قطار الليل نحو لشبونه


محمد فرحات
2022 / 1 / 17 - 09:55     

أن يقرأ فقرة من كتاب بلغة غريبة، فيقرر أن كاتبها ما كتبها إلا له، فيقرر التوقف عن إكمال روتين حياته، يترك كل شئ، يذهب يبحث عن كاتب تلك الفقرة التي قلبت حياته وغيرتها تماما، يبحث عنه في حياة كل من عاش معه، هل تبدو فكرة رواية قطار الليل للشبونة خيالية نوعا، هل بحثك عن شغف ما قد يأسرك بين ما يقارب الستمائة صفحة. ولكما قررت أن تغلق الرواية ولا تعود إليها، تراك تعاودها وتزيل ما علق بها من غبار آثار ملل ينمو كطحالب خضراء بين جنبات سلم رطب مهجور...
رواية "قطار الليل نحو لشبونة." للفيلسوف الفرنسي باسكال مرسييه، رواية ساكنة ليست متحركة، تدور حول نصوص كتبها أحدهم بكتابه يحكي تجربته ومحنته، لم يكن البطل في الحقيقة يبحث عن الكاتب أو ملابسات ما كتبه، بقدر ما كان يبحث عن نفسه هو ذاته.
وحينما تكشفت ذاته لذاته فقد حياته وداعي وجودها، حينما تلبس بالمعرفة الحقيقة فقد قدرته على الاستمرار بالحياة ذاتها.
لم يكن أماديو برادو الطبيب الفيلسوف الثائر بأحد المنظمات اليسارية ضد ديكتاتورية حكم سالازار الرهيب، في حقيقته غير موندوس جريجوريس عالم اللغات الميتة الممل والذي لم تطق زوجه رتابة حياته فهجرته لتعيش مع غيره.
لم تكن تلك العلاقات الطارئة على حياة موندوس غير صور مما تمنى أن يتلبس بها طيلة حياته.
تحول النص الروائي لفيلم سينمائي رائع يأخذك بعيدا لتتفحص تلك الكهوف الغائرة بنفسك تكلله اقتباسات فلسفية لبسكال مرسييه حول الذات البشرية وتباينها حيال الوجود الثابت المراقب بصمت سادر في تأمل مصائر البشر ومآلاتهم.
والفيلم بطولة الممثل البريطاني المخضرم الذي لم ينل ولو قدر يسير من الشهرة التي يستحقها هوليوديا جيريمي إيرنز يؤدي الدور الرئيسي في الفيلم ـ كما هو في الرواية ـ لمدرس تاريخ لغات سويسري ـ ريموند غريغوريوس ـ يلتقي صدفة فتاة برتغالية تحاول الانتحار من على جسر قرب مدرسته، فينقذها وتختفي تاركة كتابا غريبا يلفت انتباهه ويشكل كل قصة الفيلم.

أغلب التصوير الخارجي في البرتغال، وبعضه في سويسرا وهناك تصوير في ألمانيا بالطبع (بلد الانتاج).

الكتاب لطبيب برتغالي متوفى شارك في المقاومة ضد ديكتاتورية حكم سالازار، لكن أفكاره أثارت اهتمام المدرس السويسري، فترك مدرسته وسافر إلى لشبونة للبحث عن المؤلف وحكايته.

في الفيلم ثلاثة أطباء، الطبيب أمادو دا برادو (يؤدي دوره الممثل البريطاني جاك هستون) بطل الحكاية وابن قاض رفيع المستوى في برتغال سالازار، ورفيقه في الدراسة والنضال جورج، غريمه في حب بطلة الحكاية والمقاومة ستيفانيا سبينوزا (تلعب دورها الممثلة الفرنسية ميلاني لوران) وهو طبيب صيدلي.

والطبيبة الثالثة هي طبيبة العيون ماريانا (تؤدي دورها الممثلة الألمانية مارتينا غيديك) التي تعالج المدرس في لشبونة، وعمها المسن هو الضلع الرابع في خلية المقاومة مع أمادو وجورج وستيفانيا.

أماديو الطبيب الذي أراد ان يكون كاتبا ولم تجعله مهنة الطب مقاوما شرسا مثل رفيقه جورج يتمرد على أرستقراطية أبيه وإن تعلق بأخته (التي جمعت مذكراته بعد وفاته ونشرتها في الكتاب محور القصة) وتحبه ستيفانيا فتفرق بينه وبين رفيق عمره ... ويموت بسبب حالة صحية يعاني منها تؤدي إلى انفجار شريان في مخه.

تبقى كلماته بالنسبة للمدرس السويسري أكثر من أي شئ آخر، ويبقى نبل ممارسته للطب لدى أخته التي لا تعتبره متوفيا، ويبقى إخلاصه للصداقة وللمقاومة عند رفيقه جورج ويبقى حبه الطاغي لدى ستيفانيا.

عقدة الفيلم الفلسفية حين ينقذ الطبيب (المقاوم سرا) رئيس البوليس السري مينديز بعدما هاجمه متظاهرون وكادوا يفتكون به، فيلومه رفاق المقاومة بعنف ويحاول الدفاع بأنه طبيب مهمته "ألا يتألم الناس" وليس قتلهم.

حفيدة منديز ـ الذي عرف باسم "جزار لشبونة" ـ هي التي اكتشفت الكتاب في برن بسويسرا وكادت تنتحر لينقذها الأستاذ غريغريوس ويبدأ رحلة الفيلم بحثا في السياسة والحب والفلسفة.

تصوير يبدو تقليديا، لكن بروعة ممتعة، تضفي عليه طبيعة مواقع البرتغال التي اختيرت للتصوير حالة تمزج بين الماضي والحاضر من خلال الحارات والبيوت والبحر والمناطق المفتوحة.

رغم السياسة والفلسفة وقلة "الأكشن" إلا أن الفيلم لا يصيبك بالملل، وتكتشف فيه أشياء إنسانية بسيطة وفي غاية العمق في آن.
ويظل أروع ما في الفيلم موسيقاه للألمانية الرائعة آناتي فوكس، سيناريو وحوار أوليريش هيرمان إخراج بيل أوجست.
هي دعوة لمشاهدة الفيلم وقرائة الرواية س