عن مهدي عامل والبنية الاجتماعية الكولونيالية


محمد علي سليمان
2022 / 1 / 22 - 14:15     

عندما جاء المبشرون كانوا يملكون الانجيل، فعلمونا أن نصلي بعيون مغلقة، وعندما فتحنا عيوننا، وجدناهم يملكون الأرض ونحن نملك الانجيل _ ديزموند توتو.

هناك سؤال كان يشغل مهدي عامل: " وطرحت فيها على نفسي سؤالاً ما زلت أحاول الإجابة عنه: كيف يصير المفكر ثورياً، وكيف يصير ماركسياً، وكيف ينتج الفكر الذي به يفكر واقعاً في سيرورة ثورية؟ "، وفي محاولة الإجابة على هذا السؤال أنتج مهدي عامل فكره الماركسي الذي يحاول به أن يفهم إشكاليات المجتمع العربي المتخلف _ الكولونيالية، الطائفية، حركة التحرر الوطني، الطبقة العاملة، معتمداً على فكر ماركس ولينين من جهة، وفكر ابن خلدون من جهة أخرى، بحيث عمل على " إنتاج الفكر الماركسي الذي به نفكر. وإنتاجه هو إعادة إنتاج له في تميزه الكوني. وتميزه هذا يكون بمواجهة واقعنا التاريخي ". عبر " إنتاج أداة، أو أدوات إنتاج معرفة الواقع التاريخي لمجتمعاتنا الكولونيالية ". ويقول مهدي عامل " ولا أخفي على القارئ أنني حذوت في نهجي هذا حذو ابن خلدون في مقدمته، وكنت في نهجي سائراً في نهجه، وكنت فيه ماركسياً، وما وجدت فيه تناقضاً بل تكاملاً، ففهمت أن طريق الفكر الماركسي اللينيني هو طريق الوصول إلى تملك واقعنا الاجتماعي التاريخي في تراثه وحاضره ". ويتابع " إن محاولتي النظرية كانت ترتسم، عن وعي، ضد ما لحق، بالنظرية الماركسية من تشويه وانحراف في ممارسات الأحزاب الشيوعية، أو بعض أحزابها، وما زال التشويه الانحراف قائمين فيها حتى الآن ". وهكذا خرج مهدي عامل من الإطار الذي حدده الآخر الأوروبي الذي كان يطرح السؤال أبداً وكان هو من يحدد إطار البحث، ويحاول الفكر العربي البحث عن الأجوبة ضمن هذا الإطار، كما يقول الدكتور عبدالله العروي في إنتاج نظريته الماركسية في التخلف " نمط الإنتاج الكولونيالي ".
أصدر مهدي عامل كتابه الأول " مقدمات نظرية: القسم الأول في التناقض، ثم أصدر القسم الثاني في نمط الإنتاج الكولونيالي، ثم تتالت كتبه التي جذر فيها فكره الماركسي كفكر حاول أن يجتهد فيه في خلق نظرية ماركسية عربية تقرأ المجتمع العربي كمجتمع متخلف، مجتمع كولونيالي، ويقول " إن فهم التخلف الذي هو واقعنا التاريخي، لا يكون إلا بإيجاد نظرية للتخلف. وهذه النظرية العلمية لا يمكن أن تكون إلا نظرية ماركسية.. إن عملية فهم التخلف هي عملية ولادة فكرنا الماركسي ". وهكذا عمل مهدي عامل على تغيير زاوية النظر في العلاقة البنيوية للإمبريالية، فانتقل من زاوية النظر الإمبريالية إلى زاوية نظر الطرف التبعي فيها، وهو طرف المجتمعات العربية، أو طرف التطور الذي سماه التطور الكولونيالي الرأسمالي. وكانت التشكيلة الاجتماعية الكولونيالية: نمط الإنتاج الكولونيالي، والبورجوازية الكولونيالية، التي قرأ مهدي عامل من خلالها كمفاهيم مطروحة بشكل أو بآخر، في الفكر الاقتصادي العالمي، وخاصة من قبل مفكري نظرية التبعية في أمريكا اللاتينية، وأعاد استخدامها لتخدم رؤيته الماركسية في إنتاج نظرية ماركسية عربية تنظر في تخلف المجتمع العربي من خلال البنية الاجتماعية الكولونيالية العربية كبنية تابعة للبنية الاجتماعية الرأسمالية، وعبر علاقة التبعية هذه يتجدد التخلف العربي. لكن ما أوصل مهدي عامل إلى " بنية الإنتاج الكولونيالي " هو " وجود اختلافات جذرية في حركة تطور التاريخ، بين هذه البلدان _ المتخلفة _ وبلدان الغرب الرأسمالي، ومجرد وجود هذه الاختلافات يسمح لنا فعلاً بالشك في تماثل منطق تطور التاريخ في هاتين الفئتين من البلدان، من هذا الشك نشأت فرضية " نظام الإنتاج الكونيالي ": إذا كان الاختلاف بين تطور بلدان التخلف وتطور بلدان الغرب الرأسمالي اختلافاً في منطق التاريخ، وجب أن هذا الاختلاف بنيوياً، أي أن يكون أساساً اختلافاً في البنية الاجتماعية بالذات، أي في بنية الإنتاج الاجتماعي "، وهكذا ظهرت نظرية مهدي عامل في " البنية الاجتماعية الكولونيالية "، كبنية تابعة لـ " البنية الاجتماعية الرأسمالية ".
أما بخصوص نمط الإنتاج الكولونيالي فهو يقول " لقد حددت نمط الإنتاج الكولونيالي كشكل تاريخي مميز من نمط الإنتاج الرأسمالي، هو بالضبط شكل الرأسمالية المرتبطة ارتباطاً بنيوياً بالإمبريالية، في تكونها التاريخي الراهن وفي تطورها الراهن أيضاً ".
وعندما عقدت في الكويت ندوة تحت عنوان " أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي "، وجد مهدي عامل أنه من الضروري مناقشة فكر تلك الندوة، وأصدر كتابه " أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية " الذي هو مناقشة لأبحاث ندوة الكويت، والذي أظهر فيه تهافت المفكرين العرب في مناقشتهم أزمة المجتمع العربي على اعتبار أنها أزمة الحضارة العربية، في حين هي، كما أوضح في الكتاب، أزمة البورجوازيات العربية. واعتبر مهدي عامل " إن إظهار أزمة الحركة التاريخية للبنيات الاجتماعية العربية في شكل أزمة الحضارة العربية هو إخفاء لحقيقة هذه الأزمة من حيث هي أزمة البورجوازيات العربية المسيطرة في قيادتها حركة التحرر الوطني "، ويتابع في مكان آخر " وكلما ازداد تأزم الصراع الطبقي كلما ازداد وضوحاً. فظهر قطباه الرئيسيان: طبقة عاملة هي الطبقة الثورية النقيض، وبورجوازية كولونيالية مسيطرة ". ولذلك " أخذت تتأكد في الوعي الاجتماعي لجماهيرنا الشعبية الضرورة التاريخية لوجود الطبقة العاملة في قيادة حركة التحرر الوطني ". ذلك " أن البنية الاجتماعية الكولونيالية، أي هذا الشكل التاريخي المتميز من البنية الاجتماعية الرأسمالية، لم تخرج بالعنف الثوري من أحشاء البنية الاجتماعية السابقة، سواء أكانت إقطاعية _ وهذا مستبعد_ أم استبدادية _ وهذا هو الأرجح، ولم تقم على أنقاضها ". وبالتالي " فالبورجوازية الكولونيالية ليست مهيمنة بذاتها بل بتبعيتها للبورجوازية الإمبريالية، أو أن هيمنتها الطبقية قائمة في ذاتها، على أساس من وجود بنية علاقات الإنتاج الكولونيالية في علاقة التبعية البنيوية مع الإمبريالية ". و" إن هذه البورجوازية الكولونيالية تنقلب دوماً، وبشكل ضروري إلى التحالف مع الإمبريالية، حتى في طور تثبت نمط الإنتاج الكولونيالي، أي في الطور الذي يمكن أن تكون فيه في صراع مع الإمبريالية، كلما رأت في حركة الطبقات الخاضعة لسيطرتها، بوادر خطر أو إمكانية خطر على سيطرتها الطبقية ". وعليه فإن " تخطي كل من الإنتاج الكولونيالي والإنتاج الرأسمالي يمر بالضرورة بقطع العلاقة الكولونيالية. أي أن الانتقال إلى الاشتراكية إن في البلاد المتخلفة أم في البلاد الرأسمالية يمر حتماً بقطع هذه العلاقة، أي بالثورة عليها. إن الثورة على الاستعمار هي الطريق الوحيد لتحرير تاريخ الإنسان ". حيث أن " عملية التحرر الوطني، من حيث هي، بالضرورة عملية الصراع الطبقي الخاصة ببنية هذه العلاقة الكولونيالية، هي نفسها عملية الانتقال إلى الاشتراكية ".
لقد كان مهدي عامل، كمفكر ماركسي عضوي، يعتبر أن العالم قد دخل في عصر الاشتراكية وإن الرأسمالية سوف تنهار، وأن الطبقة العاملة الثورية النقيض للطبقة البورجوازية الكولونيالية هي التي عليها أن تقود حركة التحرر الوطني في المجتمع العربي عبر حزبها الشيوعي، والانتقال بالوطن العربي ليس من التخلف إلى الحداثة فقط، بل وأيضاً من واقعه الكولونيالي إلى واقعه الاشتراكي حيث " أن الطبقة العاملة، أن تقوم _ بسبب من تميز منطق الإنتاج الكولونيالي _ بثلاث ثورات هي في الحقيقة ثورة واحدة: الثورة البورجوازي’ والثورة الوطنية، والثورة الاشتراكية ".
لم يعش مهدي عامل حتى يرى انهيار العالم الاشتراكي ذلك الانهيار المأساوي، فقد تم اغتياله في 19 إيار 1987، وهكذا تمت هزيمة مهدي عامل الذي كان شعاره " لست مهزوماً ما دمت تقاوم "، تمت هزيمته لأنه لم يعد يقدر على المقاومة، وخسر الفكر العربي الماركسي عقلاً منفتحاً على الاجتهاد، ويعمل على قراءة الواقع الماركسي العربي الاجتماعي قراءة موضوعية _ علمية، لا أيديولوجية، ولو أن الأيديولوجيا بطبيعة الحال غير غائبة عن مشروعه المعرفي الماركسي.
في كتابه " مقدمات نظرية " حاول مهدي عامل أن يعطي التشكيلية الاجتماعية العربية ما أطلق عليه " التشكيلة الاجتماعية الكولونيالية، ونمط الإنتاج الكولونيالي، وبذلك أخرج الفكر العربي من الدوران في فلك التشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية: الخراجية _ سمير أمين، البطركية _ هشام شرابي، الآسيوية _ أحمد صادق سعد، متعددة الأنماط الإنتاجية _ طيب تيزيني.. وهذه كلها تصب في الأشكال الإنتاجية السابقة على الرأسمالية، رغم أن البنية الاجتماعية العربية تغرق في البنية الاجتماعية الرأسمالية، ولو أنها تغرق بها كبنية تابعة.
لقد حارب مهدي عامل الجمود العقائدي، لقد كان مهتماً بأزمة حركة التحرر الوطني وقيادتها الكولونيالية لكنه في تلك الفترة، ككل مفكر عضوي، كان يؤمن بانتقال قيادة حركة التحرر الوطني إلى الطبقة العاملة، وكان يؤمن بانتصار الحركة الاشتراكية العالمية وبالتالي الحركة الاشتراكية العربية كحتمية تاريخية، وهكذا بالغ في الأمل، كما بالغ في تقدير قوة الطبقة العاملة وأحزابها الشيوعية، ولكن لم يطرح واقع الحركة الماركسية العربية الرسمية وأحزابها الشيوعية برنامج تغيير اجتماعي ينخرط في وعي إشكالية البنية الاجتماعية العربية المتخلفة والتابعة نظرياً وعملياً للنظام العالمي الإمبريالي. بل لقد حورب مهدي عامل من قبل بعض قادة الأحزاب الشيوعية العربية التي أدمنت الجمود النظري في الماركسية على الطريقة السوفيتية، والذين عملوا على إبعاد كتبه عن أعضاء أحزابهم، وهنا تكمن مأساة مهدي عامل كمفكر عضوي يحاول خلق نظرية ماركسية عربية، وكان يجتهد من خلال الحزب الشيوعي اللبناني، وقد أخذ على عاتقه مهمة خلق نظرية ماركسية في تخلف الواقع الاجتماعي العربي الكولونيالي. وبالمناسبة هذا مشروع الدكتور سمير أمين: " استكمال الماركسية بإنتاج نظرية في التخلف في آسيا وأفريقيا ". لكن انهيار العالم الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية أظهر التخلخل الذي أصاب بنية المجتمع الشيوعي العالمي التي قامت على الاستبداد _ ديكتاتورية البيروقراطية، وهذا الاستبداد هو ما جعلها عبر الزمن تصل إلى الانهيار دون أن يهتم الشعب به بعد أن أصبح بعيداً عن ذلك المجتمع الشيوعي، ويعيش في العبودية الطوعية. وهذا الانهيار خلخل أيضاً الأحزاب الشيوعية العربية الرسمية المتحالفة مع الأنظمة العربية الحاكمة عبر ما يدعى الجبهة الوطنية، وحتى تلك الأحزاب الشيوعية المتمردة على الأنظمة العربية، وبدأت مع ذلك الانهيار تظهر عيوب تلك الأحزاب الشيوعية لنفسها، بعد أن كانت مكشوفة للآخرين، وبدأت تحاول أن تتماسك في وجه العاصفة. ولكن بعض تلك الأحزاب الشيوعية ظلت تتمسك بأفكارها التقليدية، والبعض الآخر بدأ يراجع نفسه بخجل، وبعضها قام بمراجعة جذرية من أجل وعي المرحلة الجديدة التي يعيشها العالم بعد انهيار العالم الشيوعي. كما أظهر انهيار الدول الشيوعية أن القوة التي أعطاها مهدي عامل لهذه الأحزاب لقيادة حركة التحرر الوطني كانت أيديولوجية أكثر منها علمية _ موضوعية، وبالتالي فإن أزمة المجتمع العربي لم تكن في البورجوازيات العربية فقط كما رأى مهدي عامل، ولكن الأزمة كانت أيضاً في الطبقة العاملة العربية وأحزابها الشيوعية التي تخلت عن دورها التاريخي لصالح دور هامشي كتابع للأنظمة العربية الحاكمة في عملية التغيير الاجتماعية والسياسية العربية. ولم تكن هذه القضية غائبة عن فكر مهدي عامل، فقد ناقشها مطولاً في كتابه " بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان "، ولكنه ناقشها كقضية تجاوزها الحزب الشيوعي اللبناني في عمليات النقد الذاتي الجذرية التي كان قد مارسها في مؤتمراته الحزبية، وخاصة في المؤتمر الثاني والمؤتمرات اللاحقة، وأظهر في تحليلاته النظرية إن أحزاب الطبقة العاملة وعت أهمية ربط النضال الوطني بالنضال الطبقي، نضال الطبقة العاملة الذي يسمح لتلك الأحزاب الشيوعية أن تصعد إلى قيادة حركة التحرر العربي باعتبار أن التحرر الطبقي هو هو التحرر الوطني. وهذا الدور الهامشي للأحزاب الشيوعية العربية، الذي تم تجاوزه نظرياً عبر عملية المراجعة الذاتية الجذرية ظل في المجال النظري، ولم يقدر أن يتجاوزها إلى المجال العملي، ولم يقدر أن يرقص عند الوردة. ففي الممارسة العملية في مواجهة أحداث حراك الشعب العربي بعد عام 2011 فيما دعي بـ " الربيع العربي " ظهر جموده في مجال العمل، وسلك مرة أخرى وأخرى طريق ذلك الانحراف اليساري الذي كان يبدو أنه ملازم لتلك الأحزاب العربية الشيوعية، وهذا ما أقر به خالد حدادة " لم يسبق لنا أن ادعينا أن الحزب الشيوعي اللبناني نجح في تخطي أزمته.. إلا أن حزبنا ليس الوحيد الذي يعاني من هذه الحالة، بل لعله أقل الأحزاب تأزماً، وواحد من الذين، برغم أزمتهم، صمدوا في وجه التآمر "، ولكن هذا الكلام النظري يخفي ما أظهره أحمد بهاء الدين شعبان _ يساري مصري " اليسار المطلوب اليوم هو ذلك الذي ينبثق من الشارع، وليس نتاج بعض المثقفين الذي يفرضون رؤيتهم للواقع، ومن هنا علينا الالتفات إلى الواقع الذي يتحرك وينادي اليسار أن يكون على مستوى المسؤولية ". وقد أظهر ذلك " الربيع العربي " أن تلك الأحزاب العربية الشيوعية لم تكن على مستوى المسؤولية التاريخية للانخراط في الحركات الثورية العربية، وقيادة تلك الجماهير الثائرة من أجل تحقيق تلك المطالب التي كانت وما تزال هي مطالب تلك الأحزاب الشيوعية، ولو نظرياً، في الحرية والكرامة والعدالة.
وفي هذه الظروف لم يعد أحد من المفكرين العرب، الماركسيين وغير الماركسيين، يتكلم عن الطبقة العاملة: أصبح المفكرون العرب يتكلمون عن الشعب والجماهير والطلاب والفئات الهامشية، بل ويتكلمون عن تحالف قوى وطنية واسع (كتلة تاريخية بالمفهوم الغرامشي) يضم كل القوى التقدمية الدينية والعلمانية التي لها مصلحة في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية من أجل تحقيق تلك الحرية والعدالة حتى أن كثيراً من المفكرين العرب الماركسيين، مثل الدكتور فؤاد مرسي والدكتور إسماعيل صبري عبدالله، أخذوا يطالبون البورجوازية الوطنية بالقيام بدورها التاريخي (كتاب الرأسمالية تجدد نفسها للمفكر الماركسي فؤاد مرسي). ولكن في النهاية فإن المشكلة، كما يقول مهدي عامل، ليست في " الحضارة " بل في القوى الاجتماعية العربية التي لها مصلحة في التغيير الاجتماعي، ذلك أن القوى الاجتماعية الكولونيالية هي في حالة عجز بنيوي عن التغيير الاجتماعي بحيث أن تلك البورجوازية الكولونيالية تؤبد نمط الإنتاج الكولونيالي عبر تبعيتها للإمبريالية، لأن فيه استمرار سيطرتها على السلطة السياسية. وإنه عندما تتخلص تلك القوى الاجتماعية العربية الكولونيالية من عجزها البنيوي، وهذا مستبعد لارتباطها بالبنية الاجتماعية الرأسمالية، فإن على طبقة اجتماعية مهيمنة _ الطبقة البورجوازية الوطنية أو الطبقة العاملة، أن تخلخل هيكل النظام العربي الرسمي الكولونيالي، مما يفتح الطريق لكي يدخل المجتمع العربي العصر الحديث.
ولقد تحركت الشعوب العربية فيما يدعى بـ " الربيع العربي " 2011، ولكن لم ينتج عن ذلك " الربيع العربي " أنظمة ديمقراطية، لأنها كانت حركات عفوية، حدثت كرد فعل على القهر والهدر والفقر، وأيضاً على الاستبداد الذي تحكم الأنظمة الحاكمة المجتمع العربي من خلاله بحيث تحرمه من كل ما إنساني: الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وقد استطاعت تلك الأنظمة الدكتاتورية من إعادة إنتاج نفسها مرة أخرى عبر الجيش (مصر والسودان) أو عبر الديمقراطية (تونس)، وبتدخل قوى عربية خليجية وإقليمية وعالمية عبر دعم قوى دينية تكفيرية مصطنعة مولت مالياً من قبل دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات وقطر، وهكذا دخل العالم العربي في طوفان الحروب الأهلية تحت قناع ديني طائفي. ولقد ساهمت دول الخليج العربي في السيطرة على شعوبها بالقوة _ قوة السلاح، أو بالفعل _ قوة المال النفطي، كما ساهمت في تدمير الدول العربية، وخاصة تلك الأنظمة " التقدمية "، التي كانت تعارض مشروع الشرق الأوسط الجديد. كما أظهر ذلك " الربيع العربي " هشاشة القوى العلمانية وجبروت القوى الدينية التكفيرية اجتماعياً (وكان مهدي عامل مهتماً بالقوى الدينية عبر اهتمامه بالحرب الأهلية اللبنانية التي صادرت الطائفة من قبل البورجوازية الكولونيالية لتأبيد سيطرتها عبر تمظهر الصراع الطبقي كصراع طائفي، وأصدر أكثر من كتاب في الإشكالية الطائفية _ مدخل إلى نقض الفكر الطائفي، في الدولة الطائفية، يرد هذه البورجوازية الكولونيالية التي تخفت تحت قناع الدين إلى أصولها الطبقية)، كما أظهرت هشاشة الأحزاب السياسية التقدمية والماركسية الشيوعية وعجزها البنيوي عن الفعل الاجتماعي (وخاصة الأحزاب الشيوعية التي كان مهدي عامل يراهن على دورها القيادي للطبقة العاملة كطبقة قادرة على تحقيق مجتمع اشتراكي)، كما أظهرت أيضاً أن الأنظمة الحاكمة لم تفكر أبداً سوى بأن تبقى في السلطة السياسية، وإعادة إنتاج نفسها في تلك السلطة السياسية بعد أن حولت تلك البلاد إلى مزارع خاصة. واعتبر " أن البورجوازية الكولونيالية هذه تنقلب دوماً، وبشكل ضروري إلى التحالف مع الإمبريالية، حتى في طور تثبت نمط الإنتاج الكولونيالي، أي في هذا الطور الذي تكون فيه في صراع مع الإمبريالية، كلما رأت في حركة الطبقات الخاضعة لسيطرتها، بوادر خطر أو إمكانية خطر على سيطرتها الطبقية ".
في الذكرى الثانية لاغتيال مهدي عامل يقول محمد علي مقلد: جاءها ذات يوم، حاملاً معه نشرة أصولية وترجم لها_ زوجته الفرنسية_ مقطعاً رأى فيه قرار اغتياله. عرضت عليه الرحيل ليحمي حياته. لكنه عزم على البقاء تجسيداً لصمود الفكر الثوري، حماية لما تبقى من أحلام الشيوعيين من تحرير الوطن العربي وإعادة بنائه حراً عربياً ديمقراطياً علمانياً. ولم يمض شهر حتى نفذ الأصوليين قرارهم.
لقد لاحظ إدوار سعيد في كتابه " الثقافة والإمبريالية ": " أن العالم غير الأوروبي عالم صمت، بإرادة منه أو دونما إرادة. ثمة اشتمالية، ثمة احتوائية، ثمة حكم مباشر، ثمة إرغام وقسر.. ولكن ليس ثمة إقرار _ إلا في النادر _ بأن الشعوب المستعمرة ينبغي أن يسمع منها، وأن يعرف ما لديها من أفكار ". ورغم أنه كان هناك ابتعاد في العالم العربي عن بحث نمط الإنتاج السائد في المجتمع فإن مهدي عامل كان يطمح إلى أن يكون صوت العالم غير الأوروبي، أو على الأقل صوت العالم العربي: الصوت الماركسي العقلاني، العلماني، الموضوعي، الصوت الذي يحرث في أرض ذلك العالم العربي المتخلف لينتج نظرية ماركسية عربية، وكان يحفر دائماً في جسد الواقع المتخلف بحثاً عن نظرية يمكن أن تمتلك ذلك الواقع المتخلف معرفياً واجتماعياً وتحطم بنيته الكولونيالية، فقد كان يعتبر أن شجرة الحياة هي الخضراء دائماً أيضاً، ولم تكن خسارة معركة في حرب المعرفة النظرية تجعله يهرب من الاجتهاد الماركسي، وأعتقد أنه كان سيبحث بين الأنقاض عن حقيقة انهيار البناء النظري الماركسي العالمي بشكل عام، والبناء النظري الماركسي العربي بشكل خاص، ولم يكن ليبرر لنفسه ولا للأحزاب العربية الشيوعية فشلها في بناء نظرية ماركسية للمجتمع العربي، أو في عدم قدرتها على التفاعل العملي مع " الربيع العربي "، بل كان سينهض من قلب الرماد، ويقاوم رافضاً الهزيمة، وهي فضيلة كل مفكر حقيقي، ومهدي عامل كان مفكراً حقيقياً.