الرجل الذي لَم يَنَمْ جيدًا (1) رواية قصيرة مسلسلة


حسين محمود التلاوي
2022 / 1 / 17 - 21:30     

1
مع مقدم الليل، تزايدت حركة الناس والسيارات في شوارع وسط البلد؛ فافترش البائعون الجائلون الأرصفة ببضائعهم التي باتت تشمل كل السلع التي تقدمها المحال التجارية، بما في ذلك المشروبات، فيما راح المارة يتدفقون على الشوارع بحثًا عن تمشية رخيصة ومسلية في الوقت نفسه بعيدًا عن جدران البيوت التي تضيق بأهلها صيفًا؛ فينفلتون منها هاربين إلى الشوارع والطرقات، ولا توجد شوارع ولا طرقات في القاهرة أشهر من شوارع وسط البلد بأضوائها اللامعة.
وبمرور الوقت، تتزايد الحركة... حركة السير، والبيع والشراء، والتنزه... فها هو رجل يصطحب زوجته وأطفاله ليتناولوا وجبة وسط ما بين الغداء والعشاء في أحد المطاعم المنتشرة في كل أركان وزوايا المنطقة، وهذه مجموعة من الفتيات اللواتي أنهين عملهن في أحد محال الملابس بشارع قريب، وقررن أن ينلن نصيبهن من المرح، وهذه مقاهي شارع البورصة بما تحويه من شباب يتلبسهم الحس الثوري فيشعرون أنهم يستطيعون تغيير العالم عبر شاشات حواسبهم المحمولة، وهذان شابان فرا من مدرستهما الإعدادية المسائية المجاورة ليشاهدا ذلك الكيان المسمى "وسط البلد".
لكن كل هذا الجو من الحيوية والمرح والانطلاق والفرار والثورة لا يمكن أن يمر بدون ضجيج.
وبالتالي، لا نستطيع أن نلوم "إسماعيل"، إذا رأيناه يحث الخطى مقطب الجبين في سعيه للوصول إلى محطة مترو العتبة الواقعة غير بعيد عن مكان عمله في شارع البورصة.
لم يكن "إسماعيل" يستحق اللوم لعدم احتماله الضجيج؛ لأن الاستمرار في العمل داخل المقهى لمدة 24 ساعة في تقديم الطلبات للزبائن ليس بالأمر الهين.
نعم...
العمل لمدة 24 بما يعني أنه مستيقظ منذ أكثر من يوم كامل مما جعل جرس الإنذار يدق في جهازه العصبي؛ فقضاء كل هذه الفترة وسط صياح الزبائن بطلباتهم وضجيج مرحهم ولهوهم إلى جانب صوت التلفاز الذي لا ينام ليس بالأمر السهل، خاصة إذا ما أدركنا أنه بسبب قوة بنيته كان مكلفًا باستخلاص الحساب من الزبائن الليليين الذين يقضون الليل كله ساهرين في المقهى ولا يرغبون في دفع الحساب عند المغادرة. عندها، كان "إسماعيل" يتدخل للحصول على الحساب من هؤلاء الزبائن، وهو ما كان يصل في بعض الأحيان إلى حد الاشتباك البدني مع الزبون.
ولم يخرج "إسماعيل" خاسرًا في أي من هذه "المعاملات".
وبالتالي يمكننا أن نفهم السبب في أن "إسماعيل" صار على وشك الانهيار، وأنه كان يكاد يجري للوصول إلى محطة المترو متلهفًا لدرجة أنهم لو قالوا له إن الطريقة الوحيدة لركوب المترو هي "التسطيح"، لوافق بلا تردد.
ولكن الجري في منطقة مزدحمة مثل وسط البلد له تكلفته كذلك؛ فقد اصطدم بالعديد من المارة أثناء سيره المسرع هذا، وهي الصدامات التي كانت في غير مصلحة المارة بكل تأكيد.
لكن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ فعند إحدى النواصي الرئيسية، اصطدمت قدم "إسماعيل" بحزمة من الكتب التي وضعها بائع كتب يفترش تلك الناصية؛ فسقطت حزمة الكتب وسط بركة صغيرة من الماء تكونت وسط الرصيف.
انحنى "إسماعيل" محاولًا إنقاذ حزمة الكتب، وقد اكتسى وجهه بالسخط لهذا الموقف غير المتوقع، فيما قفز بائع الكتب من مقعده المجاور لفرشة الكتب، وهو يصيح في سخط:
"يا نهارك اسود... مش تفتح يا اعمى القلب والنظر إنت؟!".
واندفع محاولًا استخلاص حزمة الكتب من يد "إسماعيل" ليفصحها، ولكن يبدو أنه البائع تعامل مع يد "إسماعيل" بخشونة زائدة؛ فصاح فيه الأخير قائلًا في حنق:
"جرى إيه يعني؟! شوية كتب واتبلت مية، ودلوقت تنشف".
ولوح بيده في استهانة متابعًا: "سبهم في الهوا شوية ينشفو".
زادت الاستهانة من حنق البائع؛ فصاح وهو يمسك "إسماعيل" من ياقة قميصه:
"ينشفو؟! طب مانيش سايب أمك غير لما تدفع تمنهم؟".
اتقدت عروق "إسماعيل" بدماء الغضب، عندما سمع ذلك؛ فقبض بيد حديدية على يد البائع الممسكة بياقته، وقال في غضب هادر:
"ولازمتها إيه قلة الأدب دي؟!".
وراح يشدد من ضغطه على يد البائع، الذي احمر وجهه من الألم، ولكنه لم يفلت ياقة القميص من يده، وبدافع من الكبرياء، هوى بالأخرى على وجه "إسماعيل" بصفعة أضاء وهجها العالم أمام عيني الأخير للحظة، قبل أن يختفي الوهج خلف شياطين الغضب التي تقافزت أمام عيني "إسماعيل"؛ فارتسمت على وجهه نظرة قاسية تصاعدت بسببها العصارة المعدية في حلق البائع، قبل أن يهوي "إسماعيل" بيده الأخرى على وجه البائع، ليس بصفعة، ولكن بلكمة قاسية في عينه اليسرى، فانفجرت شياطين الألم في وجه البائع قبل أن يفلت ياقة قميص "إسماعيل"، ويضع يديه الاثنتين على عينه المصابة، وقد راح يصرخ في ألم هائل.
لكن "إسماعيل" لم يتوقف"، بل استمر ممسكًا بيد البائع بإحدى يديه، فيما راح يكيل اللكمات لوجهه باليد الأخرى حتى بدأت الدماء تسيل من وجه البائع، واحتشد المارة وهم يحاولون تخليص البائع من بين يدي "إسماعيل"، لكن الأخير لم يترك لهم فرصة، وراح يدفع المارة بمرفقيه، ثم حمل البائع، وألقاه فوق نافذة عرض زجاجية للمحل المواجه لفرشة الكتب؛ فحطم جسد البائع الزجاج، وسقط بداخله وسط الشظايا بلا حراك.
تعالت صرخات النساء اللواتي كن قريبات، بينما أسرع البعض نحو البائع في محاولة لإسعافه، وأحاط البعض بـ"إسماعيل" لمنعه من الفرار، ولم تمر لحظات حتى صاح أحد الذين أسرعوا نحو البائع قائلًا في هلع:
"يا نهار اسود... الراجل مات... الراجل مات".
تزايدت الصرخات، وتعالى الصياح، فيما أسرع البعض بالانقضاض على "إسماعيل" الذي لم يكن مستوعبًا لما يجري؛ فظل واقفًا مكانه بلا حراك حتى بدأ المحتشدون في الانقضاض عليه؛ فأسرع ينفضهم عنه لاكمًا هذا ودافعًا ذاك، ولم يلبث أن أدرك أنه لن يستمر في ذلك إلى الأبد؛ فأسرع جاريًا واندفع خلفه العشرات من المحتشدين؛ فأدرك مرة أخرى أنه واقع لا محالة فوقف في مكانه وراح يتلفت يمنة ويسرة بحثًا عن مهرب حتى رأى دراجة نارية تابعة لأحد المطاعم وقد أدار سائقها محركها لينطلق بها في توصيل أحد الطلبات؛ فاندفع "إسماعيل" دون تفكير ليطيح بالسائق بعيدًا، ويستقل الدراجة مستغلًا معرفته المحدودة بقيادتها، وينطلق بها في أقصى سرعة دون تحديد اتجاه معين.
توقف المطاردون في دهشة، وأسرع أحد عمال التوصيل في المطعم نفسه باستقلال دراجة أخرى سعيًا وراء "إسماعيل" للإمساك به واسترداد دراجة المحل، ولكن هيهات...
لقد اختفى "إسماعيل" وكأنما كان قطرة ماء سقطت على سطح ساخن.
ظل عامل المطعم يدور حول المنطقة كلها بالدراجة البخارية، دون أن يجده بينما جاءت سيارة شرطة لمكان الحادث إثر بلاغ من صاحب المحل المتضرر، وسرعان ما تلاشى الحشد البشري إلا قليلًا فور رؤية الناس لشعار الشرطة الرسمي؛ فمهما كان الفضول قويًّا، لن يكون بالقوة التي يمكن أن يدفع بها صاحبه للوقوف في مكان يمكن أن يصبح فيه تحت طائلة القانون، ولو حتى لأغراض الإدلاء بالشهادة!
لكن "إسماعيل" لم يختف، كما ظن عامل المطعم.
كان قد التف بالدراجة البخارية حول المنطقة وانطلق جاريًا بها من شارع 26 يوليو باتجاه نفق الأزهر، ولما عبر النفق، أوقف الدراجة، وهناك حاول أن يسير بهدوء ويتمالك نفسه بعد كل تلك الأحداث.
لكن الأمر لم يخف على ضابط الدورية الذي كان يجلس على مقدمة سيارة شرطة بعد مخرج النفق مباشرة؛ فأشار إلى واحد من مرافقيه العساكر نحو "إسماعيل". ومن فوره، انطلق العسكري وراء "إسماعيل"، ووضع يده الثقيلة فوق كتفه؛ فانتفض "إسماعيل" واستدار ليشاهد وجه العسكري الصارم، قبل أن يقول له العسكري بلهجة صعيدية ثقيلة:
"حضرة الظابط عايزك".
مرة ثانية، اتبع "إسماعيل" أكثر الغرائز بدائية، وهي غريزة الخوف، فلم يفكر مرتين وهو يلكم العسكري في أنفه، ويزيح يده الثقيلة، ويسرع نحو الدراجة البخارية ثانية، ويستقلها محاولًا الانطلاق بها. لكن الضابط لم يكد يرى ذلك المشهد، حتى مد يده إلى مسدسه، ولكنه لم يكن معلقًا في جانبه، وهو خطأ هائل كلفه عدة ثوانٍ حتى أحضره من داخل السيارة.
عدة ثوانٍ كانت كافية لكي يدير "إسماعيل" محرك الدراجة البخارية، ويندفع بها عبر طريق صلاح سالم نحو منطقة المقابر، وحاول الضابط في تلك الأثناء أن يطلق النار على الدراجة أو حتى على "إسماعيل" نفسه، ولكنه لم يستطع خشية إصابة أي من المارة أو السيارات المندفعة في طريق صلاح سالم؛ فخفض مسدسه في سخط، وأسرع نحو السيارة ليرسل إشارة بما جرى، وقد تبين له عدم إمكانية استخدامها لمطاردة "إسماعيل" الذي صار عكس الاتجاه.
وعندما جاء العسكري إلى سيارة الشرطة، راح ينظر في خيبة أمل الذي عنفه قليلًا، قبل أن يعيد النظر إلى الاتجاه الذي سار فيه "إسماعيل" بالدراجة البخارية قبل أن يغيب في ظلام الليل.
******