القنفذ والثعلب أشعيا برلين


عبد الحسين سلمان
2022 / 1 / 19 - 14:47     

كارل ماركس هو القنفذ الأبرز . وفرانكلين روزفلت هو الثعلب المراوغ بلا هوادة.........السير أشعيا برلين


السير أشعيا برلين ( 1909 – 1997): Sir Isaiah Berlin
منظّر اجتماعي وسياسيً روسي بريطاني وفيلسوفً ومؤرخً.

ولد في ريجا (عاصمة لاتفيا Latvia الآن ) في عام 1909 ، وانتقل إلى بتروغراد ، روسيا ، في سن السادسة ، حيث شهد ثورات عام 1917.
في عام 1921 ، انتقلت عائلته إلى المملكة المتحدة .
قام بترجمة أعمال إيفان تورجينيف من الروسية إلى الإنجليزية ، وخلال الحرب العالمية الثانية ، عمل في الخدمة الدبلوماسية البريطانية. من 1957 إلى 1967 كان أستاذًا في Chichele للنظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة أكسفورد. كان رئيسًا للجمعية الأرسطية من عام 1963 إلى عام 1964. وفي عام 1966 ، لعب دورًا حاسمًا في إنشاء كلية ولفسون بأكسفورد ، وأصبح الرئيس المؤسس لها. تم تعيين برلين في عام 1946 ، وحصلت على لقب فارس عام 1957 ، وعُيِّن في وسام الاستحقاق عام 1971. وكان رئيسًا للأكاديمية البريطانية من عام 1974 إلى عام 1978. كما حصل على جائزة القدس لعام 1979 لدفاعه طوال حياته عن الحريات المدنية .

القنفذ والثعلب هو مقال للفيلسوف أشعيا برلين - أحد أكثر مقالاته شعبية لدى عامة الناس - نُشر في كتاب في عام 1953. ومع ذلك ، قال برلين ، "لقد قصدتها كنوع من الألعاب الفكرية الممتعة intellectual game ، ولكن تم أخذها على محمل الجد. كل تصنيف يلقي الضوء على شيء ما ". في الواقع ، تمت مقارنتها بـ "لعبة حفلة كوكتيل للمثقفين".

قبل ما يزيد على 2700 عام، كتب الشاعر الإغريقي "أرخيلوخوس" العبارة النثرية التالية:
إن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، ولكن القُنْفُذ يعرف شيئًا واحدًا كبيرًا .

... ببساطة، يقوم الثعلب بكل الحيل والاستراتيجيات الممكنة من أجل محاولة اصطياد القنفذ،
فقد يتسلل أو ينقض أو يسابق أو ينصب كمينًا أو يدعي الموت، فقط من أجل التمكن من القنفذ، ولكنه يفشل دائمًا في محاولاته، بسبب أن القنفذ قادر على القيام بحركة واحدة، ولكن على نحو ممتاز، هي حماية نفسه من خلال التكور بحيث يبدو من الخارج ككرة من الأشواك


أستغل أشعيا برلين , مفهوم المحاكاة الحيوانية من مقالة نُشرت في مجلة “Punch  ” البريطانية الساخرة (24 فبراير، 1954)، قسّم فيها جون باول (John Bowle ) العالم إلى “بوم” و”هررة” -مع اعتذار عن تداعي الأسماء بقصيدة “إدوارد ليرEdward Lear ” الشهيرة التي حملت ذات الاسم.
في حين يتميز بعض الأشخاص بكونهم كالبوم: “حُكماء، متوحشين أو منفصلين عن العالم”، ميّز باول Bowle الأخرين بكونهم “ثقيلي الحركة، منفوشي الزَّغَب أو مفترسين”

“يعرف الثعلب العديد من الأشياء، بينما يعلم القنفذ شيئًا واحدًا مهمًا”…. أرخيلوخوس” Archilochus
منذ اللحظة التي تعرّف فيها “أشعيا برلين”، المحاضر في جامعة أكسفورد، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى ذلك الشطر الغامض من قصيدة نثرية، كُتبت في القرن السابع قبل الميلاد، للشاعر اليوناني “أرخيلوخوس” Archilochus ؛ منذ تلك اللحظة، أصبح هذا الشطر بمثابة قاعدة طريفة تمكّن “أشعيا” وزملاؤه بواسطتها من تصنيف معارفهم: إما ثعالب وإما قنافذ.

وعلى الرغم من طرافة الأمر في البداية، إلا أن تلك القاعدة لم تفارق ذهن أشعيا برلين؛ بل قد صارت الدافع والمحرّك الرئيسي لمقالة بديعة عصيّة على التكرار، عن الكاتب الروسي: ليو تولستوي.
أنجز أشعيا المقالة في غضون يومين، وكان يفترض أن تُنشر تحت اسم “الشك التاريخي عند تولستوي” Lev Tolstoy’s Historical Scepticism ، ولكنها نُشرت تحت اسمها الفعلي “القنفذ والثعلب” باقتراح من الناشر جورج ويدنفيلد George Weidenfeld .
بالإضافة إلى بعض التحليل الذي أفرده “أشعيا برلين”، في المقالة، لرواية “الحرب والسلام”؛ تضمّنت المقالة -أيضًا- تفصيلًا للنظرية المقترحة من قِبله وتمييزًا بين النمطين؛ فبينما يملك :
نمط الثعالب شغفًا تجاه تنوع وتعدد الأفكار والفرضيات والآليات
the infinite variety of things
يميل نمط القنافذ إلى التعامل مع كافة الأمور من منظور أحادي مركزي شامل.
relate everything to a central, all-embracing system

انطلاقًا من هذا المضمون، وبنظرة نقدية متفحّصة لاحقة، نُدرك أن هذه النظرية لا تُعد -فقط- إحدى أذكى آليات تصنيف البشر طبقًا لقدراتهم، ولكنها تحكي -أيضًا- عن الطريقة التي يواجه بها كل من النمطين الواقع من حوله:
الثعالب -على سبيل المثال- تتسع مخيلتها لاستيعاب الكثير من المعلومات، مما يجعلها قادرةً على الإيمان بأن العالم من حولهم هو عالم متماسك، يخضع للعديد من الظواهر غير المفهومة التي لا تتناسب وحدود المساحة المعرفية التي يملكها كل منهم، ولذلك هم قادرون تمامًا على التأقلم مع الواقع ومواجهته .

في كتابه “حياة أشعيا برلين Isaiah Berlin: A Life, 1998 ”، يقتبس كاتب السيّر الذاتية “مايكل إيجانتيف Michael Ignatieff ” على لسان “أشعيا” ذاته ما يؤيد نظرية الثعالب في مواجهة الواقع:
“الكون الذي نعيش فيه يحوي من المعطيات أكبر مما نستطيع استيعابه، ونحن نعيش فيه وبواسطته، وتتجلى حكمتنا في الحياة بذاك القدر الذي نسمح به من التصالح مع تلك المعطيات أو التسليم بها.”
إما القنافذ:
فأنها لا تتصالح أبدًا مع العالم وتظل في نزاع دائم مع الواقع، وذلك لكون هدفها وطريقتها في التعامل معه تتضمن التركيز على شيء واحد كبير، وبتفصيل أدق -حسب كلمات إيجانتيف Michael Ignatieff -:
“تجاهد القنافذ وتسعى، دون كلل، لمنح العالم صفة الشمولية والتعامل مع الواقع بمنظور أُحادي؛ وعليه، بينما تتأقلم الثعالب بمرونة مع العالم وتعيش في سعادة، تعاني القنافذ طوال حياتها في سعيها الدائم لقولبته وتأطيره.”
تكمُن بطولة القنافذ في رفضهم للمسلّمات، وفي كونهم لن يخضعوا -ربما أبدًا- للقيود المُلزمة.

وتتعدى مقالة برلين الشهيرة مفهوم تصنيف حياة الحيوانات البرية . إلى دراسة الأنماط الشخصية الفكرية المتميزة للمبدعين، يصنّف برلين الشخصيات الفكرية على الشكل التالي:
نوع القنافذ:
• أفلاطون Plato
• دانتي Dante Alighieri
• نيتشه Friedrich Nietzsche
• دوستويفسكي Fyodor Dostoyevsky
• باسكال Blaise Pascal
• أبسن Henrik Ibsen
• مارسيل بروست Marcel Proust
• كارل ماركس

نوع الثعالب:
• شكسبير
• أرسطو
• هيرودوت Herodotus
• مونتين Montaigne
• بلزاك
• غوته
• جويس James Joyce

إما عن تولستوي، يعترف ( أشعيا برلين) لقد فقد السبل في إخضاعه للتصنيف.
ويتساءل “برلين”، في هذا الصدد، عما إذا كان تولستوي أحد أولئك الذين يتمتعون برؤية ذات أبعاد أحادية ( قنفذ) أو متعددة ( ثعلب)، وهل يتكون وعيه بتأثير مادة واحدة، أو هو مركّب من عناصر عديدة “غير متجانسة”؛ ويعترف إثر ذلك: “لا توجد لسؤالي هذا إجابة واضحة أو فورية.”
في رسالة إلى الناقد الأمريكي الأشهر”إدموند ويلسون Edmund Wilson ” عن تولستوي، يُلخّص “أشعيا برلين” مقالته ببساطة موضحًا:
(تولستوي الذي أعرفه جُبلت طبيعته ومواهبه على التصرف كثعلب، إلا أنه عاش طوال حياته مؤمنًا بنظرية القنافذ في العيش ومحاولًا أن يجعل نفسه واحدًا منهم. وهذا هو الخلل الواضح في شخصيته والذي يتجلى فعليًّا للجميع).
ولا يقتصر هذا “الخلل ” على تولستوي وحده؛ وإنما هو -في الحقيقة- تناقض عالمي، وذلك لكون الإنسانية جمعاء، بينما تحاول جاهدةً التصالح مع العالم كما هو بغموضه وصعوباته، هي -في الحقيقة- تتمنى الوصول إلى حقيقة بسيطة وموحّدة عن العالم تمنحهم تفسيرًا عميقًا ونهائيًّا ومُريحًا عن الوجود وعن كينونتهم.
حسب كلمات “إيجناتيف” Michael Ignatieff :
لطالما تعامل “تولستوي” بتهاون أو مرونة لا مُبالية تجاه كل العقائد، الدينية منها والعلمانية؛ غير أنه لم ييأس من أمنية التوصل يومًا لحقيقة كاملة وتفسير نهائي.
خُلّدت مقالة “برلين” لتمتعها بجميع مقوّمات التحفة التاريخية، وباعتبارها مباراة فكرية أشبه بالألعاب النارية المدهشة فجرّها عالم معاصر، وتحقيقًا تحليليًّا مذهلًا أثبت الزمان صدق فحواه؛ فالعالم، حقًا، في النهاية ينقسم ما بين ثعالب وقنافذ. وفي تعليق لـ “برلين” عن كتابه قال:
“يعتريني الآن مزيد من الأسف لكوني قد أطلقت علي كتابي اسم “القنفذ والثعلب”، ربما ما كان عليّ أن ارضخ لذلك الاقتراح”، معترفًا في نهاية الأمر بكونه هو ذاته ثعلبًا على الأغلب.”
أشار "برلين" إلى أن الثعلب حيوان أنيق وذو دهاء يسعى لتحقيق العديد من الأهداف والمصالح في ذات الوقت، ولكن بسبب هذه المجموعة الواسعة من الأهداف والاستراتيجيات، يصبح تفكيره متناثرا يفتقر إلى التركيز، لذلك لا يحقق الكثير على المدى الطويل .
في المقابل، القنفذ بطيء وثابت، وغالبًا ما يغفل الناس عنه أو يقللون من تقديره لأنه متواضع وهادئ. ولكنه على عكس الثعلب لديه قدرة مذهلة على تبسيط الأمور والتركيز على رؤية واحدة شاملة. هذا هو المبدأ الذي يحكم كل ما يفعله، والذي يساعده على النجاح رغم كل الصعاب .


ملاحظات

تحميل كتاب لقنفذ والثعلب ـ أشعيا برلين
https://www.blogs.hss.ed.ac.uk/crag/files/2016/06/the_hedgehog_and_the_fox-berlin.pdf

مقالة في صحيفة الجارديان البريطانية
https://www.theguardian.com/books/2016/aug/08/100-best-nonfiction-books-isaiah-berlin-the-hedgehog-and-the-fox-robert-mccrum

إدوارد لير (بالإنجليزية: Edward Lear)‏ (1812 - 1888 م). مؤلف وفنان إنجليزي، اشتهر بقصائده الهزلية الموجهة للأطفال. يُعدُّ ديوانه الأول كتاب السفاسف (1846 م) من روائع أدب الأطفال في الغرب. وقد أصبحت أشهر قصائده البومة والهريرة (1871 م) أثرًا أدبيًا من الطراز الأول. اشتهر لير بشكل خاص بأشعاره القصيرة المقفاة المسماة الخماسيات الفكاهية .

فرانكلين روزفلت:
شغل منصب الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة من عام 1933 حتى وفاته في عام 1945. روزفلت هو سياسي ديمقراطي، وفاز في أربعة انتخابات رئاسية متتالية وبرز كشخصية مركزية في الأحداث العالمية خلال منتصف القرن العشرين. قاد حكومة الولايات المتحدة خلال الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية. اعتبر قائدا مهيمنا على الحزب، وقام ببناء تحالف الصفقة الجديدة، وأعاد تنظيم السياسة الأمريكية في نظام الحزب الخامس، وأعاد تحديد الليبرالية الأمريكية خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين. وغالبا ما يصنفه الباحثون كأحد أعظم ثلاثة رؤساء أمريكيين، إلى جانب جورج واشنطن وأبراهام لينكون.