اللغة العراقية ومفهوم الدلالات ح7


عباس علي العلي
2022 / 1 / 20 - 17:39     

اللغة من منظور تأريخي
سعى الإنسان الأول بعد أن أسس أو تعرف على اللغة الكونية أن يحاول من توسيع دائرة أهتماماته الأقل درجة من الضرورية، فأنتقل من التعامل مه مفردات ملحة إلى مفردات تتسم بالوقتية أو الظرفية أو تتطلب مناسبة خاصة، فهو يريد أن يتحرر من النمطية ويستكشف طرق أخرى للتعبير عن نفسه بأكثر مما هو موجود، أبتدأ أولا بملاحظة أن وجوده ليس منقطعا للداخل المجمعي فقط، فعناك علاقات أخرى تربطه بقوى فاعلة وقوى محركة وقوى لا يحس بوجودها المادي لكن يدرك وجودها الحقيقي عبر إيمانه بأن هذا الوجود قد يكون أكبر من وجوده الجغرافي والزماني، فأخترع الكلمة الإشارة فبدلا من أن يعبر عن أمتنانه لتلك القوى التي منحته قوة ما، صار يدندن بكلمات ورموز صوتية للتعبير عن ما يختلجه من مشاعر، أضافة إلى أنه تعامل مع الأمر هذا بأعتقاد أن تلك القوى تسمعه وتفهم ما يقول لأنه لا يحتاج منها إلى جواب مباشر أو رد حسي.
اللغة في طبيعتها الأولى سواء أكانت محاكاة أو إبداع لا يمكنها الخروج من دائرتها الضيقة نحو فضاء أكبر لتكون نظاما متكاملا ما لم تتطور قدرة الإنسان مع تعدد الحاجات وتنوعها، فهي كفعل أجتماعي قبل أن تكون معرفي جاءت تلبية لموضوع محدد ترتبط به وتنشد له، فكلما طرأ جديد بحاجة للتعبير عنه ولدت مفردة جديدة تستجيب بها كونية الإنسان الذاتية، لذا فتطور اللغة تأريخيا مرتبط بحجم وشكل تطور المجتمع وظهور أنماط سلوكية تبرر هذا التطور وتقود له، لذا فكلما تحرك الإنسان في داخل المنظومة الأجتماعية تتطور اللغة وفقا لما تحصل له من أسباب داعية أو داعمة، التطور المعرفي إذا مرتبط بالتطور اللغوي ومرتبط بالإدراكات والحس الجمعي بما في اللغة من دور تأريخي في تطور المعرفة البشرية من البسيط للمركب وصولا في مرحلة لاحقة إلى النظم والترتيب وبناء القواعد اللغوية.
ظهور اللغة حدث أستثنائي لا يمكن تحديده على وجه الدقة في عصور ما قبل التاريخ الإنساني المعروف، والتطورات السلوكية المتمثلة بالفعل الأجتماعي الفردي والجمعي التي لها علاقة بموضوع نشأة اللغة لم تترك آية آثار مُباشرة لأنها حدثت قبل عصر التدوين والكتابة ولما كانت اللغة نشاط سلوكي فقط، هنا لا يمكن ملاحظة أي عمليات مشابهة لها هذا اليوم ولا يمكن لأن الإنسان لا يمكن أن يعيد تجربة مستقرة وثابتة وقادرة على أن لا تنافس من جديد، نعم ظهر نوع جديد من اللغات التقنية التي أعتمدت على فكرة تحويل الرمز الصوتي إلى خوارزميات وأرقام، لكن ومن خلال تتبع تطورها المتسارع يمكننا إجراء مقاربة ومقارنة بين تأريخ هذه اللغات وكيفية تطورها مع اللغة العامة تأريخيا، مع ملاحظة حجم التطور المعرفي وحجم قدرة العقل البشري على الأنتاج المتراكم والإرثي في طبيعته، وعلى الرغم من ظهور لغات إشارات جديدة في العصور الحديثة، - إشارة نيكاراغوا اللغوية على سبيل المثال - قد يقدم تصورات عن المراحل التطويرية والعمليات الإبداعية ذات الصلة.
وفي نهج علمي آخر ستفحص أحافير بشرية قديمة معطياتها التأريخية من أجل رؤية آثار التكيف البدني في استعمال اللغة، في بعض الحالات يمكن أن يُستعاد الحمض النووي الصبغي للبشر المنقرضين، لبحث وجود أو انعدام الجينات ذات الصلة باللغة مثل جينات FOXP2 التي تعتبر غنية بالمعلومات المُفيدة، كذلك يقدم علم الآثار قرائن متعددة يستخلصها من السلوك الرمزي مثل ممارسة الشعائر المتكررة والتي تخلف أثرًا يمكن للآثاريين رصده وتوثيقه، وتستخدم هذه القرائن كحجج نظرية لتسويغ وجود الرمزية بعامة ً والانتقال منها إلى اللغات خاصة ، لكن يبقى المخيال العلمي الأستقرائي والأستنتاجي المعتمد على الحصول على أستقراءات تاريخيةً هو الطريق الأمثل من خلال البحث عن ربط ما بين اللغة في تطورها مع تطور الإنسان الطبيعي في وجوده.
النظرية العلمية الحقيقية التي تحاول فهم تأريخية اللغة وتطورها لا بد أن تعتمد على العلم بفروعه المهتمة مثلا باستخدام الأساليب الإحصائية لتقدير الوقت اللازم لتحقيق الانتشار الحالي والتنوع في اللغات الحديثة، ناقش نيكولاس Johanna Nicholas وهو لغوي في جامعة كاليفورنيا في بريكلي، في عام 1998 م أن التنوع في اللغات الصوتية عند الجنس البشري يجب أن يكون قد بدأ على الأقل منذ 100 ألف سنة، وتقدم التحليلات الحديثة في مجال اللغويات دعم قوي بأن استخدام التنوع الصوتي قد ظهر في وقت مقارب لتقديرات نيكولاس، التقديرات من هذا النوع ليست مقبولة علميًا لكن يدعهما تظافر القرائن في الأبحاث الجينية أو الدلالات الأثرية أو التاريخية وأدلة أخرى كثيرة تشير إلى أن اللغة نشأت في مكان ما في جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية في منتصف العصر الحجري.
وإن كان هذا الرأي له مبرراته الأركيولوجية لكنه يبقى أمرا في دائرة التخمينات الأفتراضبة لسبب بسيط جدا، أن أثار العالم القديم لم تكتشف كليا لتعطي جوابا محددا، والنقطة الأخرى أن كل المجتمعات البشرية في عصر ما قبل التأريخ خضعت لنفس التجربة الأولية في أكتشاف وتطوير اللغة بأعتماد نظرية الحاجة للتواصل والأرتباط الضروري والتي تتزامن مع الفترة التي نشأ فيها الإنسان العاقل، والجدير بالذكر أن ما يتوافق اللغويين عليه أنه لا يوجد هناك لغة بدائية (Primitive language) خاصة في كل مجموعة منفردة بخلاف اللغة البسيطة أو ما نسميها اللغة الكونية (Pidgins)، وأن جميع اللغات المتحدثة من قبل المجموعات البشرية الحديثة ذات دلالات تعبيرية متماثلة، على الرغم من أن هناك بعض الدراسات الحديثة توصلت إلى أن التعقيدات اللغوية تختلف في اللغة ذاتها وتختلف في ما بين اللغات الأخرى على مر التاريخ.
ثمة فرضية بحثية مركبة من عدة مصادر نظرية قد تكون أنبثقت من دراسات علمية سابقة تقول أن اللغة الأوليّة "للإنسان" أخذت في وقت مبكر في جزء منها شكل الإيماءات (الجسدية)، وفي في جزء آخر شكل المحاكاة الصوتية أي اللغة الإيمائية المتمثلة في ثنائية (الفرح-الحزن) مع الجمع بين طرائقها، وذلك لأن كل الإشارات الإيمائية (مثل تلك التي أظهرتها فصائل القردة المختلفة) لا تزال تحتاج لأن تكون حقيقية لتصبح أكثر اقناعا بشكل جوهري، وفي هذه الحالة ستزداد الحاجة لكل شاشة عرض متعددة الوسائط لترينا أثر تلك الإيماءات الحسية البدنية أو حتى الصوتية "الصراخ البكاء الضحك"، ليس فقط لإزالة الغموض عن معنى الإشارات ولكن أيضاً أن تمنحنا الثقة بمدى دقة كل إشارة وإدراكها بين فردين وصعودا.
ما تقترحه الفرضية هو أنه فقط عندما دخل التفاهم التعاقدي " التواصل المفهوم والمدرك بين أفراد المجموعة" حيز النفاذ على مستوى فهم المجتمع فإن الثقة في النوايا التواصلية قد أمكن قبولها تلقائيا، وذلك ما مكن "القرد الأعلى العاقل" في الآخر من التحول إلى صيغة افتراضية أكثر كفاءةً، وأصبح التعبير ليس مقبولا فقط بل ضروريا ومستعد للتحول والتطور طالما وجدت صيغة حقيقية لأسس التواصل، خاصة وأن الإشارات الإيمائية لا يمكنها في ظل ظروف أخرى أن تلبي حاجة التواصل والربط، خاصة في مجتمع عاش في ظل ظروف بيئية أحيانا تضطره لأستبدال الإيماء بالصراخ أو النداء أو أطلاق أصوات ما للتنبيه أو إدامة التواصل، فالإيماءات الجسدية قد تكون البداية الحقيقية والصالحة لوجود اللغة، ولكن عندما لا تجد لها مكانا أو ظرفا للتعبير عن حاجات ضرورية أو ملحة في غياب الأخر المفترض وجوده، صار البحث عن وسيلة أخرى أهم من البحث عن الأخر المطلوب.