وقفة في ظلال علم الأديان -


عيسى بن ضيف الله حداد
2022 / 1 / 23 - 21:24     

وقفة على طريق الخاتمة – كما مر معنا عبر مسار بحثنا، ألقينا ما بوسعنا من اضاءات على كل ما يخص الكتاب المقدس الحبري، في مسار تشكله عبر الأزمنة حتى وصوله لعصرنا، بداية من فعاليات القوننة المنجزة من قبل المؤسسات الحبرية ذات العلاقة، فضلا عن مسار وتنوع سبل سير الوثائق عبر التاريخ حتى وصولها لعصرنا، الأمر الذي يلزمنا إلقاء نظرة تقييم أولية على الحصيلة النهائية كما تظهر لنا..
تلكم هي اللوحة أمامنا ببعديها، هي:
البعد الأول - جهود تاريخية شاقة أنصبت على هذه النصوص المقدسة، بذلتها فرق المدارس الماسورية على مدى اربعة قرون ونيف (من 6 إلى 11)، ومن قبلهم فرق الأحبار على مدى قرون طويلة (تمتد على الأقل من 1 إلى 7 قرون)، ومن قبلهم قرون وقرون - ومن بعدهم أعمال فرق أخرى، حبرية وكهنوتية (ممتدة من القرن العاشر إلى القرن العشرين)..
البعد الثاني: أن هذه النصوص، مازالت تعكس صعوبات جمة ومشكلات حادة تفرض ذاتها بين الحين والآخر على فرق جديدة في عصرنا. وهذا ما ظهر لدى فرق عديدة حملت على عاتقها عبء بعث روح التجديد والحيوية على هذه النصوص المقدسة- من بين هؤلاء تظهر جهود الهيئة المشرفة على الترجمة المسكونية للكتاب المقدس، وهي تواصل جهودها المضنية، تقدم اعترافاتها بكل جلاء كالآتي:
" إن النص العبري الماسوري هو المرجع الأساسي الذي تم اعتماده في
ترجمة العهد القديم. وتعود بكليتها إلى القرن التاسع أو العاشر ميلادي.. وقد كان المطاف الأخير لمسار طويل من التنقلات الممتدة عبر الزمن.." لم تصن هذه التنقلات على الدوام سلامة النص الأصلي" وقد " أظهرت النصوص العبرية الأخرى كمخطوطات قمران والترجمات القديمة (الإغريقية واللاتينية والسريانية والآرامية) وجود اختلافات جديرة بالاهتمام " وهي بكليتها أي هذه النصوص، تعود إلى زمن أقدم بكثير من النص الماسوري.
على سبيل المثال، إن مخطوطات قمران تسبق هذه النصوص بمدى يزيد عن 1300عام. "بيد أنه قد تم اعتمادنا على النص الماسوري كقاعدة أساسية للعمل ماعدا ما يمكن أن يُلاحظ من اختلافات هامة مع النصوص الأخرى " " والحالات التي ابتعدنا بها عن النص الماسوري كانت نسبياً نادرة، وقد نوهنا بها ".
وفقاً لهذا السبيل " لقد تم اعتماد منهج العمل الجماعي في إنجاز هذه الترجمة، حيث نُفذت ترجمة كل نص من قبل فريق مسكوني (Œcuménique) متخصص، إذ بذلوا جهوداً حثيثة من أجل التوصل إلى الدرجة الأقصى من الدقة والوضو

" تم الإشراف على مختلف فرق الترجمة من قبل أربعة منسقين، يمثلون الكاثوليك البروتستانت بالتساوي. وقد عُهد إلى اثنين من المختصين الأرثوذكس لمراجعة هذه الترجمة الأولية. تم اللجوء " أخيرا إلى مجموع المترجمين العاملين في هذا النطاق، وإلى عددٍ من القراء وعلماء في
للاهوت.. في أوربا وفيما وراء البحار..." ومن بعدهم إلى مراجعة مصححين (Réviseurs) علماء في الأدبيات والطقوس الدينية. وأخيراً إلى عموم أعضاء جمعية التنسيق وإلى المسؤولين في التحالف الإنجيلي الأممي(lliance Biblique universelle) وفي السكرتارية الفرنسية لشؤون الوحدة المسيحية. "
" بالإجمال إلى أكثر من مائة من درجات ممارسات الاحتكام النقدي.. - وأخيراً عادت الكلمة إلى عُهدة الفرق الأولى التي كانت قد تخصص كل منها في الترجمة الأولى لكل سفرٍ من أسفار الكتاب المقدس، الذين أخذوا بعين الاعتبار الملاحظات التي قد وردت وكذلك آراء لجنة التنسيق."
على صعيد واقعي، " تم اعتماد البعض من الملاحظات، كما ساهم فريق من المتطوعين في ضبط وصياغة المقطوعات المتوازية للترجمات الأولية التي قام بها عدد من المترجمين، إذ عملوا على تنسيق بعض المصطلحات، ودققوا واستكملوا منظومة التواصل القائمة بين العهد القديم والجديد..
يعلن هذا التقديم كتقييم "بان هذه الترجمة تظهر بأنها أقل أصالة، وأكثر حداثة "من بقية الترجمات القديمة منها أو الحديثة، لأنها بكل بساطة نتاج تنسيق عمل جماعي"...!
السؤال، ألا يظهر هذا الجهد الشاق والمتعدد الدرجات مدى ما تحمله هذه النصوص من عقبات، مما قد استلزم فرق ومؤسسات.. - ولكم من ترجمة قد ظهرت- فيما قبل وفيما تلا لتعلن هي الأوفى بين الترجمات...!
مهما يكن من أمر، لا يمكن قطعاً اختزال المسألة إلى مجرد عملية تقنية تتمثل في الترجمة، إنما هي تعود في أصلها كحصيلة تراكم لممارسات عمل متواصل..
ألا يعلن لنا مدى توتر واضطراب النصوص المرجعية المتمثلة بالمخطوطات، ناهيكم عن قوة الحضور الاضطراري للنزعة التوفيقية، الرامية لردم هوة التناقض وسد الثغرات - عن حدة المأزق الذي قد عصف بالنص المقدس، منذ الأصل الأول وسار به واهباً إياه أكداس أخرى من الأزمات، تلو الأزمات...!!!
لعل موريس كاريز قد عثر على جوانب من المأزق الذي قد ألم في النص المقدس، وأقدم على عرضه بصورة تساؤل، كالآتي -"نص أصلي ...؟ إننا بتصاعدنا عبر الزمن، لن نستطيع الوصول إلى نص وحيد يشكل الجد الأول للنصوص " (أرومة) "
" من المؤكد هناك مجموعة من النصوص التي تشكل أجداد، يربط بينها شكل من ترابط علاقات أبناء عمومة " (أرومات) " قطعاً ليس لدينا الأصل " فالكتاب المقدس ليس القرآن " ..!!
نقطة نظام - الواضح في الأمر، أن الإشكالية التي خضنا غمارها، تنحصر تحديداً في التوراة والعهد القديم الحبري بمجمله، في حين أن الأمر لا علاقة له من قريب وبعيد، بكل ما يخص العهد الجديد المسيحي، حتى لو وجد ذاته في حالة أسر مطبعي عبر ما يسمى الكتاب المقدس المتداول واقعياً..
من المؤكد، أن العهد الجديد المسيحي في مسار تشكله له سيرورته الخاصة، التي حطت رحالها في بدايات القرن الرابع ميلادي، في ظل الإمبراطور قسطنطين، وتلك لم تكن قطعاً من مهام البحث كما ورد من قبلي، وبهذا يكون العهد الجديد المسيحي قد حمل على منكبيه سائر الإشكاليات التي حفل بها العهد القديم في مساراته المعقدة عبر الأزمنة...!
والمفارقة، تلك التي يعلنها العهد الجديد المسيحي، بخطابه ومواقفه المتسم بكونتيه، هي على النقيض الكلي للعهد القديم الحبري، بما قد احتوى عليه من خطاب دأب عليه..
أجل: أية علاقة نجدها ما بين: وتكون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة/ المعلنة على رؤوس الإشهاد لجمهور العهد القديم، وما بين: المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة/ تلك التي تكررها كنائس المعمورة في كل قداس يرفعه جمهورها.