب التي تقرأ حال اقتنائها بـ(الكتب المحظوظة) في حين يظل كتاب آخر أو كتب أُخَر تعاتبك لأنك ما فككت أسرها، وتركتها قابعة على رف المكتبة.
لذا فإن المفكر والباحث السوري الرصين الدكتور هاشم صالح يعقد في كتابه المهم (العرب بين الأنوار والظلمات. محطات وإضاءات) الذي أصدرت دار المدى للطباعة والنشر، طبعته الأولى سنة ٢٠٢١، يعقد فصلا مهما مبصّرا القراء بضرورة قراءة كتب بعينها، قبل فوات الأوان وانصرام أعوام العمر البشري القليلة- مع يقيني الراسخ بصعوبة النص إن لم أقل تعذر النص على كتب بعينها، بسبب العدد الهائل للكتب- يؤكد الأستاذ هاشم صالح ضرورة قراءة رواية ( دون كيخوتة) لسرفانتس، وثانيا كتاب ( ألف ليلة وليلة) وثالثا ( رسالة الغفران) لعبقري العباقرة أبي العلاء المعري، وكتاب ( البخلاء) للجاحظ المعتزلي رابعاً، وخامسا ( اعترافات جان جاك روسو) الأمر الذي دفعني إلى قراءة الجزء الأول من هذه الاعترافات التي أصدرتها مطبوعات ( كتابي) سنة ١٩٥٧ التي كان يشرف على إصدارها ( حلمي مراد) وهي من خزانة كتب المرحوم أبي.
تجربتي مع طبع الكتب مؤسفة، فلقد واجهت التدليس والمرواغة وعدم الدقة، لدى دور النشر الأهلية سواء داخل العراق أم خارجه، وإذ نشرت لي دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد كتابين الأول سنة ٢٠٠٦ والثاني سنة ٢٠٠٧، فقد ظلا حبيسي مخازن الدار تعلوهما الأتربة عدا مشاركات في معارض الكتب، بسبب إلغاء الدائرة التي كانت تتولى توزيع المطبوعات، إثر اشتداد وطأة الحرب الثمانينية، وتوجه الدولة إلى عملية الترشيق الإداري سنة١٩٨٦ ،لكني أشيد بجهد الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ومشروعه الرائد في طبع كتب أعضائه، حيث كنت المس التصرف الحضاري والصادق في النشر.
وبهذه المناسبة أود الإشارة إلى مقولة جافية نابية مفادها: إن مصر تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ. وهي مقولة حمّالة أوجه، لكني أراها تصور العراقيين قوما منفعلين لا فاعلين، غافين غير منتجين، ينتظرون ما يكتب الآخرون لهم، فلندحض هذا القول ولنحوله إلى: العراقيون يكتبون، والعراقيون يطبعون، والعراقيون يقرأون.
حاشية
الكلمة التي قرأتها في ندوة الاحتفاء بالكتب ومعارضها والمكتبات، التي أقامها بيت المدى للثقافة والفنون، في مقره بشارع المتنبي من رصافة بغداد، ضحى يوم الجمعة ٢٨ من ربيع الآخر ١٤٤٣ه‍ الموافق ٣ من كانون الأول ٢٠٢١وادارها الباحث رفعة عبد الرزاق محمد، وتحدث فيها تِباعا، الدكتور عقيل مهدي، وحسن عريبي الخالدي، وشكيب كاظم، والدكتور ماهر الخليلي، وحسين الجاف، وفاضل ثامر، وزين الدين النقشبندي.