تطوّر مصر الاقتصادي وأهداف الحركة النّقابيّة المصريّة (معرّب⃰ )


إبراهيم العثماني
2022 / 1 / 25 - 02:13     

مصر بلد زراعي. وثلاثة أرباع من سكانه يشتغلون بالفلاحة. وفي سنة 1922-1923 تمثّل مساهمة الفلاحة 147.727.000 ليرة نصيب الزّراعات الفلاحيّة (1) منها 108 مليون 208.000 من بين مقدار جملي يساوي 130 مليون ليرة مصرية هو دخل مصر الوطني. وهذه الخصيصة هي الّتي وسمت الاقتصاد الوطني المصري بالضّعف. ومصر، وهي لا تمتلك صناعة متطوّرة، ومستقلّة شكليّا، هي فعلا تابعة اقتصاديّا وسيّاسيّا للإمبراطورية البريطانيّة.
الامبرياليّة الانجليزية معنيّة ببقاء مصر بلدا فلاحيّا ضعيفا. وقد حوّلت انجلترا، بإجراءات مصطنعة، مصر إلى بلد لا يُنتج إلاّ فلاحة وحيدة تموّل صناعة النّسيج بالقطن. وفي سنة 1925 استهلكت بريطانيا العظمى %43 من مجمل القطن المصري وفي سنة 1926 %45 منه. وكان الاستهلاك الفرنسي في حدود %13,8 في سنة 1925 وفي حدود %13,5 في سنة 1926، واستهلاك إيطاليا %6,4في سنة 1925 و%6 في سنة 1926.
يمكن أن نقيّم نتائج هذا النّظام بكونها منذ أن تطوّرت زراعة القطن زادت مصرفي توريد عديد الزّراعات: في سنة 1897 1.793.949 ليرة مصريّة، وفي سنة 1925 8 ملايين983.140 ليرة.وهذا الأمر مفهوم لأنّ مزروعات القطن توسّعت على حساب زراعات أخرى. ونموّ المساحة المستغلّة في زراعة القطن تُحتسب هكذا: 1895-1896: 977.933 فدّان (الفدّان يساوي تقريبا1/3هكتار)، وفي سنة 97- 1898 1.128.824فدّان. ودفع الرأسمال الانجليزي في اتجاه تطوّر مزروعات القطن لأنّ ذلك الدّفع يستجيب لمصالح صناعة النّسيج الانجليزية، وبفضل تطوّر قنوات الريّ ازداد هذا النّموّ دون توقّف: وفي سنة 1901-1902 ارتفعت المساحة المخصّصة للقطن إلى 1.275.577 فدّان عوضا عن 1.153.306. سنة 1899 -1900، وفي سنة 1913- 1914 أصبحت مزارع القطن 1.755.270 فدّان، وفي سنة 1925 1.924.382 فدّان. وتجلّت النتيجة السيئة لوضع كهذا بالخصوص في سنوات الأزمة (انخفاض على القطن) بما أنّ الصّادرات المصريّة مرتكزة أساسا على القطن ( أكثر من 93 %)، وعلى سبيل المثال فإنّ الانهيار الفجئي لسعر القطن الّذي سبّبه ، السّنة الماضية ، محصول أمريكا الهائل الّذي يقدّر ب 16 مليون فرنك أحدث أزمة رهيبة في مصر. فسعر كيلوغرام القطن انخفض سنة 1926 إلى25 قرشا (القرش يساوي تقريبا فرنكا واحدا) في حين بيع، في سنة 1924، ب76 قرشا قبل أن يُقطف.
إلاّ أنّ محاصيل القطن انخفضت خلال السّنوات الثّلاثين الأخيرة. ففي سنة 1895-96 كان كلّ فدّان ينتج 5,8 سنتار (السنتار الواحد يساوي 112 ليرة انجليزية) و 4,13فقط سنة 1924- 1925. وحسب تقديرات جريدة الأهرام بتاريخ 13 سبتمبر1926 فإنّ الخسائر المترتّبة على هذا النّقص للسّنوات الثّمانية والعشرين الأخيرة تقدّر ب 410.053.210 ليرة مصريّة أي معدّل سنوي ب 14.644.708

ندرة فلاحيّة وبؤس اقتصــادي

منذ قبل الحرب (وبالخصوص في السّنوات الأخيرة)، وبسبب أزمة القطن، اُضطرّ المجتمع المصري إلى التّفكير في تطهير الاقتصاد الوطني بشكل عاجل، وفي تطوير سلسلة من الزّراعات الجديدة، وبالخصوص تصنيع الاقتصاد الوطني المصري.
[هناك] سلسلة من الأحداث الاجتماعيّة والاقتصادية تُملي على مصر خطّة جديدة في مجال الاقتصاد الوطني. وهذه الأحداث تشير من الآن فصاعدا إلى أنّ هناك تناقضا بين ازدهار قوى إنتاج البلد والمرحلة الحالية للهيمنة الامبرياليّة الّتي تُجهد نفسها لإبقاء مصر في حالة بلد شبه مستعمر. لنحلّل هده الأحداث عن قرب.
مصر الحاليّة لها مساحة تُقدّر تقريبا بمليون كيلومتر مربّع، وأكثر من %96 من هذه الأرض تمثّل صحراء قاحلة وليس هناك إلاّ3,6 صالحة للزّراعة. إنّهما حوض ودلتا النّيل اللّذان يغطّيان إجمالا 3.400.000 هكتار، مساحة ليست مزروعة كلّها.
إن اعتبرنا الأرض الّتي تغذّي حقيقة 14 مليون فرد (بصفة إجماليّة) سنرى أنّ كثافة السكّان المصريّين ليست 14,1 بالكيلومتر المربّع الواحد (كما تزعم المنشورات المتداولة) بل 417 كما يشير إلى ذلك دي شربنتياي في مصر الحديثة. وحسب معطيات التّعداد السّنوي لمصر لسنة 1923- 24 يوجد في حوض النّيل 360 ساكنا بالكيلومتر المربّع الواحد و%99 من مجمل السكّان المصريّين يعيشون في حوض النّيل، والدّلتا ومحافظة الفيوم ومنطقة قنال السويس.
وإن أخذنا بعين الاعتبار نموّ السكّان مفرط السّرعة وتطوّر نظام العلاقات الزّراعيّة فإنّنا نرى أنّ أزمة الكثافة السكّانيّة قد بدأت منذ زمن طويل، بسبب غياب صناعة متطوّرة. وهذه أرقام تثبت نموّ عدد السكّان خلال الأربعين سنة الأخيرة:
السنة.......................................................عدد السكان
1882....................................................... 6.831.131
1907....................................................... 10.176.000
1917....................................................... 12.751.000
1927....................................................... 14.168.000
وفي نفس المدّة الزّمنيّة تقلص معدّل وحدة الملكيّة العقّاريّة تقلّصا ملحوظا. ففي سنة 1922 (2) كانت تساوي 5,03 فدّان للفرد الواحد وفي سنة 1925 أصبحت تساوي3,43 وفي سنة 1926 صارت 2,17.
وفي آن واحد نلاحظ تركّزا قويّا للملكيّة الزّراعيّة بين أيدي كبار الملاّكين ومسارا مستمرّا لتفقير الفلاّحين.
وتضاعف المعدّل بالنسبة إلى مجموعة أكبر الملاّكين العقّاريّين (50 فدّانا وأكثر) (3) وحتّى زاد عشرة أضعاف في عديد المناطق خلال الفترة الّتي حلّلناها. فعلى سبيل المثال في محافظة أسوان، وفي مصر العليا كان المعدّل فيما مضى 77,9 فدّان، وكان 639,2 سنة 1924، لكنّ عدد الملاّكين من هذه الشّريحة لم يزدد إلاّ مرّتين. وفي محافظة المنوفية كانت مجموعة الملاّكين لأكثر من 100 فدّان في سنة 1924 تضمّ 16 عضوا يملكون جملة 2412 فدّان أي بمعدّل 150,7 فدّان. وفي سنة 1924 كذلك ليس هناك إلاّ 11 مالك يمتلكون أكثر من 200 فدّان (في الجملة 135 فدّان أي بمعدّل 466,8). وفي محافظة قنا، وفي سنة 1924 يوجد 8 ملاّكين يملكون أكثر من 200 فدّان (المجموع 10.620 فدّان ، بمعدّل 1327,5 ). وأخيرا في محافظة أسوان وفي نفس التّاريخ لا يوجد إلاّ 4 ملاّكين يمتلكون أكثر من 200 فدّان (المجموع32.937 فدّان بمعدّل 8.243,2 إنّ معطيات سنة1926 تبيّن أنّ من بين 5.590.506 فدّان يوجد تحت تصرّف2.059.152 ملاّك، 2.200.621 فدّان يحوزها 12.910 ملاّك ممّا يعني معدّل 170 فدّان لكلّ واحد منهم. وبعبارة أخرى فإنّ ال%0,6 من السكّان هم المتحكّمون في %39,3 من مجمل الأرض الّتي يمتلكها الملاّكون الخواص، و%66,8 من العدد الجملي للملاّكين أي أنّ أغلبيّتهم لا تتحكّم إلاّ في 9,7 من الأرض. لكن ومنذ عشر سنوات خلت في سنة 1916 لم يكن أعضاء هذه المجموعة الأكثر فقرا (من ثلث فدّان إلى نصفه) إلاّ 973.460، وفي سنة 1926 هم مليون 376.342 لكنّ الأرض الّتي يتصرّفون فيها لم تزدد مساحتها:442,308 فدّان سنة1916، و540,543 سنة 1926.
نرى إذن، من ناحية، جمهرة من الفلاّحين البؤساء المالكين لقطع أرض صغيرة، ومن ناحية أخرى، مجموعة قليلة العدد من الملاّكين المتحوّزين على أراض شاسعة.
وهكذا فإنّ العاملين:1) الامبريالية الانجليزيّة والطّابع الأحادي للاقتصاد المصري، 2)نموّ البؤس وإفقار الفلاّحين يدفعان مصر إلى إعادة تنظيم الاقتصاد الوطني بشكل جذري وإلى التّخلّص من نير الامبرياليّة الّتي تعترض على إعادة التّنظيم هذه.

هل تستــطيع مصـر أن تُصــبح بلــدا صنــاعيّا؟

إنّ جماهير سكّان مصر معنيّة إلى أبعد حدّ بتصنيع مصر. لكن ما لاحظناه هو أنّ الامبرياليّة الانجليزيّة تعترض على ذلك وتتشبّث بالمحافظة على "نظام الامتيازات الأجنبيّة" الّذي يتمتّع به الأجانب.
ومن جهة أخرى فإنّ خصوم استقلال مصر يحاولون أن يخفوا أطماع الأجانب الأنانيّة بتعلاّت اقتصاديّة مؤكّدين أنّ مصر لا تستطيع أن تصبح بلدا صناعيّا، فلها الكثير من المواد الأوّليّة لكن تنقصها المحروقات. لكنّ هذه الاعتبارات مغلوطة للسّبب الآتي: أوّلا في مصر موارد مائيّة شاسعة ومحطّات الرّيّ عديدة يمكن استعمالها لصناعة محطّات هيدروكهربائيّة ضخْمة، وبدءا من الآن بعض المحاولات أُنجزت في هذا الاتّجاه.
ومن الطّبيعي أن تحتلّ صناعة النّسيج المرتبة الأولى في الصّناعة المصريّة بما أنّ هذا البلد له وفرة عجيبة من مواد النّسيج الأولية. لكنّ الاقتصاديّين المصريّين ينبّهون على أنّ هناك إمكانيّة كذلك لتطوير صناعات أخرى من قبيل المواد الكيميائيّة، والورق، والبلّور...إلخ.
أرادت البورجوازيّة المصريّة الليبرالية أن تُنعش الصّناعة الوطنيّة وذلك بتأسيس "بنك مصر" المكوّن حصريّا من أموال وطنيّة. وهذا البنك، مركز الصّناعة الجديدة، مدعوّ إلى لعب دور كبير في حياة مصر الاقتصاديّة الجديدة .
وكذلك هناك رابطة لحماية الصّناعة المصريّة الّتي بدأت تضطلع بدور مهمّ. وهذه الجمعيّة يرأسها ويصا واصف باي أحد قادة الحركة الوطنيّة. وتضمّ ممثّلي صناعات مصريّة مختلفة تمتلك في المجموع رأسمالا قدره 40 مليون ليرة مصريّة وتشغّل المؤسّسات حوالي 200.000عامل أي يصل عددهم مع عائلاتهم تقريبا مليون فرد. وفي المذكّرة الّتي سلّمتها الرّابطة، في جوان 1927، إلى لجنة التّجارة والصّناعة لدى وزارة الماليّة، لاحظت ضرورة إعفاء الصّناعات الجديدة من الضّرائب والأداءات المختلفة واقترحت سلسلة من الإجراءات لضمان منح قروض للمؤسّسات الجديدة. وطلبت من الدّولة أن تساهم مباشرة في الشّركات المحدثة حديثا وتلحّ على الشراء الإجباري للجزء الأكبر من أسهم سلسلة من الشّركات الأجنبيّة. وأهمّ مطالب هذه الرّابطة هي:
1) على الدّولة أن تتّخذ كلّ الإجراءات المفيدة لتأمين وضع متميّز للصّناعة الأهليّة.
2) إدخال إصلاحات جمركية وحماية الصّناعة الوطنيّة من المنافسة الأجنبيّة
3) تطوير وسائل الاتّصال وتكييف سكك الحديد للحاجات الجديدة للاقتصاد الوطني (نقل المواد الأولية، إلخ ).

دور الطّـــبقة العامــلة

تكتسب المسألة العمّاليّة أهمّيّة كبرى في علاقة بالنّزعات الجديدة لحياة مصر الاقتصاديّة. ويهمّنا إذن أن نقيّم قدر المستطاع أهميّة الطّبقة العاملة في مجمل سكّان مصر.
إنّ نتائج الإحصاء الوطني لسنة 1927 الّتي يجب أن تتضمّن المعطيات الّتي تعنينا لم تُنشر جميعها إلى حدّ الآن ممّا يجعلنا نقتصر على استغلال الأرقام الّتي وفّرها الإحصائيّان السّابقان (1907 و1917).
وممّا لاشكّ فيه أنّ هذه المعطيات لن تكون مقبولة إلاّ بشيء من الاحتراز.
جدول رقم 1 (4)
توزيع السّكّان حسب المهن-------------------------------- حسب السّنوات
.................................................................... 1907................... 1917
فلاحة، صيد، سمك......................................... 2.440.030............ 4.044.458
خبا يا الأرض............................................... 4.112.................... 2.193
صناعة...................................................... 376.341................. 489.695
نقل.......................................................... 101.136.................. 150.633
تجارة..................................................... 161.210................... 280.562
أشغال عامة.............................................. 57.134.................... 46.231
موظّفون عموميّون..................................... 28.915.................... 43.361
مهن حرة.............................................. 166.061................... 142.971
أصحاب دخل.......................................... 112.623....................136.327
عمل منزلي........................................2.358.506 ....................2.578.744
أشخاص لم يعلنوا مهنهم........................150.325......................... 2.378.289
مهن غيرمنتجة ومجهولة..................... 3.601.637......................2.676.100
تقسيم العمل حسب مختلف الفروع:
المهن.................................................المجموع
الفلاحة
عمّال، عملة الضّيعة.......................... 832.785
الصناعة
نسيج............................................ 83.238
معادن........................................... 30.111
خزف........................................... 9.653
تغذيّة........................................... 40.659
لباس ومواد زينة............................. 76.409
بناء............................................. 94.925
نقل
نقل بحري.................................... 39.352
سائقو العربات.............................. 23.688
عتالون....................................... 17.797
إدارة، موظفون، عملة وأعوان سكك حديد
............................................... 10.662
تجارة
مواد غذائية................................. 88.257
أقمشة وألبسة............................... 17.354

و من سوء حظّنا أنّنا لا نمتلك معطيات تُعنى بالعشريّة الأخيرة لكن إن اتّخذنا أرقام إحصائيّات 1907 و1917 منطلقا وإن أخذنا بعين الاعتبار نموّ السكّان الحاصل سنة 1927 بوسعنا أن نلاحظ نموّا عامّا للطّبقة العاملة في الفلاحة والتّجارة والصّناعة.

في الفــلاحــة

هناك معطيات غير مباشرة تسمح لنا بتكوين فكرة مّا عن النّموّ العددي للبروليتاريا الفلاحيّة لهذه السّنوات الأخيرة. فإحصائيّة سنة 1907 تبيّن لنا أنّ عدد السكّان النّشطاء في الفلاحة كان في ذلك الوقت 2.440.030 من بينهم 519.693 فلاّحون، و920.435 فلاّحون مزارعون وتقريبا 900.00 أجير فلاحي. لكن عندما ندرك أنّ عددا مساويا تقريبا من الفلاّحين- المزارعين الصّغار يشتغل في ظروف شاقّة جدّا يقترب من صنف العملة الفلاحيّين سنحصل على رقم مرتفع جدّا لسنة 1907. لكن يجب كذلك أن نأخذ بعين الاعتبار إفقار الفلاّحين وتركّز الملكيّة الزّراعيّة (انظر ما سبق). وهكذا نصل إلى الاستنتاج بأنّ هناك ما لا يقلّ عن 3 ملايين عامل فلاحي (بما في ذلك العمّال نصف الفلاحيين ونصف المزارعين).

في التّــــــــــجارة والصـــّناعة

دفع إفقار الفلاّحين جموعا غفيرة من العمّال إلى التّوجّه نحو التّجمّعات الصّناعيّة والتّجارية. وهناك حَدَثَ تحوّل كبير في حياة مصر الاقتصاديّة. ونموّ سكّان المناطق الأكثر صناعة من قبيل القاهرة والاسكندريّة، والسويس ودامياط... يشهد على تطوّر عدد العمّال الصّناعيين. وهو نموّ بالخصوص موح بما أنّ، حسب إحصاء 1917، %32,8 من سكّان هذه المناطق كانوا يشتغلون في تلك الفترة في الصّناعة والتّجارة والنّقل في حين لم تكن هذه المجموعة في مصر المنخفضة ممثّلة إلاّ ب %7,9 وفي مصر العليا ب %8,8 ويبيّن الجدول الآتي نموّ السكّان في المراكز الصّناعيّة الّتي سبق ذكرها:
المناطق..................................................السنوات
...................................1917.......................1927
القاهرة......................790.939.......................1.059.824
اسكندرية...................44.617........................ 570.314
القنال....................... 30.996........................ 39.166
الدامياط................... 30.944......................... 34.814
تثبت هذه المعطيات، ولو بطريقة غير مباشرة وبما لا يقبل الجدل، النّموّ النّسبي لتشغيل العملة الصّناعيين وكذلك أهمية التّحوّلات الاجتماعيّة الّتي تحدث في اقتصاد مصر الوطني.

وضــع الطّبـــقة العــاملة

يتمثّل الطّابع الخصوصي لقضيّة العمل في مصر في الوجود الدّائم، منذ عدّة سنوات، لجيش من الاحتياط للعمل، للأسباب الّتي سبق ذكرها. وهذا الوضع تؤكّده معطيات إحصائيي 1907 و1917 (مهن غير منتجة وغير معروفة). وهذا السّبب وأسباب أخرى يُفهمنا لماذا، في مصر، تستقبل البطالة باطّراد أعدادا جديدة من العاطلين عن العمل الّذين لا يستطيعون وجود شغل في صناعة قليلة التّطوّر.
وبصفة عامّة وما عدا استثناءات قليلة، فإنّ يوم عمل العامل المصري يدوم بين 12- 16 ساعة في الصّناعة كما في الفلاحة حيث يبدأ العمل يوميّا على السّاعة الخامسة صباحا لينتهي مساء. وفي منتصف النّهار يُمنح العامل ساعة للفطور والرّاحة. وغالبا ما يعمل العامل الفلاحي وقتا طويلا شتاء وصيفا على حدّ سواء.
لا يتجاوز معدّل أجر العامل الفلاحي 5 أو7 قروش (القرش يساوي تقريبا فرنكا فرنسيّا واحدا). إنّ وضع العملة- الزّراعيّين الّذين يتقاضون جزءا من المحصول مقابل خلاص عملهم ليس أفضل، فهم مرهقون دوما بالدّيون ولا يحصلون إلاّ على جزء ممّا يعود إليهم من المرتّب. فعلى العامل أن يعيل عائلته بمرتّب بائس، وهو مضطرّ إلى تشغيل أبنائه منذ صغرهم لأنّ القليل الّذي يحصلون عليه هو تتمّة ضروريّة لميزانيّة العائلة البائسة. فالفطور المألوف للعامل الفلاحي يتكوّن من فطيرة ذُرَة شاميّة والقليل من"الديرو"، وقطعة قصب سكّر، وحبّات فول تُؤكل في أغلب الأحيان نيْئا.
ويمثّل البطّيخ الغذاء الّذي يكون في متناول العمّال الّذين اعتادوا النّوم في الاسطبل.

في الصــّناعــة

تكون الأجور أحيانا أقلّ من أجور خَدَم المزارع من 4 إلى10 قروش ليوم عمل ب12 ساعة. وهناك ظروف شاقّة بصفة خاصّة فُرضت على الأطفال الّذين يكثر تشغيلهم ، ويتراوح مرتّبهم من ½ إلى قرش واحد في اليوم الواحد، ويتجاوز يوم عملهم 12 ساعة، ويتمّ تشغيلهم بالخصوص في حِلاجَة القطن وفي مصانع التّبغ، وهي أعمال تشكّل خطرا كبيرا جدّا على بنيتهم الفتيّة. فالأطفال كثيرا ما يصابون بالعمى وسرعان ما يموتون .
يتقاضى العمّال مرتّبات زهيدة جدّا ومع ذلك يتحمّلون الجزء الأكبر من عبء الضّريبة، ففي ميزانيّة الدّولة الحالية 1927- 1928 تمثّل المساهمات غير المباشرة %30 من الدّخل. وقد كانت هذه النّسبة في حدود 22 في ميزانيّة 1913(5).

القـوانــين العمـــاليّة، الصّــحافة البـورجـوازيّة والحــكومة

العامل المصري هو في تبعيّة تامّة تجاه ربّ العمل. ففي ظلّ غياب أيّ نوع من تشريع قوانين الشّغل يتعرّض العمّال لاستغلال لا مثيل له. وفي الحقيقة فإنّ هناك قانونا يعود إلى 4 جويلية 1909 يحدّد السنّ الدّنيا لعمل الأطفال ب 9 أعوام. وهذا القانون يمنع تشغيل الأطفال في إنتاج القطن وحِلاجته إلى حدود سنة 13 إلاّ إذا كانوا مزوّدين بشهادة كفاءة للعمل. وبمقتضى هذا القانون فإنّ يوم عمل هؤلاء الأطفال يجب ألاّ يتجاوز 8 ساعات. وهذا القانون الّذي أُقرّ من جديد في سبتمبر1926 لم يتمّ احترامه أبدا بما أنّه لم يقع تفقّد المصانع في مصر.
ليس العمّال وحدهم من يطالبون بضرورة سنّ تشريع للعمّال بل كذلك بعض إيديولوجيي البورجوازيّة. فالبورجوازيّة المصريّة الفتيّة لا تجهل أنّ الطّبقة العاملة تجيد الالتجاء إلى الإضرابات ووسائل أخرى للصّراع الطّبقي. والبورجوازيّة، وهي منزعجة من النّزاعات الأخيرة الّتي كادت تتحوّل إلى إضرابات في عديد المؤسّسات، توصي هي نفسها أحيانا بإصدار قوانين حول الشّغل، وتأمل أن تسمح هذه القوانين بشلّ النّشاط العمّالي. وتُعلن الصّحيفة البورجوازيّة كوكب الشّرق بتاريخ 7أفريل 1927: "إن أردنا قانونا حول الشّغل فليس لحماية العمّال من استغلال الرّأسماليين فحسب بل لحماية الجمهور والرّأسماليين من العمّال كذلك". وتضيف لاحقا: "إنْ تصرّف العمّال، وهم مدفوعون بمشاغبين، بطريقة مضرّة للمجتمع، سيعرف القانون كيف يضع حدّا لشغبهم".
ولكن، هناك من ناحية أخرى حملة شُنّت كذلك على التّشريع العمّالي في الأوساط الانجليزيّة- المصريّة. ويتمّ التّأكيد في هذه الأوساط على أنّ المطالب العمّاليّة ليست إلاّ تقليدا لأوروبا. وهكذا تُعلن البورصة المصريّة (إحدى أهمّ الصّحف الفرنسيّة الّتي تصدر منذ 24 سنة في القاهرة):" يقلّد الشّرق كلّ العيوب الأوروبية. لم يتمثّل اللّباس والقوانين والتّقاليد العامّة فحسب بل يريد كذلك أن يتمثّل القوانين الّتي تلغي الحريّة، القوانين الّتي طالما تألّمت منها أوروبا القديمة، أي القوانين المتّصلة بالنّقابات والتّأمينات الاجتماعيّة، ويوم عمل بثماني ساعات". ويختم الكاتب قائلا: إنّ قانونا يمنع العامل الّذي يرغب في العمل أكثر من ثماني ساعات لا تحتاجه مصر.
لكنّ البروليتاريا المصريّة تخوض حملة مستمرّة من أجل أن يقع الاعتراف بحقّ الإضراب والحق النّقابي. وتكثّفت هذه الحملة بالخصوص في السّنة الأخيرة. وقد شرعت فيها الس.ج.ت. الثّوريّة. ونحن نعرف أنّ الرّجعيّة قد أخمدت أنفاس هذه الكنفدراليّة. وإثر إضرابات 1923- 1925 وأمام مطالب العمّال، رأى البرلمان نفسه مضطرّا إلى الاهتمام بهذه المسألة. لكن في سنة 1926 فقط تمّ انتخاب لجنة الشّؤون العمّاليّة برئاسة النّائب العمّالي حسن نافع. وبذلت الحكومة كلّ ما في وسعها لشلّ أعمال هذه اللّجنة وذلك بإيفاد أعضاء رجعيّين إليها. لكنّ الحكومة لم تنجح في تحويل وجهة الرّأي العامّ عن مسائل العمل. وهذه المسائل مطروحة اليوم على جدول الأعمال والبروليتاريا المصريّة تخوض حملة نشيطة للحصول على حلّ إيجابي.
عديد النّقابات طلبت من الحكومة الاعتراف بها رسميّا. لكن في ظلّ غياب قانون نقابي فإنّ الحكومة تمتنع عن الاعتراف بها بحكم القانون والتّسامح مع الأمر الواقع . ومن الطّبيعي أنّ مثل هذه الحالة تعرقل كثيرا نموّ الحركة النقابيّة.
لكن لا توجد أيّ مؤسّسة ليست بها منظّمة عمّاليّة ولكن كلّ هذه التّجمّعات تظلّ معزولة وقوّتها العدديّة لا تزال ضعيفة.
والوضع أشدّ سوءا في الفلاحة حيث لا يوجد أعضاء نقابة.
توجد فيدراليّة نقابيّة بالقاهرة كانت تضمّ فيما مضى تقريبا 100 نقابة صغيرة (حسب معطياتها الرّسميّة لسنة 1925). لكن حاليّا، هذه الفيدراليّة غير ناشطة، وهي خاملة. وقد تأسّست بعد سحق الس.ج.ت. الثّوريّة. وهذه الفيدراليّة تقود سياسة الوفاق الطّبقي وهي موضوعة تحت سلطة الملك فؤاد ولم تكن تحظى أبدا بشعبيّة لدى الجماهير العمّاليّة. لكنّ فرعها الوحيد في مدينة القاهرة قد خسر اليوم جزءا كبيرا من عدده. وهذه المنظّمة لا تقوم بأيّ عمل تربويّ بين العمّال ولا تجتمع إلاّ مرّة واحدة في السّنة في جلسة عامّة.
لم تنتسب النّقابات الهامّة أبدا إلى هذه الفيدراليّة. وهذه النّقابات الّتي توجد إلى يوم النّاس هذا هي النّقابة العامّة للموظّفين العموميين (لها فروع في كلّ المراكز التّجاريّة الكبرى: تضمّ أكثر من 13.000 منخرط، وفرعها بالقاهرة يعُدّ 7.400 عضو)، نقابات عمّال قناة السّويس، السكة الحديديّة، الترامواي...إلخ.
تعدّ الحركة النّقابيّة المصريّة حاليّا 120 نقابة مع أكثر من 60.000 عضو. وأغلب هذه النّقابات لها مقرّات في المدن الكبرى: القاهرة، اسكندرية...إلخ ورغم ضعف النّقابات فنحن نلاحظ منذ هذه السّنة، وفي القاعدة، محاولات لتجميع الحركة وتكثيف نشاطها وتدعيم عديد النّقابات الموهنة. وبعد انقطاع بسنتين سبّبته الرّجعيّة حدثت محاولات جديدة وعفويّة لتنظيم العمّال، وتشير الصّحافة المصريّة للسّنة الماضية إلى بعث سلسلة من النّقابات الجديدة نلاحظ من بينها نقابات الموظّفين والخيّاطين والحلاّقين والفنّانين وعملة النّسيج الخ. لكن الآن كذلك يسعى الوطنيّون إلى توظيف المنظّمات العمّاليّة الّتي تتأسّس بشكل عفوي لأهدافهم، ويحاولون أن يفسدوا ذهنيّة عمّالهم وذلك بتحويل وجهتهم عن أهدافهم الطّبقيّة.

مهـــــامّ الحــركة العمّـاليّـة

ما هي الأهداف الّتي تُطرح الآن أمام الحركة العمّاليّة المصريّة؟
ثلاث سنوات من ردّ الفعل أثبتت للعمّال بما فيه الكفاية أنّه يجب توفير قيادة جديدة ليكون النّضال فعّالا.
تجد الحركة النّقابيّة المصريّة نفسها إذن أمام هذه الأهداف: الاستعاضة عن القادة الوطنيّين بعناصر أكثر استقرارا، وثوريّة ، محنّكة، ونابعة من رحم الطّبقة العاملة المصريّة، وبالممثّلين الأسلم للمثقّفين المصريّين ، والنّضال في سبيل النّقابات لافتكاك القيادة الثّوريّة، توسيع صفوف النّقابات، بعث منظّمات طبقيّة جديدة في الصّناعات الّتي لم ينتظم فيها العمّال، جلب عديد الكوادر الجديدة من العمّال الشبّان إليها، وبعث خلايا نقابيّة أولية، فيدراليات صناعة ومجالس بين النّقابات محلّية وأخيرا بعث صحيفة عمّاليّة أسبوعيّة شعبيّة.
للحركة العمّالية المصريّة في ما مضى تقاليد مشرّفة للصّراع الطّبقي المباشر الّذي تحقّق تحت قيادة ثوريّة فعليّة. وهذه التّقاليد يجب أن يتمثّلها مناضلو الحركة العمّالية والمنظّمات في الظّروف الجديدة لتطوّر حياة مصر الاقتصاديّة.
ومن ثَمّ لن يتوقّف على ذلك مستقبل الحركة العمالية المصريّة فحسب بل كذلك النّضال في سبيل استقلال مصر التّام، نضال لن يحقّق مبتغاه التّام إلاّ بواسطة قوى الطّبقة العاملة المتحالفة مع الفلاّحين.
ج. ج. زيمرينغ

⃰ النص بالفرنسيّة:
J.J.Zimring : « Le développement économique de l’Egypte et les objectifs du syndicalisme égyptien », in L’Internationale Syndicale Rouge, n° 79-80, août-septembre 1927.
الهــــــــــوامش:
1) The Manchester Guardian Commercial, du 17 Mars 1927.
2) هذه الأرقام مأخوذة من المنشورات الرّسميّة لسنوات 1916، 1920، 1923، 1924، 1926. الكاتب
3) تعود الملكّيّة العقّاريّة الكبرى إلى الأجانب –الكاتب
4) يقدّم هذا الجدول أرقاما مشكوكا في صحّتها بشأن عدد العمّال لأنّه يتضمّن، بالنّسبة إلى عديد الأبواب، معطيات لا تتعلّق بالعمّال فحسب بل كذلك بالأعراف. ومعطيات إحصاء 1907 المفصّلة تقدّم لنا أجوبة أكثر وضوحا، بالنّسبة إلى عديد الأصناف، لأنّ هناك معطيات لا تتعلّق حصريّا إلاّ بالطّبقة العاملة. ونحن نذكر المهمّ منها.- الكاتب
5) Palestine and Near East n° 8 -1927.