اللغة العراقية ومفهوم الدلالات ح9


عباس علي العلي
2022 / 1 / 22 - 15:42     

مهما تعددت النظريات البحثية التي تسلك طريق واحد أو مسلمة أو مقدمة واحدة لتفسير ولادة ونشوء اللغة، ستجد نفسها تتوقف عند نقطة واحدة نهائية لا يمكن العبور منها لتكون قانونا عاما نسبيا في حل لغز نشأة اللغة، فكل الدراسات والنظريات التي تستند مثلا على الفهم الديني المتأتي من نصوص دينية أمن بها بعض البشر تعدينا إلى نهاية محددة وليست بداية حقيقية، فتعليم آدم سواء في النص التوراتي أو القرآني لا يمكن أن يتم هكذا فجأة دون مقدمات تكوينية تجعل منه قادرا أولا على فهم كلام الله كما يرد في النص، فلا بد له من آلية مسبقة للفهم والإدراك قبل أن يخاطب، وهذا أيضا موجود في نفس الأدب الديني في قضية العلة والسبب (ثم أتبع سببا)، ولكي يمرر البعض هذا المفهوم بتأويل مستحدث مثلا نرى أن ابن جني مثلا لا يقر يتلقى آدم كلمات ربه دون مقدمات، فيقول في كتابه الخصائص:" أكثر أهل النظر على أن اللغة إنما تواضع واصطلاح، لا وحي ولا توقيف"، ويرد على من احتجوا من أهل التوقيف بالآية القرآنية "وعلم آدم الأسماء كلها" بقوله وهذا لا يتناول موضع الخلاف ويجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضعه عليها. " ص 99>
بمعنى أن الله مكن أدم تكوينا وتكيفيا ليكون على قدر أن يفهم ما يقال له، وهذا يستوجب بعدا زمنيا ما ليكون جاهزا ومتدربا للمهمة من خلال ما يعرف بالتواضع والأصطلاح، ولكن بالعودة لمنطق النص نرى أن هذا الفرض مرة صحيح جدا لو فهمنا معنى النص (وخلقنا الإنسان بأحسن تقويم)، بمعنى في أفضل حالاته أطلاقا من كل النواحي، فآدم يكون المخلوق الأكمل والأتم المطلق، وفي مرة أخرى ومن خلال سردية النص نرى أن الله بمجرد إكمال الخلق طلب السجود له، فلما أعترض من أعترض علمه الأسماء كلها وقال له أنبئهم بأسمائهم، هنا لا يمكن التوقيف بين الفكرتين إلا إذا أخذنا الفكرة من منظار تحكمي فهو خالق آدم كامل المواصفات مبرمج بتحكم الله فيه، فلو لم يطلب منه أن ينبئهم بأسمائهم لما عرف آدم أو لم يتعرف على نطق الأصوات التي تدل على كل واحد منهم، فهو خلق متكامل مطلق لكنه موقوف على شرط الطلب منه، هذه القضية ليست فقط في موضوع اللغة بل هي من منظمة كاملة تبدأ بالأمر وتنتهي بالطاعة والتنفيذ، لا يمكن لآدم أن يتحرك خارجها أو يسلك سلوكا أو تصرفا ما لم يرجع للأوامر الخارجية، وبالتالي فآدم غي مبدع وغير تواضعي ولا أصطلاحي لأنه غير قادر على الخروج عن الطاعة من جهة وعدم أمتلاكه القدرة على التصرف الذاتي لأنه معصوم منها.
قال (ماريو باي) في كتابه اسس علم اللغة: (لا احد يعرف متى أو اين او على اي صورة ابتدأ الكلام الانساني، على الرغم من وجود افتراضات كثيرة في الموضوع. ان نعرف جيداً أنه لا يوجد على سطح الارض اي جماعة انسانية – مهما قل حظها من الحضارة والمدنية – بدون لغة تتفاهم وتتبادل الأفكار بها) [ماريو باي، أسس علم اللغة: ص39، وتأسيسا على ذلك فيما أرى أن مجرد أن يخرج الإنسان أولا من دائرة اللغة الكونية المشتركة الفطرية التي تحدثنا عنها نجد أن الإنسان يخرج من دائرة هذه اللغة إلى دائرة التأسيس الخاص به مستعينا بالذكاء الفطري أولا وبتأثيرات البيئة الجغرافية والبيئة المعرفية التي يدركها ويفهما بشكل أولي وعلاقة كل ذلك بما يتأثر فيه منه من محيط حسي، ليصنع لغة خاصة به تلبي متطلباته بشكل متنامي ومستمر دون أن يتقيد بما ينتجه الأخر في مكان ما أو زمان ما، بمعنى أخر الأكتشاف والبناء اللغوي وحده إنعكاس للفرد المختلف جسديا وعقليا وتكوينيا له، قد لا تتوفر ظروف متشابه بين المجموعات لتكوين لغة مشتركة واحدة أو أصل واحد.
يرى العلامة شليجل Schlegel ووفقا لهذا الطرح وقد تابعه فيها جمهرة كبيرة من علماء اللغة بشأن منشأ اللغة وتطورها عبر التأريخ، فنظريته تقسم اللغات الإنسانية في هذه الناحية إلى ثلاثة أقسام هي:.
• القسم الأول: اللغات المتصرفة Flexionnelles ou a Flexion، أو التحليلة Analytiquew: ويمتاز هذ القسم من ناحية "المورفولوجيا" بأن كلماته تتغير معانيها بتغير أبنيتها، ومن ناحية "السنتكس" بأن أجزاء الجملة يتصل بعضها ببعض بروابط مستقلة تدل على مختلف العلاقات، وذلك كاللغة العربية فإن كلماتها تتغير معانيها بتغير بنيتها ، وسميت هذه الطائفة من اللغات "بالمتصرفة" لتغير أبنيتها بتغير المعاني، و"بالتحليلية" لما تتخذه حيال الجملة من تحليل أجزائها وربطها بعضها ببعض بروابط تدل على العلاقات.*
• القسم الثاني: اللغات اللصقية أو الوصلية:Agglutinantes ou Agglomerrantes ou Synthetiques ويمتاز هذا القسم من ناحيتي المورفولوجيا والسنتكس، بأن تغير معنى الأصل وعلاقته بما عداه من أجزاء الجملة يشار إليهما بحروف تلصق به، وتوضع هذه الحروف أحيانًا قبل الأصل، فتسمى: "سابقة Prefixes"، وأحيانًا بعده فتسمى "لاحقة Suffixes"، وبعض هذه الحروف ليس له دلالة مستقلة، ولكن معظمها كان في الأصل كلمات ذات دلالة، ثم فقدت معانيها وأصبحت لا تستخدم إلّا مساعدة للدلالة على تغير معنى الأصل الذي تلصق به، أو للإشارة إلى علاقته بما عداه من أجزاء الجملة، ومن أشهر لغات هذه الفصيلة اللغة اليابانية واللغة التركية، وبعض لغات الأمم البدائية؛ كلغة الأيروكويين lroquois، والبنتوين Bantous، وقد تجتمع الطريقتان في لغة واحدة، فتستخدم أحيانًا الحروف السابقة، وأحيانًا الحروف اللاحقة.
• القسم الثالث: اللغات غير المتصرفة Mono-syllabiques، أو "العازلة" lsolantes: ويمتاز هذا القسم من ناحية "المورفولوجيا"، بأن كلماته غير قابلة للتصرف، لا عن طريق تغيير البنية ولا عن طريق لصق حروف بالأصل، فكل كلمة تلازم صورة واحدة وتدل عل معنى ثابت لا يتغير، ويمتاز من ناحية "السنتكس" بعدم وجود روابط بين أجزاء الجملة للدلالة على وظيفة كل منها وعلاقته بما عداه، بل توضع هذه الأجزاء بعضها بجانب بعض، وتستفاد وظائفها وعلاقاتها من ترتيبها أو من سياق الكلام، ويدخل في هذا القسم اللغة الصينية وكثير من لغات الأمم البدائية، وسميت هذه اللغات بغير المتصرفة لأن كلماتها لا تتصرف ولا يتغير معناها "بالعازلة" لأنها تعزل أجزاء الجملة بعضها عن بعض، ولا تصرح بما يربطها من علاقات، ويرى أصحاب هذه النظرية أن اللغة الإنسانية " الكونية الأولى" في مبدأ نشأتها كانت من النوع الثالث "اللغات غير المتصرفة"، ثم ارتقت إلى النوع الثاني "اللغات اللصقية"، ولم تصل إلى حالة النوع الأول "اللغات المتصرفة" إلّا في آخر مرحلة قطعتها في هذا السبيل، غير أن بعض اللغات الإنسانية قد وقفت في نموها فلم تتجاوز المرحلة الأولى كاللغة الصينية، أو لم تتجاوز المرحلة الثانية كاليابانية والتركية.
هذا التباين في منشأ النماذج الأساسية في اللغات يبين لنا أن موضوع وجود لغة عامة ذات أصل واحد لكل البشر، بالحقيقة العلمية والبحثية لا يمكن التسليم بها نظرا للتأثيرات التي تكلمنا عنها، فلكل لغة ظروف نشأة مختلفة وأسباب داعية مختلفة بأختلاف الهوية الجمعية للجماعات والمجتمعات التي تشترك في ظروف خاصة أو تختلف جزئيا أو كليا في التعاطي معها، لذا كما قال انيس فرنجه: (كيف نشأت اللغة ؟ لا نعلم على وجه التحقيق. أصل اللغة وثيق الاتصال بأصل الانسان ذاته وبتطور جسمه وعقله، اذن قضية اللغة ليست قضية لغوية بحتة، ولا تدخل في نطاق علم اللغة بل في نطاق البسيكولوجيا والانثروبولوجيا والفلسفة... ولكن اصل الانسان ونشأة لغته امر يثير الخيال ويستأنف الى العقل. ونعتقد ان اصل اللغة من اقدم المشاكل الفكرية التي جابهت عقل الانسان.
اذن البحث عن نشأة اللغة ليس بحثاً لغوياً !! قال جوزيف فندريس (يثير الانسان دائماً دهشة السامع كلما قال بان مسالة أصل الكلام ليست من مسائل علم اللغة وحده، ومع ذلك فليس هذا القول إلاّ الحقيقة بعينها فغالبية أولئك الذين كتبوا عن أصل اللغة منذ مائة عام يهيمون في تيه من الضلال، لأنهم لم ينتبهوا إلى هذه الحقيقة، وغلطتهم الاساسية انهم يواجهون هذه المسالة من الناحية اللغوية، كما لو كان اصل الكلام يختلط بأصل اللغات، فهم يدرسون اللغات التي تُتكلم والتي تكتب ويتتبعون تاريخها بمساعدة أقدم الوثائق التي كشف عنها، ولكنهم مهما أوغلوا في هذا التاريخ، فغالهم لا يصلون إلاّ الى لغات قد تطورت وتركت خلفها تاريخاً ضخماً لا نعرف عنه شيئاً، اما فكرة الوصول الى اعادة بناء رطانة بدائية بمقارنة لغات موجودة بالفعل فسراع خداع. ولكن هذا السراب الذي ربما كان مؤسسو علم النحو المقارن يتطلعون اليه قديماً قد هجر منذ زمن طويل.
هناك لغات تنتسب الى تواريخ منها القديم ومنها الاقدم، ونحن نعرف بعض لغاتنا الحديثة في صور قديمة ترجع الى اكثر من عشرين قرناً ولكن اقدم اللغات المعروفة " اللغات الامهات" كما تسمى احياناً، لا شيء فيها من البدائية، ومهما اختلفت عن لغاتنا الحديثة، فأنها لا تفيدنا علماً بالتغيرات التي طرأت على الكلام ولا تدلنا على شيء من كيفية نشوئها. . . فالعالم اللغوي سواء لجأ إلى أقدم اللغات المعروفة أو إلى لغات الأولين المنقرضين أو الذين لم تدون أثارهم اللغوية الأولى، او أستند الى اللغات الحالية التي يتعلم الاطفال بها الكلام، فلن يجد امامه في كل حال الاّ بنياناً شيد منذ زمن طويل وتعاقبت على العمل فيه اجيال عديدة خلال قرون طويلة.
فتبقى مسالة اصل الكلام خارجة عن نطاق خبرته والواقع ان هذه المسالة تختلط بمسالة اصل الانسان واصل الجماعات البشرية البدائي، لقد نشأ الكلام بالتدريج مسايراً لتطور دماغ الانسان ولتكون الجماعة، فمن المستحيل ان نقول في اي صورة بدأ الكائن الانساني يتكلم، لكن من الممكن ان نحاول تجديد الظروف التي سمحت للإنسان بان يتكلم، وهي ظروف نفسية واجتماعية في نفس الوقت) جوزيف فندريس، اللغة: ص29 وما بعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* . نقصد باستقلال الروابط زيادتها عن أصوات الكلمة؛ فالواو القصيرة "الضمة" والنون الساكنة الملحقتان بكلمة "محمد" في: جاء محمد "محمدن" تعتبران من الروابط المستقلة، وهما تشيران في هذا التركيب إلى أن مدلول محمد هو الذي أحدث الحدث.